fbpx

الخمينية والأقليات الإيرانية: سياسة إحراق الأرض ومعضلة “التفريس” أو القتل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تخوض الأقليات صراعاً محموماً منذ الثمانينات لرفع قبضة الولي الفقيه عن حقوقهم. وضمن الاحتجاجات الفئوية المتكررة تحفر الأقليات لنفسها مسارات عدة للمطالبة بحقوقها التاريخية والثقافية والاجتماعية. كما هو الحال في احتجاجات أعوام 1999، و2009، و2017.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تفاقم سياسات النظام الإيراني أوضاع الأقليات الدينية والقومية، التي تعاني من التهميش والقمع المتواصلين. ومع استمرار السياسات التمييزية والخطاب الرسمي التعبوي، انبعثت ميكانيزمات داخل نظام الحكم تؤدي بتلقائية إلى عزل الأفراد، ونبذ الفئات الضعيفة.
وهذه الأوضاع المأزومة تبرز مركزية الحكم الشمولي، والتي صنعت في مقابلها أو بالأحرى على تخومها مساحات هامشية قلقة في وجودها الاجتماعي، بخاصة مع غياب التمثيل السياسي (لبعض الأقليات) وعدم الاعتراف بحقوقهم.
وثمّة قرارات إجرائية مباشرة، منها الخطط الاقتصادية والتنموية، المتسببة في إفقار مناطق الأقليات القومية والدينية والعرقية والإثنية، بما يؤدي إلى تشكيل بيئة مواتية لظهور مقاومة عنيفة ثم نزعات انفصالية، مزمنة، وليست موقتة أو عرضية. وتحتج هذه الفئات على التناقضات القائمة بفعل آليات التراكم المالي لدى الأوليغارشية الحاكمة.
كما أنّ نظام الحكم الأيدولوجي، القائم على مبدأ “الولي الفقيه”، لا يتسع خياله السياسي لأيّ انزياحات من جماعات أو تنظيمات تسعى لاقتسام السلطة، أو الحصول على مكتسباتها التاريخية.
فالتعاطي الأمني الخشن مع الجماعات المعارضة، إنّما يكشف عن طبيعة الصراع وحدوده في عقل النظام الضيق والمحدود. فالأطر السياسية التي تسمح بإدارة التنوع تبدو غائبة ومغيّبة بأدوات وآليّات السلطة عن عمد.
يكاد لا يختلف وضع الأقليات بإيران منذ إخفاق الدولة البهلوية في تحقيق مشروعها الحداثي، مطلع القرن الماضي. والثابت أنّ مشروع الحكم الاستبدادي، سواء في نسخته المعلمنة في فترة شاه إيران، أو في نسخته الدينية بعد صعود الملالي للحكم، قد نجم عنه غياب الحقوق المدنية والمواطنية، واستمرار النزاع بين المكونات الاجتماعية.


وأسّس الإمام الخميني لهذا الوضع قبل اندلاع الثورة الإيرانية، عام 1979، تحديداً أثناء وجوده في العاصمة الفرنسية باريس، عندما شرع في إعداد الصيغة الأوليّة للدستور الإيراني. تولى هذه المهمة حسن حبيبي، النائب الأول لرئيس الجمهورية إبان الثورة الخمينية. بينما نجح مع آخرين في عمل صيغة لم تكن نهائية لمسودة الدستور.
عكفت لجنة مشكلة من خمسة فقهاء دينيين على مراجعة هذه المسودة، وتدوين ملاحظاتهم النهائية لجهة تمريرها. وتؤبد هذه النسخة، بحمولاتها الأيديولوجية، تصورات منغلقة حول القضايا الحقوقية والحريات.
وفي المقابل، أقر دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أنّ الدولة تخضع لسلطة رجال الدين، وذلك على أساس الوصاية والولاية الدائمة. إذ نصّ الدستور الإيراني على أنّه “لا يحق الحكم إلا للفقهاء العدول الأتقياء، الذين يعرفون بحيازتهم هذه الصفات حصراً، وينبغي أن يكونوا ممن يحوزون رتبة مرجع”.
ووفق المادة الثانية عشرة من الدستور ذاته، فإنّ “الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الإثنى عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير”.
وعدّ الدستور “الزرادشت واليهود والمسيحيين، هم وحدهم الأقليات المعترف بها”.
وهنا، لمّح الأكاديمي والمفكر اللبناني، عبد الغني عماد، إلى جملة تناقضات في بنية دستور الجمهورية الإسلامية. فيقول إنّ المادة 26 نصّت على السماح بتكوين الأحزاب والجمعيات والهيئات السياسيَّة وأنّها تتمتع بالحرية، بما فيها ما يخص الأقليات الدينية، ولكن “بشرط ألا تتناقض مع الوحدة الوطنية وأسس الجمهورية الإسلامية والقيم الإسلامية”.
كما نصّت المادة 27 على جواز عقد الاجتماعات العامة وتنظيم المسيرات على أن لا تكون “مخلَّة بالأسس الإسلامية”. غير كل هذه الحقوق المدسترة ظلت في إطارها النظري، بل تمت تصفيتها من مضمونها بالقوانين التي تشكلت لاحقاً.
إذاً، حقوق الأقليات تبدو ملتبسة في كل الصياغات التي وردت بالدستور، وفق ما ذكر المفكر والأكاديمي اللبناني في كتابه: “حاكمية الله وسلطان الفقيه”. مع الوضع في الاعتبار أنّ القوانين نجحت في تضييق مشاركة غير المسلمين في الجمهورية الإسلامية، وإضعاف دور المرأة السياسي والمدني، فضلاً عن المنتمين للمذاهب الإسلامية غير الجعفرية.
التصعيد المباشر تجاه الأقليات بلغ درجاته القصوى مع رسالة الخميني المعروفة بـ”تحرير الوسيلة”، والتي ذكر فيها: “تؤخذ الجزية من اليهود والنصارى، من أهل الكتاب، وممن لهم شبه كتاب، وهم المجوس.. فلا يقبل من غير الطوائف الثلاث، إلا الإسلام أو القتل”.

إقرأوا أيضاً:


لكن العالم الأنثربولوجي، جون ريكس، في دراسته المعنونة بـ”الأقليات العرقية والحكومة الوطنية”، يرصد أنّ المجموعات الأقلوية التي تنخفض حدة المواجهة بينها وبين النظام الإيراني هي، فقط، التي لها تمثيل سياسي في البرلمان، مثل المسيحية واليهودية والزرادشتية.
والمحصلة، فإنّ القيم السياسية التي تفرض حالة تطييف مجتمعي وتعمد إلى تخصيص المجال العام، تؤدي إلى عزل المواطن وتغييبه قسراً في غيتوهات أمنية ومذهبية تحجب عنه الحقوق المدنية. وتزداد وطأة هذه الأمور بالتزامن مع عسكرة النظام، في الفترة الأخيرة، لا سيما مع صعود الجناح المتشدد والراديكالي في مؤسسات وأجهزة الدولة.
وفي ما يبدو أنّ هناك سياسات إفقار متعمدة تجاه الأقاليم ومناطق الأقليات، والتي تعد السبب المباشر لنشوب الاحتجاجات، كما الحال في إقليم خوزستان (الأحواز)، وغالبيته من العرب، والمصنف ضمن أكثر المناطق الغنية بالموارد الطبيعية والحيوية، كالمياه النفط.
ومن بين السياسات التي تؤثر في البنية التحتية لمناطق الأقليات، مشروع تحويل مجرى الأنهار (وبناء سدود ضخمة خلفها) إلى داخل المدن ذات الكثافة السكانية الفارسية، كما هو الحال مع نهر كارون الذي يصب في شط العرب ونقله مياهه إلى مناطق وسط طهران. وهذا المشروع المسمى “بهشت آباد” باللغة الفارسية ويعني “الجنة الزهراء”، تتولى تنفيذه مجموعة “خاتم المرسلين”، المؤسسة الاقتصادية التابعة للحرس الثوري.
وتقع المحافظات الجنوبية في إيران، ومنها بلوشستان، تحت وطأة كوارث بيئية كالفيضانات والجفاف والتصحر على خلفية الإدارة السياسية السلبية للموارد المائية، فضلاً عن هجرة مجموعات كبيرة من العرب الأحواز والأكراد والبختياريين من مناطقهم.
ومع احتدام المواجهات بين المحتجين وقوات الأمن الإيرانية، في النصف الثاني من العام الماضي، في مناطق عدة في الأحواز، بسبب هذا المشروع الذي يستهدف التغيير الديمغرافي في المنطقة، ذكرت وكالة “فارس” التابعة للحرس الثوري أنّ هناك شبكات إعلامية خارجية تقوم بتعبئة المواطنين وتحريضهم. وزعمت أنّها “بنشر خبر إصدار ترخيص المشاريع الجديدة لنقل مياه كارون وكذلك تجفيف نهر الكرخة وهور الحويزة حاولت هذه القنوات إثارة الفوضى والاضطرابات عبر تحريض الناس”.
وقبل عام، وثق التقرير الرسمي الصادر عن الخارجية الأميركية حدوث “حالات ممنهجة” بحق الأقليات، منها الغياب التام لحقوقهم السياسية والثقافية والاقتصادية، بالإضافة إلى الحقوق الدينية. وقد أشار التقرير الأميركي إلى أنّ ذوي الأقليات الدينية ممن ينتمون إلى قوميات أخرى، غير فارسية، يخضعون لسياسات “التفريس”.


وفي المقابل، يحظر على مختلف الأقليات تداول لغتها المحلية، أو ممارسة أيّ طقوس اجتماعية ودينية تبرز هوية أفرادها أو وثقافتهم، ما يعني إهدار تراثهم وخصوصيتهم.
ملمح آخر في تعامل الملالي مع ملف الأقليات لا يختلف عن مجمل سياساتهم التي تراوح بين الضغط والابتزاز والمرونة، الموقتة، أحياناً في ما تمكن تسميته بـ”الاعتدال الزائف”. فمع وصول حسن روحاني للحكم، عام 2013، انعطف ظاهرياً تجاه ملف الأقليات، بصورة تبدو مغايرة (وبراغماتية)، والذي لطالما خضع لتأثيرات الاستحقاقات الانتخابية. إذ ظهر، على نحو مباغت، منصب مساعد الرئيس لشؤون الأقليات. وصعد إلى المنصب المستحدث علي يونسي وهو وزير سابق للاستخبارات والأمن القومي.
وعليه، سمحت طهران، للمرة الأولى، للأرمن بتنظيم وقفة رمزية أمام السفارة التركية بالعاصمة طهران، لإحياء الذكرى المئوية لمجزرة عام 1915. ورافق روحاني في زيارته الأولى للجمعية العامة للأمم المتحدة، في نيويورك، عضو البرلمان الإيراني اليهودي الوحيد سيامك مره صدق.
كما تمّ تعيين سامية بالوشزاهي السنية والمنتمية لأقلية البلوش محافظةً لإحدى المدن الإيرانية. وامتد الأمر ذاته مع تعيين سفير كردي من الطائفة السنية، هو السفير صالح أديبي في دولتي فييتنام وكمبوديا.
لكن هذا التغيير، الطارئ والعرضي، لم يدم طويلاً أمام مقاومة التيار المحافظ والمتشدد القريب من المرشد الإيراني علي خامنئي، وسرعان ما عادت الأمور إلى سيرتها الأولى.
وتخوض الأقليات صراعاً محموماً منذ الثمانينات لرفع قبضة الولي الفقيه عن حقوقهم. وضمن الاحتجاجات الفئوية المتكررة تحفر الأقليات لنفسها مسارات عدة للمطالبة بحقوقها التاريخية والثقافية والاجتماعية. كما هو الحال في احتجاجات أعوام 1999، و2009، و2017.
وجميع هذه الاحتجاجات التي تنضم لها قطاعات متفاوتة، تصطف ضد التوجيه السلطوي المدعوم بقيم دينية مؤدلجة توفر العصمة والقداسة للنخبة الحاكمة، التي تروج لخطاب ثقافي متشدد، فضلاً عن نمط رعائي تمييزي.

إقرأوا أيضاً: