fbpx

هذا ليس توريثاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

السؤال عن بديل للزعامة الجنبلاطية يفترض أن يسبقه سؤال أبسط عن مبرر وجود هذه الزعامة وما يشبهها من زعامات عائلية في عالمنا. لا جواب عن هذه الاسئلة غير العودة الى تخلف البنية الاجتماعية والسياسية وبقاءها رهينة الولاءات المتوارثة. جواب ممل لسؤال أكثر إثارة للملل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أبناء السياسيين الفائزين حكماً في الانتخابات البرلمانية اللبنانية في أيار (مايو) المقبل، يشكلون هدفاً سهلاً للمعترضين على ظاهرة التوريث التي  تحتل جزءاً رئيساً من المشهد السياسي اللبناني، لكن الاعتراضات لا تلبث أن تختفي أمام تسليم قدري بحق الوراثة وارتداء الورثة عباءة الزعامة الطائفية أو الجهوية التي يتركها لهم المورثون.
أكثرية الجيل الجديد من الورثة السياسيين يحملون شهادات جامعية بعضها من الغرب. وهم بذلك يشبهون قسماً مهماً من الشباب اللبنانيين الذين لم تجتمع فيهم العناية بالتحصيل الأكاديمي بالاهتمام بالانتماء الى العصر. ذلك أن الشهادة العلمية لا تعني في لبنان الا رخصة لمزاولة مهنة ما، أو معرفة تقنية بمجال محدد من دون أن يكون هناك رابط بين العمل في مجال عصري وحديث وبين تبني قيم العصر. لا يشكو بلدنا من ندرة المتعلمين الذين نالوا أعلى الشهادات من جامعات عالمية، وعادوا الى لبنان لينضموا الى طوابير حملة المباخر لزعامات تعود الى القرون الوسطى، إن لم يكن بالتحدر النسبي في اتباع التقاليد والمفاهيم التي وصلت إلينا من تلك الايام.
بهذا يكون الورثة الذين سيستقبلهم المجلس النيابي بعد شهور قليلة، مجرد استمرار للواقع القائم وانعكاس دقيق للقسم الأكبر من المجتمع اللبناني المتمسك بمضمون ولبّ النظام الطائفي وان ادعى امتعاضه منه. والاعتراضات الصادرة عن جماعات تود ان يراها الآخرون كنماذج عن حداثة ما، لا تفيد كثيرا في رسم صورة البديل المقترح. على سبيل المثال، ما هو بديل الزعامة الجنبلاطية التي يجري تناقلها بالوراثة منذ مئات الاعوام. بل ان قوى اليسار اللبناني وفي ذروة نفوذها، أصرت على تولي وليد جنبلاط ليس رئاسة الحزب التقدمي الاشتراكي فحسب، بل أيضاً قيادة الحركة الوطنية اللبنانية بعد اغتيال كمال جنبلاط. فاجتمع في هذه الحركة ممثلو اليسار الجديد الذين ينسبون انفسهم الى التجارب الاوروبية اليسارية الرافضة للتكلس الشيوعي التقليدي، وممثلو أحزاب تطالب بحرب الشعب طويلة الامد، بوريث آل جنبلاط الجديد الآتي الى السياسة بعد تجربة قصيرة في الصحافة. فكان محسن ابراهيم وجورج حاوي من أشد مؤيدي ترؤس وليد جنبلاط “للعمل الوطني”.
السؤال عن بديل للزعامة الجنبلاطية يفترض أن يسبقه سؤال أبسط عن مبرر وجود هذه الزعامة وما يشبهها من زعامات عائلية في عالمنا. لا جواب عن هذه الاسئلة غير العودة الى تخلف البنية الاجتماعية والسياسية وبقاءها رهينة الولاءات المتوارثة. جواب ممل لسؤال  أكثر إثارة للملل.
هذا النوع من التسويات بين الإرث الاقطاعي العائلي، وبين مزاعم الانتماء الى الحداثة السياسية، والذي يقدم كنوع من الواقعية السياسية و”الريل بوليتكس” يعكس في واقع الأمر الصعوبة الشديدة التي يواجهها أي عمل سياسي لا يأخذ في الحسبان رسوخ الزعامات التقليدية وقوتها. بل إن أسراً لم يمض زمن طويل على مغادرتها أصولها المتواضعة، غلب لديها النزوع الارستوقراطي وراحت تصر على أن يعاملها جمهورها وباقي الطبقة السياسية كواحد من “البيوتات” السياسية التي “لا يجوز اغلاقها”، وإلا كسفت الشمس وانتصب الميزان. ذلك أن السياسة في لبنان ليست منفصلة عن عالم الاعمال والاقتصاد المعتمد بدوره على الوراثة الاسرية وعلى علاقات الدم والقرابة. ولا يندر ان يرث “الجيل الجديد” كرسي الجيل الأقدم في مجلس النواب، وعضويته في مجالس إدارة مصارف وشركات استيراد وتصدير.
يتفق هذا الواقع تماما مع ركود الحياة السياسية في لبنان وتعفنها وبلوغها مرحلة التكرار الدائم لذات الافكار والاراء التي لا تستطيع تصور اي شيء يتعلق بمستقبل لبنان او بكيفية خروجه من مشكلاته المستعصية. فباستثناء المشروع الذي يحمله “حزب الله” العامل على قضم مواقع السلطة الفعلية والرمزية وفرض “ثقافته” اضافة الى مرشحيه ونوابه، ليس هناك ما يمكن أن يحمل اسم المشروع السياسي في لبنان، سيان كان يمينيا او يساريا. وجاء اخفاق الثورات العربية، ليعمق حال الجمود المبني على توزيع الخوف وتقنينه بين الطوائف.
والحال إن الورثة لا يعتدون على تركيبة سياسية حديثة وعلى مؤسسات قائمة على الكفاءة والمعرفة والأهلية الذاتية، بل هم الأكثر تمثيلاً لمجتمع يدور منذ عقود في حلقة مفرغة من الممارسة السياسية الباهتة. الاعتراض عليهم مثله مثل الاعتراض على البنية والممارسة المذكورتين، مجرد رأي أفراد سيهزم في أي منازلة مع الجماهير المؤمنة بزعيمها.
قبل عقود رسم رينيه ماغريت غليوناً وكتب تحته “هذا ليس غليوناً”. يحق لنا القول قبل الانتخابات النيابية “هذا ليس توريثاً”.
[video_player link=””][/video_player]