fbpx

“ثمة مدن كبيروت تغرّب سكانها…”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

معروف عن اللبنانيّين بعد انتهاء الحرب، أنّهم لا يزالون في خضم بحث مستمرّ عن مدينة ضائعة، أو مدفونة، كما يعرف عنها في التاريخ، مدينة فوق أنقاض مدينة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

دائما ما تنسى المدن زواريبها، تلك الحيوات المهجورة التي يعبرها الغرباء مصادفة. ما نعرفه عن الأزقّة هو أنّ لا أحد يسكنها، لأنّها ليست سوى ممشى بين مبنيين، كما أنها لا تفضي إلّا إلى طريق مغلق، أو إلى حيّ سكنيّ شعبي، مبانيه شبه متلاصقة.

في “زاروب العليّة” في منطقة عائشة بكّار، يتمّ تأجير المنازل موقتاً، للعمال المهاجرين واللاجئين من ذوي الدخل المنخفض، ما يؤدي إلى تكثيف الكتلة السكنية والمساهمة في تدهورها المادي. لا يزال الكثير من المستأجرين وأصحاب الأعمال في “زاروب العليّة” محميّين بقانون الإيجارات القديم. يتوقّع هؤلاء الأفراد تعويضا عن الإخلاء بينما ينتظر المطورون العقاريّون تنفيذ قانون 2017 الذي يلغي التعويض.

عام 1977 تمّ التخطيط لبناء طريق عام يعبر من داخل المجمّع السكني، إلّا أنّ خطّة تنفيذه لا تزال معلّقة حتّى الآن، لأن السلطات العامة تحظر أنشطة مثل الإصلاح أو التحديث أو بيع القطع المخصصة للمصادرة.

“لقد تآكلت الجدران بحكم الوقت”. تقول إحدى العائلات اللّبنانيّة القاطنة في “الزّاروب”. “لمدة خمسين سنة، منعونا من إصلاح بيوتنا أو بيعها بسبب إشارات الاستملاك ووضع اليد على العقارات”. في الباشورة كما في رأس النبع كما في “كامب هاجين” وغيرها من المساكن التي تمّ هدمها بالكامل لتحويلها إلى أبراج بهدف الإستثمار والرّبح. 

في الخندق الغميق تعيش عائلة سوريّة مع عائلات أخرى في مجمّع سكنيّ مكوّن من 9 مبان قديمة و5 ساحات خالية هي مجمّعات سكنيّة دمّرتها المضاربات العقارية. معظم المباني هناك تحمل آثار العنف نفسها وشقوقاً خلّفتها الحرب الأهليّة، إضافة إلى آثار حريق اشتعل في الحيّ عام 2000، وطبعاً أضرار ناجمة عن انفجار مرفأ بيروت. تظهر في أحد المباني أضرار هيكلية شديدة وشقق مدمرة هي الآن مخلّفات من زمن الحرب.

“عندما توفي المالك استمرت زوجته في تحصيل الإيجار على مدى 5 سنوات. ثم حاول أطفاله طردنا. يقول لاجئ سوريّ يعيش مع عائلته في أحد تلك الأبنية المتاعية. “لم يكن من العدل أن يطلبوا منا مغادرة هذه الشقة، لقد احتلوا شقّة في شارع الحمرا طوال الحرب الأهليّة وحصلوا على تعويضات لمغادرتها. كانوا يأتون لطردنا مجانًا! من أعطاهم الحقّ بطردنا؟”.

“ثمّة مدن تحتضن غرباءها، وثمّة مدن كبيروت تغرّب سكّانها”. تجيب أستاذة الدراسات الحضريّة وإحدى المشرفات على بناء منصّة “تداعي الحيوات – أحوال السّكن المجهولة” منى فوّاز عند سؤالها عن الطبيعة العمرانيّة لمدينة بيروت.

تشير فوّاز إلى أنّ عبارة “أحوال السّكن المجهولة” المذكورة في عنوان الدّراسة، توضح أنّ ثمّة من تمّ استبعادهم لكي يعيشوا خارج جغرافيا المدينة. “إنّ المسبّب الأساسي لهذا الطّرد هي سياسات هدم المباني التي كانوا يقطنونها واستبدالها بمبانٍ جديدة تستهدف فئة اجتماعيّة ميسورة أكثر من الناحية الماديّة”.

يوثّق “مختبر المدن” قصص هؤلاء. قصص المهجّرين قسراً، وعلاقتهم مع المجمّعات السكنيّة والمخيّمات التي أجبروا على العيش فيها والتكيّف مع إمكاناتها الحرجة. ليس هذا وحسب، تظهر المنصة أيضا أنماط العوز والاكتظاظ السكاني، وتتابع مخلفات التطوير العقاري فيما لا يقل عن 200 مبنى كما مخلفات 7 طرق عامة وعشرات الطرق الصغيرة التي تم تخطيطها خلال فترة الحداثة. إضافة إلى عجز السكّان عن تحمل تكاليف المعيشة الأساسية والتهجير والإخلاء…

عندما كان رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، ينظر في سبل إصلاح مبنى مجلس العموم الذي دمَّرته القنابل الألمانيّة أثناء الحرب العالميّة الثانيّة، قال: “إننا نقوم بتشكيل مبانينا، وبعد ذلك تقوم هي بتشكيلنا”.

إنّ تصميم حياة النّاس هو أمر شائع في علم النفس المعماري، فشكل العمارة بإمكانه أن يعكس حالة قاطنيها النفسيّة والصحيّة وتؤثّر فيها لتصبح مطابقة تماماً للحياة فيها.

أمّا في علم الأعصاب فثمّة شرح واف لخريطة عمل الدّماغ، إذ يفهم الهيكل العصبيّ أهمية المساحات الخارجية والطبيعيّة من أجل حسن سير العمل في المخ.

تلهم الهندسة المعمارية الهدوء كما تلهم القلق. بهذا المعنى، تتعامل العمارة العصبية مع مفاهيم وقواعد معماريّة دقيقة مثل ارتفاع الأسقف وانخفاضها، ومثل أنّ الغرفة ذات الأبعاد المربعة أو المكعبة تظهر كأنها في حالة سكون، كما أنها إن لم تصمم بشكل جيد فستبدو بليدة وبلا معنى. من هنا تبدأ المباني بتشكيل ذوات السكّان، وهذا تماماً ما قصد تشرشل قوله.
بحسب القيّمين على الدراسة إنّ هذه التحولات تؤدّي إلى انتشار أوجه التداعي السكني حيث يصبح السعي وراء الربح جزءاً لا يتجزأ من نسيج المدينة، ما يفرض على سكانها في جميع الأحوال ظروفاً معيشية متدنية ويعرضهم لخطر الإخلاء بصورة شبه دائمة.

يتجلى مفهوم “تداعي الحيوات” في بيروت اليوم في عدد لا يحصى من المجموعات السكنية التي يتوقف وجود السكان فيها على إنذارات إخلاء مؤجلة ويعتمد سكنهم على ترتيبات موقتة وحيث تمضي الحياة على وتيرة من القلق من تصدع جديد.

بعد نهاية الحرب الأهليّة اللّبنانيّة ساهم تعديل قوانين البناء وعوامل الإستثمار بتحويل مدينة بيروت إلى ورشة إعادة إعمار. قضى المطوّرون العقاريون بسبب مشاريع عمرانية حديثة ومربحة، على النسيج الحضري للمدينة الذي كان قائما آنذاك.

تقول منى فواز إنّ بيروت لم تبن لكي تساعد الإنسان، بل بنيت بهدف طرده منها. بإمكان أيّ مهندس معماري أن يشرح ببساطة مدى تأثير الشكل المعماري على حياة السكّان، وكيف أنّ التصدّع الذي يطرأ على البنية المعماريّة، ينسحب إلى داخل البنية العصبيّة للبشر، ويؤدّي إلى زعزعة الأمان الاجتماعي لديهم. على هذا النحو تبنى علاقة الإنسان بالمدينة، أيّ أنّ مصير المواطنين يصير مشابها لحياة الجدران التي تحيط بهم. إنّ ذاكرة السكّان المكانيّة لا تعمل جميعها على النحو نفسه. يتمتّع المهجّرون قسراً بعكس غيرهم من السكان بذاكرة مكانية قصيرة الأمد. يعتادون ألّا يعتادوا الأماكن والذكريات فيها، ولا يستطيعون حفظ أيّ من التفاصيل الصغيرة التي تحيط بهم، ولا حتى أجزاء من الأمكنة التي ينعكس إليها الضوء. يختفي المكان فور رحيلهم عنه. ينتهي الإنسان إذاً عندما يتحوّل إلى غريب عن أمكنته.

معروف عن اللبنانيّين بعد انتهاء الحرب، أنّهم لا يزالون في خضم بحث مستمرّ عن مدينة ضائعة، أو مدفونة، كما يعرف عنها في التاريخ، مدينة فوق أنقاض مدينة. 

كان هذا مدخلاً لفلسفة تؤصّل لفكرة الخوف في أذهانهم، الخوف من هشاشة ما يعيشونه في الوقت الحالي، ومن أن هذا الوجود معرَّض للاختفاء كما حدث في أزمنة سابقة، وفي لمح البصر.

عندما يعبر سكّان مدينة أزقّتها لعقود من الزمن، يزداد احتمال اختفائها مع الوقت، ليس لأنّ دعساتهم كانت قويّة بما فيه الكفاية لكي تتسبّب بمسحه، بل لأنّ المجمّعات السكنيّة الضيّقة تعدّ الهدف الأمثل لشركات التطوير العقاري، والمضاربات التي قضت على المدينة قبل الإنسان.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.