fbpx

“انتحاريّون” في قاعات الامتحان في سوريا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يكن صديقي يعلم، أن الشّخص الّذي كان يقدّم الامتحانات بالنّيابة عنه، يعمل ضابطاً في فرع الأمن السّياسي. وهذا كافٍ على ما أعتقد، لنخمّن في أيّ معتقل، “يعيش” زياد الآن، إذا كان لا يزال على قيد الحياة!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

دخل صديقي زياد (21 عاماً) وهو طالب في كليّة الهندسة الكهربائيّة،  إلى الغرفة التي نتشاركها معاً ضمن السّكن الجامعيّ في دمشق، وبسعادة واضحة،  أُخرج من جيبه خمسة قطع نقدية من فئة الألف ليرة سوريّة، ليضعها أمامي ويهمس بصوت منخفض: ” خمستالاف ليرة بساعة ونص”. كان ذلك المبلغ يعادل تقريباً في وقتها أكثر من ثلاثين دولاراً.  وحين سألته مستفسراً أكثر عن طريقة حصوله على هكذا مبلغ، أخبرني أنّ ذلك سرّ، مكتفياً بالقول: “الله يخليلنا الشغل بالميّ السخنة”.

الفوضى في سوريا خارج دائرة الحرب العسكريّة

بينما كان النّظام السّوريّ خلال سنوات الحرب، مشغولاً بالجانب العسكريّ، مركّزاً جلّ اهتمامه على معاركه واقتحام المدن السوريّة ليعيد سيطرته عليها بعد أن فقد أكثر من 70 في المائة منها في معظم المناطق، كانت مناطق سيطرته في المقابل، وخاصّة بين عامي 2013 و 2016  تغرق في فوضى لا حدود لها، فوضى على كافة الأصعدة، في الحياة الاجتماعيّة، والمؤسسات التجارية والتعليمية والصّناعية. ومثلما كان للنّظام السوري، قادةً عسكريّين يديرون حروبه، كان له أيضاً، رجالاً يعملون تحت حمايته المباشرة وغير المباشرة، يديرون الفوضى في الحياة الاجتماعية ضمن مناطق سيطرته، بدءاً من ترويج المخدرات وصولاً إلى عمليّات استصدار شهادات جامعيّة مزوّرة وأوراق خاصة بالإعفاء من الخدمة العسكريّة، وذلك كلّه، كان مقابل مبالغ طائلة من المال. أمّا بالنسبة لزبائن هذه العمليات المشبوهة فقد كانوا من الطلاب الجامعيين في مختلف المدن السورية.

طلاب جامعيين: أعمال مشبوهة

يتوجّب على غالبية الطلاب السوريين، بعد أول يوم لهم في الجامعة، إيجاد عمل مسائيّ بعد الدّوام، يؤمن دخلاً إضافياً للمصروف الممنوح من الأهل، وهو أمرٌ شائعٌ، حتى قبل الحرب، وما تبدّل خلال الحرب، هو نوع الأعمال الّتي بات يتوجّب على الطّالب مزاولتها. بدلاً من العمل ليلاً كنادل في مطعم، براتب زهيد، كان التطوّع مع الجيش “كجنديّ طالب” يؤمّن أجراً مغرياً، بالإضافة إلى امتيازات أخرى، منها تبريرات الغياب والتجاوزات الخاصّة الّتي تمنح لهم في الجامعة. الكثير مِمَن أعرفهم تركوا جامعاتهم وانصرفوا إلى القتال، ومنهم من قُتل فعلاً في جبهات المعارك. 

هناك أعمال أخرى خارج النظام العسكري، كان الطّلاب الجامعيّون يزاولونها باعتبارها أقلّ خطورة، ليحصلوا على مقابل مالي يعينهم على إكمال تعليمهم، وكانت ميزة هذه الأعمال أنها ضمن المحيط الجامعي، وتُسمّى بأسماء غريبة وذات رمزيّة معيّنة كي لا تثير الشّبهات في الأحاديث العامّة، كأن يقول أحدهم إنّه يشتغل “بالورق الابيض” كإشارة منه إلى العمل بالتّزوير، أو مثلاً، تسمع أن فلان بيشتغل “بالميّ السّخنة” (الماء الساخن).

السكن الجامعي دمشق 2014:  شو يعني ” الشّغل بالميّ السّخنة”؟

كانت المرّة الأولى الّتي أسمع فيها بهذا المصطلح، عندما دار الحديث بيني وبين صديقي، الّذي أخبرني بعد إصرار مني، أن هذا المصطلح يُطلق على عمل ، ينشط في مواسم الامتحانات بكل مراحلها، الجامعيّة وامتحانات الشّهادة الثّانوية.  

يعتمد هذا “العمل” على تزوير بطاقات امتحانات بأسماء وهميّة، ليقوم أشخاص معيّنون، بتقديم الامتحانات نيابةً عن أشخاص آخرين، هم في الأصل خارج سوريا، أو قد يكونون في الدّاخل، لكنّ أوقاتهم وظروفهم لا تسمح لهم بالذّهاب إلى الجامعة وتقديم امتحاناتهم بأنفسهم. وكانت الفئة الأبرز من هؤلاء، تنتمي إلى  الضباط والعسكريّين، الّذين يرغبون في الحصول على شهادات في الحقوق تدعم مسيرتهم السياسية دون الحاجة للذّهاب إلى الجامعة إطلاقاً، إذ تصلهم الشهادات إلى منازلهم.

وكان اللّافت جدّاً، أنّ تلك الأعمال تقوم على ثلاثة أمور، أبرزها “الظهر مسنود” بالإضافة إلى ” سمّاعة أذن بلوتوث” و” شخص انتحاري”.

وبطبيعة الحال، عرفت من خلال الحديث، أنّ صديقي هو “الشخص الانتحاري”، حيث تعتمد مهمّته في العمل على “قوّة قلبه”، لأنّ عليه أن يقدّم امتحانات عن أشخاص آخرين ببطاقات مزوّرة بعد أن توضع صورته على بطاقة تحمل اسم شخص غيره، وقبل دخوله القاعة، يضع داخل أذنه سمّاعة تتصل بالبلوتوث، كانت تُسمّى “الطلقة”، يتمكن من خلالها سماع صوت شخص يتّصل به من الخارج، يتولى مهمة حل الأسئلة وتلقينه الأجوبة، ومقابل كل مادة يخاطر فيها صديقي يحصل على 5000 ليرة سورية. أما صاحب البطاقة الحقيقي فينجح في الامتحانات بمعدّلات عالية.

شهادات “بالمال” أو بالتّشبيح

انتشر خلال الفترة ذاتها العمل بـ”الورق الأبيض” أي التّزوير، لأنه  في الأصل، يُعتبر الجزء الأهم “للشغل بالمي السخنة” حيث أن موضوع “تزوير البطاقات الامتحانيّة ” يعتمد عليه بشكل مطلق. وأدى انتشار هذه الأنواع من الأعمال المشبوهة والخارجة عن القانون لكنّها بطريقة ما تبدو تحته، خاصة في المؤسسات الجامعيّة، إلى توسيع دائرة تصنيف نوع الشّهادة الجامعيّة السّوريّة في البلدان الأخرى. فبعد أن كانت تصنف بين حكوميّة وخاصّة، في إشارة إلى أنّ الشهادة الخاصّة مشكوك في مصداقيّتها كونها ليست مجانية . ظهرت في السّنوات الأخيرة مصطلحات جديدة مثل “شهادة علاقات” و”شهادة سمّاعات” حيث تعتمد الأولى على العلاقات مع أشخاص في الدولة (خارج الجامعة) وباتصال واحد من مسؤول كبير، تحصل على الشهادة التي تريدها. وتعتمد الثانية  “شهادة السّمّاعات” على حيتان التجارة بـ”الميّ السخنة” التي لم يُعرف إلى الآن مصدر هذه التّسمية، والتي يرجّح انها تعود إلى عبارة أن النجاح ليس كـ”اختراع المياه السخنة”، للدلالة على ان النجاح ليس معقّداً وصعباً إلى الدرجة التي يعتقدها البعض.

الجدير ذكره، أنّ هذه الأنواع وغيرها من الأعمال المشبوهة والخطيرة، كانت منتشرة بشكل مرعب في تلك الفترة. وذلك بطبيعة الحال، ليس إلّا نتيجة حتميّة، للفساد الّذي تديره عصابات تابعة لرجال في الدّولة، قادرة على تبرئة نفسها من أيّ مُساءلة قد تتعرّض لها، من خلال تقديم “كبش فداء” يكون هو نفسه ذلك الطّالب المسكين، الّذي دفعته الحاجة والعوز للخوض في أعمال كهذه، حيث يشجّع نفسه بعبارات داعمة يوهمونه بصدقها، كأن يقولوا له “نحن بظهرك” أو “نحن الدّولة” في حال كان الطّالب متردّداً وخائفاً. لكن للأسف، في كلّ موسم امتحانات، كان يُكتشف أمر الكثير من الطّلاب المتورّطين فيها، وكان  ينتهي بهم المطاف إمّا مُعتقلين أو مخطوفين أو مُلاحقين، وعلى أقل تقديرٍ، مفصولين من جامعاتهم. بينما المشغّلون، مستمرّون في تلك الأعمال إلى يومنا هذا، وربّما على مستويات أعلى.

صديقي زياد، الّذي لم يكمل العمل معهم لأكثر من فصل امتحانيّ واحد، اختفى في ظروف غامضة، بعد صدور نتائج المواد الّتي قدّمها أوّل مرّة. وتعدّدت الرّوايات حول اختفائه، وكان أبرزها، أنّ صديقي ظلّ يوهم الشّخص الّذي يعمل معه، طيلة فترة الامتحانات، أنّه يدخل إلى القاعات، وينجز مهمّته المطلوبة منه.

 بينما في الحقيقة، كان يجلس في حديقة الجامعة. منتظراً انتهاء الوقت المخصص للمادة الامتحانيّة. ليعود إلى الغرفة في السّكن الجامعيّ، وفي جيبه خمسة آلاف ليرة.

للأسف، لم يكن صديقي يعلم، أن الشّخص الّذي كان يقدّم الامتحانات بالنّيابة عنه، يعمل ضابطاً في فرع الأمن السّياسي. وهذا كافٍ على ما أعتقد، لنخمّن في أيّ معتقل، “يعيش” زياد الآن، إذا كان لا يزال على قيد الحياة!

إقرأوا أيضاً: