fbpx

“بيتِك ثمّ بيتِك وبعدين مهنتِك”:
ما الذي يجعل شيرين غالب وأخريات يُفكرّن بهذه الطريقة؟ 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت أشهر جملة في خطاب الجيل الجديد من النسويات في مصر: “آن الأوان للتخلص من عقود من القهر، والماضي المظلم الذي لفّ حياة النساء”. لكن الطبيبة شيرين غالب لها رأي آخر، فلماذا؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“كلمة للطبيبات اللي متخرجين النهار ده، بيتك ثم بيتك، وبعدين مهنتك، أوعي حد يقول لك مهنتك قبل ولادك، أوعي، حضرتك لو قعدتي في بيتك في مليون طبيب بره هيعالج، لكن لو سبتي ولادك ملهمش غير أم واحدة هو أنت”. 

بحرارة وإصرار أوصت الطبيبة شيرين غالب نقيبة أطباء القاهرة في حفلة تخرج في أسيوط، الطبيبات المتخرجات باختيار تخصصات لا تأخذهن من رعاية المنزل. بدت وصية الطبيبة نقيضاً لكل ما تحمله ثقافة تشجيع الفتيات والنساء على التعلم وخوض غمار العمل والاستقلال المادي.

كان طبيعياً أن يثير موقف طبيبة في موقع مسؤولية مثل شيرين غالب نقاشاً حاداً، بين المحافظين والمتدينين الذين أعلنوا تأييدهم المطلق لموقف غالب الداعي لجعل منزل المرأة أولويتها المطلقة، وبين الليبراليين واليسار والنسويات من جهة أخرى، الذين اعتبروا تصريحات غالب تكريساً لتنميط النساء وحصرهن في الأدوار المنزلية وإبعادها من المجال العام.

لكن يبقى السؤال هو لماذا تقارب سيدة وصلت إلى أعلى المستويات المهنية في مجالها واقع المرأة بهذه الطريقة؟ 

حراك في حقل ألغام

على مدار أجيال متعاقبة، كانت المرأة المصرية تُولد في بيئة تحدد معالم أنوثتها: الطاعة والانتماء للعائلة والرعاية والإيثار، وتُحدَّد محطات حياتها وفقاً لهذه المقومات، فمن ابنة مطيعة إلى شابة مهذبة إلى زوجة وَفيّة ومُدبِّرة إلى أُمٍ تجمع أسرتها حول المائدة وتنكر ذاتها من أجل أطفالها.

 خلال هذه الرحلة المليئة بالتضحيات تجد المرأة الكثير من العزاء المتمثل في شعورها بالرضا عن نفسها لعطائها الدائم (أو هكذا صُوّر لها)، والأمان لمعرفتها دورها و تيقنها من ماهيتها و الوفاء بمقتضياتهما معاً.

لكن، ما كان لهذه الصورة أن تبقى في ظل التحولات العنيفة التي يشهدها العالم، فأجيال ما قبل الثورة من النساء (الثمانينيات و التسعينيات والعقد الأول من الألفية) عشن في عالم مختلف عما نحياه الآن (حيث يعد الحديث عن حصرية رعاية الأنثى للمنزل أمراً مرفوضا في الغالب أو محل جدال على الأقل) وبمنطق مختلف قائم على أن أعباء المنزل هي شأن تشاركي بين الشريكين وأفراد العائلة وليس عملاً بلا مقابل تقوم به النساء حصراً كما هو حاصل في مجتمعاتنا.

لم تعد الأجيال الجديدة من النسويات تقبلن بحصرية تمحور الأدوار حول الذكر والتقوقع في البيت ليكرسن أنفسهن من أجل الآخرين على طريقة أمينة في رواية نجيب محفوظ “بين القصرين“، بل أردن تحقيق الأمان الاقتصادي عبر التعليم والعمل المأجور، وهي أيضا مؤهلات للعثور على شريك أفضل، ودعم الوضع المالي للأسرة بعد الزواج.

وعبر الخطابات المنثورة في المجال العام منذ أوائل الثمانينيات حتى أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة، عبّرت العديد من النساء عن رغبتهن في المساواة مع الرجال في المجال العام، ورعَت هذا الخطاب العديد من الجمعيات والمنظمات التي اندرجت تحت ما كان يسمى وقتها بـ”النشاط النسائي”.

وتنامت رغبة الاتجاه النسائي في تفادي الهجمات الأصولية، إذ تمكن التيار الإسلامي من تسييس قضية المرأة. ففي ظل انتشار البطالة، بالتزامن مع انخفاض الأجور، وعودة العمالة المهاجرة، إلى جانب ازدحام وسائل المواصلات قدَّم الإسلاميون حلاً لتلك المعضلة: عودة المرأة إلى المنزل، لإفساح المجال للرجال الذين جرى اعتبارهم مسؤولين وحدهم عن توفير دخل الأسرة، فيما اعتبر عمل النساء رفاهية هدفها إرضاء نزعاتهن لتحقيق الذات من دون فائدة حقيقية للمجتمع.

وبالتالي كان مجرد وجود النساء في الشارع محل ارتياب، وحضورهن في المجال العام محل شك على نطاق واسع، في ظل تنامي خطاب عزل المرأة عن الحياة العامة، وبالتالي لم يكن أمام نساء تلك الأزمنة سوى التحايل على تلك الخطابات عبر التزام السقف الديني للمساواة وحمل مسؤولية الأعمال المنزلية، للحفاظ على المكاسب العامة التي حصلن عليها عبر سنوات طوال. 

بعد ساعات العمل الطويلة التي تقضيها النساء العاملات في الخارج، تنتظرهن قائمة المهام المنزلية، فيما يعجز الرجل عن المساعدة أو يرفضها، لأنه لا يبالي بها ببساطة، فقد عُزِل الرجال عن هذه الأعمال، بحكم التقسيم الجندري للعمل، فظل البيت “مملكة المرأة” حصرياً.

وحتى النساء اللاتي يتمكن من إقناع أزواجهن من المشاركة في الأعباء المنزلية لا يردن من أزواجهن أن يظهروا وهم يؤدون أعمالاً “تنتقص من رجولتهم”، فيمكن أن يشاركوا في إعداد الطعام، إلا أن رجلاً لم يُر في شوارع القاهرة وهو يجمع الغسيل من الشرفة حتى لو تآمرت السماء على ملابسه بزخات مطر مفاجئة، وبالتالي كان على النساء أن يعطين الأولوية لمتطلبات بيوتهن، وإلا تفككت تلك البيوت.

أما التطور النقيض نحو رفع السقف الأيديولوجي وتدشين خطاب نسوي تماماً، فيرتبط بتطور المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ووكالات التمويل الدولية، وتدخلهن في النشاط النسائي في مصر والذي أسفر عن تغليب العنصر الراديكالي في الحركة النسائية الذي تمحور اهتمامه حول المسألة الجنسية، بعد أن كان بمثابة أقلية معزولة داخل الحركة النسائية ككل.

وجاء ذلك في ظل ضعف المنظمات المستقلة، وتضعضع الهيئات النسائية الملحقة بالأحزاب السياسية بفعل ضعف هذه الأحزاب، وقد رفع هذا الجناح الراديكالي السقف الإيديولوجي إلى أقصاه، وأصبح خطاب المساواة الكاملة حاضراً في المجال العام وليس مجرد نشاز كما كان الأمر قبل الثورة.

إنَّ أمرأةً تعطي لهي جميلةٌ بالطبع!

تمثل شيرين غالب هذا الجيل من النساء، الذي وصل الآن إلى العقد الخامس من عمره والذي جرى إعداده منذ الصغر على أنه ناظم شمل الأسرة والمسؤول عن صناعة مواطنين منتجين و أسوياء، وعن تسيير الحياة اليومية للأسرة وتوفير التمويل اللازم للمناسبات الاجتماعية، والسيولة لشراء الأجهزة التي تتطلب مبالغ كبيرة.

فنساء ذلك الزمن كنّ هنّ المخطط الاستراتيجي للأسرة، وهنّ من حقق جزءاً كبيراً من التراكم الذي تنعم به الطبقة الوسطى حالياً، فشراء قطعة أرض أو استثمار المال في عقار كان تخطيطاً نسائياً في أغلب الأحوال، حتى لو كان من يتخذ القرار هو الرجل، بعد إقناع وإلحاح من الزوجة دونما ملل.

فبينما كان الرجال يعطون زوجاتهم جزءاً من الراتب ويبقون على بعضه بغرض إنفاقه على السجائر ونفقات المقاهي اليومية، أو يعملون في وظيفتين إحداهما لتأمين مستلزمات المنزل والأخرى لـ”الكيف” (الاستمتاع الشخصي)، كانت النساء الأكفاء تحاولن تدبير أمورهن بالقليل مع إدخار شهري لا ينقطع عبر ما عُرِف بـ”الجمعية” وهي نشاط اقتصادي تعاوني لم يعد موجوداً إلا في بعض الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وبشكل غير منتظم.

ولا يعني هذا أن أسر الطبقة الوسطى لم تكن تهتم بأكثر من سد الاحتياجات الأساسية، ولكن كان لديها شخصيتها، وإدراكها لموقعها من العالم، وتصوّرها الدقيق عن نمط الحياة التي تريد العيش فيه في الغالب. 

عفريت المقاومة في خرابة القهر

كانت أشهر جملة في خطاب الجيل الجديد من النسويات في مصر: “آن الأوان للتخلص من عقود من القهر، والماضي المظلم الذي لفّ حياة النساء”. 

يتضمن هذا الخطاب تصنيفا لسنوات الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من الألفية بأنَّها “أسود أيام النساء” حيث الذكورية في ذروة تمددها مع الاختلال الكبير للتوازن بين الرجال العائدين من الخليج محلمين بالمال والنساء الفقيرات، بينما تحاصر الصحوةُ الإسلاميةُ المرأةَ بأشراك منصوبة بعناية من غرفة النوم إلى باص الجامعة، وبالتالي حُرِمَت النساء في عقود الظلام تلك من البزوغ في سماء المجتمع، وفقاً للسردية النسوية الليبرالية الحالية. 

لكن الواقع لا يحابي أي أيديولوجيا جيدة أو سيئة؛ إذ حضرت النساء في كافة مجالات الحياة العامة من الفن إلى الشركات، مرورا بالأكاديميا، ولعبن أدوارا محورية، لكن لماذا أصبح الميراث من الحضور والمشاركة غير مُقدّر؟ 

يعود ذلك بالأساس إلى أن النساء المتحققات في تلك الفترة لم يرينَ أنفسهن “نماذج” أو ممثلات عن نوع اجتماعي على كتفه تاريخ من المظالم ويروم تصفية الحساب، مثل نسويات ما بعد الثورة، بل رأين أنفسهن “أفراداً”، فلم يكن يحركهن خطاب إيديولوجي، بل طموح شخصي ومتطلبات طبقية، ويمكن استشفاف ذلك من خطاب شيرين غالب.

هذا الخطاب يلخص ارتكاز مخططات نساء الطبقة الوسطى، بالتحديد، على إعطاء الأولوية للنساء في المسؤولية عن الأسرة وهو ما تعترض عليه النسويات الليبراليات حالياً، اللاتي يعتبرن أن أكثر الأمور سوءاً في العالم هو أن يصبحن مثل أمهاتهن اللاتي منحن “الحب دون حدود والتضحية وتجاهل الذات من أجل الأطفال”.

ولنطرح سؤالاً بعيداً قليلا عن المسألة لكن إجابته تسمح لنا بفهم ما يحدث: أيهما أكثر كفاءة في الأعمال المنزلية: نساء المقاومة الصامتة في “عقود الظلام الذكوري” أم نسويات الحدود القصوى؟ 

إقرأوا أيضاً:

تشير التجربة التي يلاحظها كل مهتم بالحياة الاجتماعية في مصر إلى أن الأمهات الحاليات أردن لبناتهن مستقبلاً أفضل منهن، فأعفينهن من الأعمال المنزلية كلياً أو جزئياً خلال سنوات الدراسة، ومنعنهن من التسوق حتى لا يتعرضن للمضايقات، ومن العمل في الوظائف المتدنية لانتمائهن إلى طبقة وسطى تبني رأس مالها الاجتماعي على استغناء بناتها عن العمل الشاق والمتدني القيمة.

وبالتالي كان على الأمهات القيام بالجانب الأكبر من الأعمال المنزلية مع إسناد بعض المهام للفتيات على سبيل التعليم، أو المساعدة في أوقات استقبال الضيوف، وكان عليهن إنفاق كامل مدخراتهن في المنزل حتى لا تضطر بناتهن إلى العمل أثناء الدراسة.

لكن، لأن استجابة فتيات الطبقة الوسطى حالياً لخطابات المساواة أعمق وأشد حدة من أمهاتهن العاملات، اللاتي ظللن أقل مكانة من الرجل واستقلالاً منه، فلم تعد هذه الخطابات النسوية تُبثّ عن طريق أعمدة الرأي في الصحف والكتب التي ينشرها رموز الحركة النسوية بل أصبحت مبثوثة في كل جوانب الحياة اليومية من السوشيال ميديا إلى برامج التوك شو. وأصبحن ينكرن على أمهاتهن إيثارهن المبالغ فيه من أجل الأسرة، وانشغالهن عن أنفسهن وخضوعهن للزوج، وإفلاسهن، بعد أن فقدن مدخراتهن على تدبير أمور المنزل لسنوات طوال.

لكن قليلا من التدبر المشوب بالإنصاف يجبرنا أن ننظر بتعاطف مع النساء اللاتي أنفقن الشطر الأكبر من حياتهن في سبيل أسرهن، حتى لو كانت تصوراتهن عن السلوك الأنثوي وما يجب أن تكون عليه الأنثى ومصادر مكانتها في البيت (العمل المنزلي وتربية الأطفال) تقليدية وظالمة للغاية، فتصورات نساء تلك الأزمنة، ومنها يأتي خطاب شيرين غالب، اللواتي حاربن في سبيل التعليم والعمل وفرض احترام المرأة وإثبات كفاءتها، دون التشبث بخطاب نسوي واضح وحازم، تعد جزءاً من تاريخنا وتطورنا الاجتماعي والفكري والأخلاقي ولا يجب أن نتعالى عليه.

شيوع خطاب نسوي وعلى نطاق غير نخبوي، كما كان الأمر دائماً، يعتبر رحلة جديدة تماماً للمرأة المصرية وليس لها معالم في الطريق، وبدأ يستفز رِدّة ذكورية قد تكون عاصفة في المستقبل، لكن الثابت الوحيد في تلك الرحلة أنه لولا تلك التضحيات الأمومية الأسطورية بالذات، لما تسنى لبنات الجيل الحالي أن يصبحن نسويات أبداً.

إقرأوا أيضاً: