fbpx

تجريف حديقة أنطونيادس: استكمال “المجزرة” العمرانية في حق  الإسكندرية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الإسكندرية لم تعد كما كانت… وبدلاً من الاحتفاء بها كوجه من وجوه الحضارة المصرية التي لم يجُر عليها الزمن، يرى أغلبُ سكانها أنه يجري تدميرها وإحالتها إلى مدينة “مودرن” عادية كأغلب المدن المبنية حديثاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فوجئ أهالي الإسكندرية بأعمال تجريف في حديقة أنطونيادس إحدى أبرز معالم مدينتهم الأثرية، وهي حديقة تاريخية، وقد بدأت عمليات التجريف باقتلاع الأشجار ، وانتشرت صور 

الجرافات التي باشرت العمل فعلا.

 الصور التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، أثارت الغضب والحنين معًا، والحزن المستمر على ما تم تدميره في الإسكندرية تحت ذرائع مختلفة لكن خلاصتها منح القوات المسلحة امتيازات وقطع أراضٍ جديدة، إما لإقامة مشروعات استثمارية تابعة لرجال أعمال، أو للقوات المسلحة، التي استملكت الكثير من حزام الكورنيش المطلّ على شاطئ المتوسط وأحالته إلى “كافيهات” تحجب الرؤية. 

التطوير الشامل بيد “جهة غير معلومة”

أنشئت حديقة أنطونيادس الأثرية خلال عهد البطالمة، الذين حكموا الإسكندرية (عاصمة مصر في ذلك الوقت) بدءًا من العام 285 ق.م، لتصبحَ من أقدم الحدائق على مستوى العالم، وحفلت بزخارفهم وتماثيلهم ومجسّماتهم وفنون الزراعة التي جلبوها من بلادهم، وظلّت الحديقة مستقرة، يعتبرها الاسكندريون واحدة من علامات التنوع الحضاري لمدينتهم، حتى اختفى أحد التماثيل البطلمية منها قبل سنوات. 

 لم يكن اختفاء التمثال حدثًا كبيراً حينها إذ لم يلاحظ كثيرون ما جرى ولم يثر الأمر أزمة، حتى أصبحت الحديقة بالكامل مهدّدة. تسرّبت صور للجرافات تدخلها، وتدهس الجنائن، والأرضيات الخضراء، وتقلّم الأشجار النادرة وتزيل بعضها، دون إعلان أو بيان رسمي. 

استاء كثيرون بسبب تاريخ طويل من انتهاك تاريخ المدينة وآثارها، حتى صدر تصريح حكومي يؤكد أن ما يجري هو “تطوير شامل للحديقة وتهذيب لأشجارها لتنموَ بشكل سليم مع بناء أسوار جديدة”. 

كان التصريح لتهدئة الجمهور السكندري الغاضب والقلق على مكتسباته التاريخية وذكرياته، قبل أن يكتشف المتابعون تحديد منطقة داخل الحديقة وإغلاقها بأسوار وتخصيصها للقوات المسلحة دون توضيح ما سيحلّ بها. وأعقب ذلك الحديث حول تفاصيل مشروع تطوير حديقة أنطونيادس، ليكشف السكندريون أنه بالفعل سيُفقد الحديقة طابعها الأثري، لاحتوائه على “إقامة أنشطة ألعاب مائية في البحيرة الصناعية وممشى سياحي وملاعب كرة قدم وسلة، ومساحات لإقامة المعارض، ومقاهي، وقاعات لإقامة الحفلات”. 

تدخل الحديقة الأثرية، بهذا التطوير، ماكينة استغلال جميع الموارد المعنوية وغير المعنوية لتدرّ دخلًا وتصبح قابلة للاستئجار مهما طغى ذلك على طبيعتها التاريخية أو التراثية أو البيئة، فالحديقة تعتبر، إلى جانب كونها مكانًا شاسعًا للترفيه، إحدى رئات الإسكندرية، التي توفّر لها هواءً نقيًا في ظل ما تمرّ به المدينة من آثار التغير المناخي والاحتباس الحراري.

لم تكن النية لـ”استغلال” حديقة أنطونيادس في أغراض ربحية وليدة اللحظة، فقد طالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قائد المنطقة الشمالية العسكرية، خلال افتتاح أحد المشروعات السكنية في الإسكندرية نهاية عام 2018، بتحصيل مستحقات الدولة من حدائق أنطونيادس والشلالات والحديقة الدولية وإلا فسخ عقودها. لم يُفتح الحديث حول تلك الحدائق مرة أخرى، فظن الجميع أن الأمر أصبح طي النسيان، إلا أن بدء العمليات كان مسألة وقت، وتحويل أنطونيادس إلى مشروع ربحي بدا أنه فكرة اختمرت في عقل السيسي منذ أن كان قائدًا للمنطقة الشمالية العسكرية بالإسكندرية قبل انتقاله إلى جهاز المخابرات الحربية في عهد الرئيس الأسبق، حسني مبارك.

عادة، يجب أن يمر تطوير أي حديقة عامة أو تراثية أو أثرية بمراحل، تبدأ بتحديد الجهة التي يسند إليها التطوير عبر مزايدة، للوصول إلى أفضل العروض، وفق الشروط التي تحددها لجنة التراث في جهاز التنسيق الحضاري، إلا أن الحكومة لم تطرح الأمر للمزايدة أو تطلب عروضاً من شركات أو مستثمرين أو جهات أخرى، ودون عرض خطة أو تصميمات مقترحة أو تصور جديد للحديقة على إدارتها، انتقل مشروع التطوير بالأمر المباشر إلى القوات المسلحة، التي لا تضم جهازاً أو إدارة مختصة بتطوير الحدائق أو ترميم التراث والآثار. 

كانت الحديقة تابعة مباشرةً لمركز البحوث الزراعية، لما بها من أشجار ونباتات نادرة تخضع بعضها للدراسة والبحث والرعاية، إلا أن المركز سلم الحديقة لتصبح خارج نطاق إدارته أو إشرافه. صرّحت مسؤولة في مركز البحوث الزراعية بتلك المعلومات دون توضيح الجهة التي تسلمت حديقة أنطونيادس تمهيدًا لتطويرها، وذلك وسط مخاوف من أن تلحق الحديقة بمثيلاتها وتحاصرها أشباح التجريف والأعمدة الخرسانية والمباني التجارية، خاصةً أن تطويرها دون إشراك جهات أخرى مختصة بالتراث والآثار مخالف لقانون هدم المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري.

ويؤكد محمد إبراهيم، العضو المؤسس في حملة “جهاز الرقابة الشعبية”، المعنية بحماية التراث والتاريخ السكندري، في تصريحاته لدرج أن عمليات التجريف تجري حتى الآن، دون الالتفات إلى الغضب الشعبي ضد ما يسمّى بـ”تطوير حديقة أنطونيادس”، ويضيف: “كلنا نعلم الجهة التي تقف وراء هدم الإسكندرية وإقامة مشروعات استثمارية لها ولخدمة عاملين سابقين بها، وقد هدمت كثيرًا من المباني والشواطئ في المدينة لتقيم “بيزنس” خاص، على حساب تراثية وتاريخية الإسكندرية، وذلك ضاعف الغضب الشعبي، فلم تعد هذه هي الإسكندرية التي ولدنا وعشنا بها قديمًا، المدينة اختلفت تمامًا، حتى مزاج الناس بها تغيّر فبعدما كانت حياتهم تتمحور حول البحر والكثير من الفن والتنوع القادم من حضارات وثقافات مختلفة، أصبحت حياتنا حافلة بالطوب والحجارة”.

3 حدائق سكندرية أخرى على خطى “أنطونيادس”

وسط الغضب من بدء تجريف حديقة أنطونيادس في الإسكندرية، كشفت التصريحات الرسمية المحدودة، أن مشروع التطوير (أي الهدم وتغيير الجغرافية والطابع التراثي) سيطاول حدائق أخرى بالإسكندرية، حسب الخطة المقررة سلفاً، كالنزهة والمنتزة والمعمورة والشلالات، وهي أشهر الحدائق بالإسكندرية، ولها طابع تاريخي أيضًا حيث تعود إلى حضارات وعصور سابقة.

يشبه التوجّه نحو التطوير ما جرى بحديقة الخالدين في وسط الإسكندرية، حيث كانت تضمّ مجموعة تماثيل الخالدين في تاريخ مصر، قبل أن يصلها طوفان التطوير، طمعًا في موقعها المميز المطلّ على شاطئ البحر، فتتحوّل إلى مجموعة أكشاك ومقاهٍ ومحال ومطاعم، ملأها الزحام والعشوائية. 

المناطق التي كانت سياحية في وسط الإسكندرية، تترك دون اعتناء أو رعاية حتى تتلف وتتعرض للإهمال الشديد، الذي يجعلها بحاجة إلى التنظيف والتجميل ورفع المستوى، وبتزايد مستوى الشكاوى مما آلت إليه الأمور، تدخل جرافات التطوير لتهدم وتعيد صياغة المنطقة وبناءها من جديد بالطريقة التي تدمر أصالتها وأثريتها وروحها وطابعها السكندري، وتقدمها بشكل جديد تجاري، تحت إدارة مستثمرين أو كجزء من اقتصاد القوات المسلحة. وجرى ذلك في عدّة وقائع أخرى.

حدائق الشلالات الأثرية تحوّلت أجزاء منها إلى قاعات أفراح، و”جراج” للسيارات، وحديقة المنتزة تُركت للعبث والإهمال قبل أن تتعرّض لاقتلاع أشجارها التاريخية العريقة، وتُزال أغلب ما بها من “كبائن” بما فيها “كابينة” الرئيس الراحل أنور السادات، واكواخها الخشبية، ومعالم سياحية، وتحوّل مرآها من الأعلى من اللون الأخضر الذي كان يميّزها كواحدة من المتنفسات الخضراء الشهيرة في الإسكندرية إلى اللون الأصفر، الدالّ على التصحر والتجريف العمدي. أما حديقة النزهة الشهيرة، فقد أزيل نجيلها الأخضر الطبيعي، ودمّرت من شدة الإهمال، لتتحول إلى مرتع لمؤجري الدراجات والباعة المتجولين، والقمامة. إلى جانب إهمال حدائق ونوافير الميادين العامة في وسط الإسكندرية في منطقتي المنشية والشاطبي التاريخيتين، فقد تحوّلتا إلى مناطق للمتسوّلين والقمامة والتبوّل. 

الإهمال ذاته أصاب المقاعد الخاصة بالمشاة على الكورنيش، وهي أشبه باستراحات ومقاعد للتأمل تطلّ على البحر مباشرة، فبلغت حدًا غير مسبوق من عدم النظافة وغياب النظام والرقابة، حتى أصبحت – إلى جانب عدم صلاحيتها للجلوس – حكرًا على الباعة المتجولين، يفرشون بضاعتهم ويقدّمون الشاي والقهوة للمارّة بعد سلسلة من المضايقات حتى يصبح الحل الوحيد لهذه العشوائية، أن تنقلبَ تلك المساحات المطلة على الشاطئ إلى مقاه وكافيهات تجارية تحجب رؤية البحر عن المارة، وهو ما جرى بالفعل في عدة مناطق، وتزحف تلك الرؤية الاستثمارية القائمة على أنقاض المدينة لتصيب المزيد من المناطق والمساحات المخصّصة للمشاة والحفاظ على أصالة المدينة ورونقها، وهو ما يحوّل الكورنيش إلى ممشى “سياحي تجاري” لمن يدفع فقط، على عكس ما كانت عليه الإسكندرية لعشرات السنوات، حتى أن بعض تلك المشروعات يتعمّد بناء جدار خرساني يحمّل زواره ورواده من نظرات المارّة، ويحجب عنهم الأفق المفتوح للبحر أيضًا.

إقرأوا أيضاً:

عقلية “المقاهي والأموال” تحكم

عقلية “المقاهي” انتقلت أيضًا إلى قلعة قايتباي المبنية في عهد الدولة المملوكية عام 1477، وهي آخر نقطة على كورنيش الإسكندرية، وبعدما كانت قبل ثورة 25 يناير مساحة مفتوحة للزوَّار والسياح، بدأت المباني والواجهات التجارية تزحف إليها تدريجيًا. 

بعد 25 يناير مباشرةً، أغلق ممشى ملحق بها وحمل لافتة “منطقة عسكرية: ممنوع الاقتراب أو التصوير”، وبعد نحو عام، تحوّلت تلك المنطقة العسكرية إلى مطعم، ثم لحقها المزيد من التدمير والردم وأعمال الإنشاء غير المفهومة أو المخططة، وبناء المقاهي والمطاعم الصغيرة في حرم القلعة، وهو الأمر الذي يخالف جميع تقاليد تطوير المناطق الأثرية. 

وخلال إنشاء منطقة المقاهي والمطاعم، انتهكت الجرافات وأسوار الإنشاءات التي يُمنع المرور منها المنطقة بالكامل، ولأن الإسكندرية من أكثر المدن تعرضً للغرق حول العالم، لارتفاع مستوى الأمواج طولًا وعنفًا، بدأت مؤخرًا المرحلة الثانية من الإنشاءات.

بدأ بناء سور من الأحجار و”البلوكات” لمنع وصول الأمواج إلى المقاهي والمطاعم، منعاً لغرقها، ليصبح المشهد عبثيًا تمامًا: حائط بوسط البحر لصد الأمواج، والزائر الذي يجلس في المقهى أو المطعم للاستمتاع بكونه في مكان ساحلي، لن يرى البحر، إنما سيكون المطعم مطلًا على حائط ضخم. وهو الحائط نفسه الذي يراه زوار قلعة قايتباي إذا أرادوا الاستمتاع بالمنطقة أو الجلوس فيها. 

على غرار ذلك، يتذكر سكان الإسكندرية عام 2001، حين كانت توسعة كورنيش الإسكندرية لاستيعاب أعداد السيارات الكبيرة المارّة إلزامياً، فلجأت الدولة في ذلك الوقت لبناء كوبري ستانلي مخترقاً المياه حتى لا تأتي على شاطئ البحر أو تقلّص مساحته، وفي الوقت نفسه تنجز مشروع توسعة الكورنيش. وكان ذلك منطقاً في التعامل مع جميع السواحل، حتى أصبح الحفر والردم والهدم عنوانًا للإسكندرية. 

كوبري وطريق سريع على بعد أمتار من شاطئ تاريخي!

بينما يتفاخر النظام المصري بأصوات معدات البناء التي لا تتوقف، تنجز تلك المعدات إنشاءات تغيّر معالم المدن وطبيعتها، فعلى بعد أمتار من الساحل في أشهر شواطئ الإسكندرية، شاطئ البوريفاج، يجري بناء كوبري يحمل اسم “السادات“، وهو عبارة عن طريق سريع فوق الشاطئ. أثار البناء انتقادات واسعة للحكومة المصرية، بسبب المخاوف من تأثير المشروع على معالم المنطقة وإلغاء وجود شاطئ قديم كان، لوقتٍ طويل، وجهة لأعداد مهولة من المصطافين.

شاطئ البوريفاج يعتبر أحد أرقى الشواطئ المصرية، التي سبقت ما يعرف الآن بالساحل الشمالي ومارينا، وغيرها من الشواطئ الحديثة، وهو من أشهر الشواطئ وأغلاها، إلا أنه يشهد الآن تدميرًا جزئيًا وتعديًا غير مسبوق عليه، ليغادره المصطافون إلى خارج قلب الإسكندرية، بعيدًا من الإنشاءات وأصوات المعدات وغبار الردم والهدم. ورغم تلك الانتقادات، يعتبر النظام المصري الكوبري، الذي نال كثيرًا من الغضب وأنهى شاطئًا أسطوريًا حافلًا بالذكريات، “تحفة معمارية“. 

ويأتي ذلك الكوبري ليحدث شللًا جديدًا في منطقة أخرى من الإسكندرية، بعد الشلل الذي أحدثه كوبري سيدي جابر، الذي ظلّ حديث مواقع التواصل الاجتماعي لبضع سنوات، حين توقفت شرايين الإسكندرية عن العمل لإنشائه لسنوات غرقت المدينة خلالها في الزحام والتلوث والملل والشكاوى المتكررة لأهل المدينة من صعوبة الحركة والتنقل بين مناطق الإسكندرية، وبعد الشعارات البرَّاقة حول قدرته على تخفيف الزحام عن قلب المدينة، وإفادة أهل المدينة، وإنقاذهم من المسافات الطويلة وكونه “تطويرًا” لطريق الكورنيش، تبيّن، في النهاية، أنه ما كان إلا جزءًا من مشروع بناء فندق ومجمع سياحي تابعين للقوات المسلحة بمنطقة سيدي جابر الشهيرة بالإسكندرية، وتم إلغاء الطريق القديم لإحالته إلى “جراج سيارات” ومحال تجارية ومقاهٍ وممر إلى الشاطئ التابع للفندق، كي لا يضطر نزلاؤه إلى عبور الطريق، وذلك بهدف “جذب استثمارات للإسكندرية“.

“مجزرة” عمرانية تاريخية 

جاء تجريد الإسكندرية “الهادئة” من هدوئها وتراثها وتاريخها كمدينة سياحية ثقافية تعرض بانوراما للتاريخ والحياة في مراحل مختلفة من عمر العالم، تدريجياً. فلم يكن هدم وتجريف الحدائق وحجب الشواطئ المرحلة الأولى، بل سبقها مرحلة أخرى مهّدت لكل ذلك، وهي تدمير التراث الملموس، بإزالة مبانٍ تاريخية وأثرية من قوائم المباني التراثية وهدمها، لإقامة أبراج ومولات والاستفادة من مواقعها المتميّزة في مشروعات استثمارية، بعدما تُركت للترميم السيء، والإهمال المتعمّد لسنوات، حتى تصبح إزالتها قرارًا إجباريًا لا بديل عنه.

وخلال السنوات الماضية، تمكّن ملاك عشرات المباني التاريخية من إخراجها من مجلد الحفاظ على التراث، بالتواطؤ مع مسؤولين حكوميين، وجرى هدم الكثير منها، ليحل بدلًا منها أبراج شاهقة خالية من أي طراز معماري فني. وأبرز تلك المباني هو “فيلا شيكوريل“، التي بُنيت عام 1930 على يد الثري اليهودي “شيكوريل” بتصميمات 4 مهندسين فرنسيين على طراز “آرت ديكو” الفني، تمّت إزالتها بعدما اشترتها جهة سيادية وبدأت في هدمها مباشرة، وذلك بعدما اشترت فيلا تراثية أخرى قبلها وهدمتها لإقامة برج بدلًا منها. وهو ما جرى مع عدد كبير من المباني، كمبنى “أمبرون” الذي شُيّد عام 1920 على يد مصمم إيطالي، و”تقلا” التي شهدت انطلاق مؤسسة “الأهرام” المصرية العريقة وكانت مملوكة لبشارة وسليم تقلا مؤسسي الصحيفة، وإزالة مسرح السلام التاريخي، وردم مسرح العبد الأثري، الواقع بمنطقة كامب شيزار القديمة، وفيلا “أجيون” التي تم العثور أسفلها على قطع أثرية تعود للعصر الروماني وكانت مصممة على يد المعماري الفرنسي أوجوست بيريه بطراز معماري وحضاري فريد أحالها إلى مزار لطلاب كليات الهندسة حول العالم لاتّباع مصممها مدرسة هندسية نادرة في العمارة باستخدام التصميمات التراثية، وفيلا الدكتور مفيد أبو الغار، التي ألف بداخلها أسامة أنور عكاشة مسلسله الشهير “الراية البيضاء”، و”فيلا 26” الأثرية بمنطقة جليم، والمنارة الأندلسية بمنطقة العجمي، وذلك ضمن وقائع عُرفت محليًا باسم “مجزرة تراث الإسكندرية” التي أحالت تحف فنية وتراثية إلى “كومة” من التراب. ويجري حاليًا التأكيد على عدم أثرية مبنى رويال هاوس التاريخي بمنطقة المنتزة، تمهيدًا لهدمه ضمن مشروع تطوير المنتزة، استمرارًا لهدم المباني التراثية لحساب المزيد من المقاهي والفنادق وناطحات السحاب المصرية المطلة على شواطئ الإسكندرية.

ويضيف أحمد حسني، العضو المؤسس بحملة “الرقابة على التراث والآثار” التي تشكّلت لإنقاذ ورصد المواقع التاريخية في مصر، أن التخريب والتشويه المتعمّدين للإسكندرية تجاوزا المباني التراثية والفيلات، وطالا أوجه ثقافية للمدينة كالعديد من السينمات التي تم هدمها أو وقفها، أو تحويلها لأشياء أخرى، ويقول: “على سبيل المثال، سينما ريالتو، وهي جزء من ذاكرة السينما بالمدينة، ولا يزال التربّص جاريًا بمناطق ومعالم تراثية وأثرية وتاريخية أخرى”. ويوضح: “التطوير أيضًا طال المكس ليمحو هويتها، وقد كانت تشبه فينيسيا الإيطالية، ولكن في الإسكندرية، وذلك بأكواخها الخشبية، ومنازلها التي تعوم في البحر، ورغم عدم استغلالها سياحيًا وإهمالها، إلا أنها كانت موقعًا سكندريًا مميزًا تطغى عليه روح المدينة، يمكن الحفاظ على شكله وأصالته وحتى خدوشه وكسوره التي تضفي عليه عبقًا مميزًا كما المدن والمناطق القديمة، لكنه الآن مهدد بالإزالة وهدم التراث، ونسمع كثيرًا عن مناطق ومباني تواجه الخطر ذاته”.

مدينة تتجه نحو المجهول

تحولت الإسكندرية، الواقعة على ساحل البحر المتوسط في مصر، من مدينة الرب إلى مدينة تبحث عن ذاتها، من أقدم المدن المصرية التي تحمل تاريخًا طويلًا حافلًا بالحضارات والثقافات والجنسيات، وفي كل بقعة منها حكاية تشهدُ على عظمة المدينة، إلى أكوام من الرماد وآثار الهدم البشعة التي أحالتها إلى مشروعٍ استثماري مفرّغ من روحه. 

تحوّلت الإسكندرية، تدريجيًا، بفعل موجات الهدم والبناء المستمرة إلى غابة من الخرسانة، طُمِسَت معالمها، وفقدت طزاجتها، وكأن ما يجري هو محاولات لتفريغها من روحها، بعدما كانت واحدة من أهم المدن السياحية المصرية لما لها من عمق ثقافي وحضاري كبانوراما مفتوحة للتاريخ وميناء اختصرت العالم في مرحلة ما، فأصبحت مدينة تتجه نحو المجهول. 

لا أحد يعرفُ الشكل الذي ستصل إليه في النهاية، من كثرة ما بها من هدم وبناء ومحاولات لاقتناص كافة المناطق التي كانت متاحة للجميع مجانًا، وتحويلها إلى مناطق مخصصة للأثرياء، بعد هدم مبانيها وعلاماتها القديمة التي تمنحها تفرُّدها ولمعانها كمدينة “تاريخية” باقية حتى الآن كالمدن الأوروبية التي يُصاغ كل ما بها حتى يناسب طابعها المعماري القديم، وعراقتها.

الإسكندرية لم تعد كما كانت… وبدلاً من الاحتفاء بها كوجه من وجوه الحضارة المصرية التي لم يجُر عليها الزمن، يرى أغلبُ سكانها أنه يجري تدميرها وإحالتها إلى مدينة “مودرن” عادية كأغلب المدن المبنية حديثاً.

تموت الإسكندرية ببطء تحت سطوة أصحاب السلطة الذين يعملون على كسب المزيد من الأموال على حساب تراثية وأثرية وتاريخية المدن والبحار والحدائق والمباني و”الأحجار” مستخدمين معول الدولة، لتفقد مصر أشهر مدنِها عبر التاريخ، وواحدة من أبرز الشهود على حضارات وأجناس وأعراق وشعوب وآثار لن تعوَّض. 

إقرأوا أيضاً:

كريم شفيق - صحفي مصري | 29.03.2024

محمد جواد ظريف… حبال السلطة الصوتية في إيران بين المنع والتسريب!

ظريف، وبحسب التسريب الأخير، قام بعدّة أدوار وظيفية، ربما جعلته يتفادى هجوم الأصوليين، وجاهزيتهم للعنف والاتهامات سواء كانت بـ"الخيانة" أو "العمالة" أو "الجهل".