fbpx

في شهر الوقاية من الانتحار:
ألمنا مختلف ولكنّنا لسنا وحدنا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما زلت أذكر أنّ معالجي النفسي طلب منّي القيام بتمرين فجائي في العيادة. دعاني للوقوف والاقتراب من الحائط، كان الأفق يضيق وعندها قلت لمعالجي النفسي أنّه لا يسعني رؤية أي شيء سوى الحائط، وكان ردّه، هذا تحديداً انسداد الأفق الذي يشعر به من يقرّر الانتحار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في مساء خريفي في بيروت عام 2017، وبينما كانت الشمس تغيب في الفترة التي تُعرف في عالم الفن على أنّها الساعة الزرقاء (blue hour)، كنت أمشي في شوارع المدينة عندما وصلت إلى أوتوستراد أريد اجتيازه، فوقفت أمام الشارع وشعرت بكل شيء واللا شيء، في آن واحد، وكأنّ كل ما حولي كان يحثّني على اتخاذ تلك الخطوة، لرمي نفسي أمام خط السيارات الضخم والسريع والذي لم أتمكّن من رؤية نهايته… كنت دائماً عندما تراودني هذه الأفكار، أفكّر مثلاً في اللجوء إلى أدوية أو شيء من هذا النوع، ولكن في تلك اللحظة تحديداً شعرت أنّ كل شيء كان مناسباً، وقفت وفكّرت وتخيّلت ولأوّل مرّة شعرت بـAdrenaline rush وبأنّه بإمكاني لمرّة أن أقرّر مصيري. كانت لحظات غريبة، فقدت فيها إدراكي للمكان والزمان والوقت. ما زلت حتى اليوم لا أدري كم من الوقت مضى وأنا متسمّرة في مكاني. 

ولكن الأفكار كانت تتخبّط في رأسي، أهمّها ردّ فعل والدتي وكيف قد تتشوّه جثّتي في منتصف الطريق بين كل هذه السيارات، فتراجعت ومضيت كأن شيئاً لم يكن وكأنّها لحظة عابرة. لا أدري حتى اليوم كم كانت جديّة أفكار تلك اللحظة، ولكنّني أتذكّر اللحظات بوضوح، وأتوقّع أنّ الكثير من الناس في مراحل معيّنة من حياتهم قد عاشوا تجارب مشابهة.

بعد سنوات عدّة وفي إحدى الجلسات الأسبوعيّة مع معالجي النفسي في منتصف عام 2020، تحدّثنا طويلاً عن مفهوم الحياة والموت والانتحار. لا أتذكّر تفاصيل الحديث بدقّة إنّما ما زلت أذكر جيّداً أنّ معالجي النفسي طلب منّي القيام بتمرين فجائي في العيادة. دعاني للوقوف والاقتراب من الحائط لخطوة واحدة في كلّ مرّة ووصف ما أراه بالتفصيل، وكلّما كنت أقترب ومع كلّ خطوة، كان الأفق يضيق حتى وصلت مباشرة عند الحائط وعندها قلت له أنّه لا يسعني رؤية أي شيء سوى الحائط، وكان ردّه، هذا تحديداً انسداد الأفق الذي يشعر به من يقرّر الانتحار. 

قد لا يكون هذا الوصف الأدق، لا بل قل يسارع كثيرون لانتقاد تبسيط الأمور بهذا الشكل، ولكنّني منذ ذلك الحين أفكّر بصعوبة العيش والاستمرار مع ضيق الأفق. فمن منّا لا يمرّ بلحظات لا بل بأيام وفترات يشعر فيها برغبة عارمة بالرحيل، خصوصاً أنّنا نعيش في حقل ألغام في منطقتنا العربيّة، نصحو كلّ يوم على ما يشبه الفاجعة من سوريا إلى اليمن ولبنان والعراق ومصر وغيرها.

أيلول/ سبتمبر هو شهر الوقاية من الانتحار، خصوصاً في الولايات المتّحدة الأميركيّة حيث يمتدّ الأسبوع الوطني للوقاية من الانتحار من 4 إلى 10 أيلول/ سبتمبر، وهو جزء من شهر التوعية. 

أكتب اليوم هذا المقال إلّا أنّني لست بأي شكل من الأشكال خبيرة نفسيّة، وليست صحيحاً أنني لم أفكر بالانتحار قبل الآن، ولست هنا لأقدّم نصائح فهناك مؤسسات وخبراء متخصّصون لمساعدة من هم بحاجة ولست هنا لكتابة شعر ونثر عن حب الحياة والتمسّك بها والأمل بغدٍ أفضل أو أي شيء من هذا القبيل والذي بات مستهلكاً، وهو في معظم الحالات قد لا يجدي أي نفع مقارنة بحجم الأسى والوجع الذي يشعر به معظم من يرغبون بإنهاء حياتهم. ولكن في هذا الشهر، شعرت برغبة في الكتابة لأقول لكلّ من يشعر بالضيق: You are not alone (أنتم لستم وحدكم) وهناك من يشعر بوجعكم، قد تشعرون بأنّكم وحيدون ولكنّ كونوا على يقين أنّ هناك كثيرين مثلكم في حرب مستمرّة للاستمرار وللبقاء على قيد الحياة وهذا قد يكون أكبر مجهود تقومون به، وإذا كنتم تقرأون هذا المقال اليوم، فاعلموا أنّ مجهودكم يثمر وها أنتم وها نحن هنا نقاوم ونعافر وما زلنا هنا. 

بيانات حول ظاهرة الانتحار في منطقة الشرق الأوسط!

يموت 800 ألف شخص حول العالم بسبب الانتحار كل عام، أي شخص كل 40 ثانية بحسب منظّمة الصحّة العالميّة، وهذا ضعف عدد الضحايا من جرائم القتل، فالانتحار هو أحد الأسباب الرئيسية للوفاة بين الشباب. 

 على الصعيد العالمي، يبلغ معدل الانتحار عند الرجال ضعف معدل انتحار النساء ولكن بالطبع هذه النسبة تتفاوت بين الدول. 

توفي حوالى 46 ألف شخص في الولايات المتحدة الأميركية بسبب الانتحار عام 2020، وهو ما يمثل حالة وفاة واحدة كل 11 دقيقة، وفقاً للمراكز الأميركية لمواجهة الأمراض والوقاية منها، بحسب مقال الـ CNN.

في بلادنا، قلّة من يهتمّون بظاهرة الانتحار وبضرورة الوقاية والحماية منها وتتولى ذلك عادة منظّمات أو أفراد، أما دولنا فليست معنيّة. لا بل يُعتبر الانتحار وصمة عار على المنتحر وأهله في مجتمعات كثيرة، ويرفض الكثير من رجال الدين “الصلاة على روح” المنتحر لأنّه خالف التعاليم الدينيّة، فالانتحار محرّم، لا بل يعدّ من أكبر الكبائر دينيّاً. من ينسى الرجل اللبناني الستّيني الذي انتحر مطلقاً النار على نفسه وسط شارع الحمرا في تمّوز/ يوليو 2020، كاتباً على ورقة “أنا مش كافر بس الجوع كافر”. فمع كلّ الأسى الذي كان يعيشه بسبب الأزمة الاقتصادية والجوع والحرمان، لم تغفل عن ذهنه الوصمة التي ستلحق به، فأي مجتمع قاسٍ هذا الذي نتخبّط بين جدرانه والذي يحكم علينا حتى في ضعفنا. والأسوأ من ذلك، أنّ جثّة الرجل بقيت لساعات في شارع الحمرا قبل أن يتمّ نقلها.

يختلف معدل الانتحار بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في عام 2016، تم الإبلاغ عن 26 ألف حالة انتحار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) ، ما يعني 4.8 حالات انتحار لكل 100 ألف حالة وفاة، بحسب دراسة Epidemiological status of suicide in the Middle East and North Africa countries (MENA) from 1990 to 2017 (الوضع الوبائي للانتحار في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA) من عام 1990 إلى عام 2017) الصادرة في آذار/ مارس 2021.

في العراق مثلاً، بلغت حالات الانتحار المسجلة عام 2021، 772 حالة، بارتفاع أكثر من 100 حالة عن عام 2020 حيث سجّلت وزارة الداخليّة 663 حالة انتحار، كما ارتفعت معدلات الانتحار الشهرية في العراق 40 في المئة في مطلع عام 2022.

أمّا في لبنان، فبحسب المعدّل المتوسط، ينتحر شخص كل 2.1 يوم ويحاول شخص الانتحار كل 6 ساعات، بحسب موقع منظّمة Embrace “موضوع الانتحار يبقى من المحرمات في لبنان، ويمنع المئات من الوصول إلى الدعم”. فيما سجّلت مصر أكثر من 2.5 ألف حالة انتحار في عام 2021. 

أمّا الأردن فكان “سبّاقاً” في مقاربة للانتحار، فتعامل معه بوصفه جرماً يستدعي العقاب لا أزمة نفسية تستدعي المعالجة والاحتواء، فأصدر قانوناً جديداً في نيسان/ أبريل 2022 يعاقب بغرامة مالية تبلغ مئة دينار (140 دولاراً) والحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر كل من يحاول الانتحار في مكان عام.

بحسب الأرقام المنشورة على موقع البنك الدولي (والصادرة عن منظّمة الصحّة العالميّة) فإنّ معدل الوفيات الناجمة عن الانتحار (لكل 100000 من السكان) عام 2019 هو التالي:

ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الحالات هي المسجّلة رسميّاً على أنّها وفاة نتيجة انتحار، ولا تشمل حالات الانتحار كثيرة التي لا تسجَّل ولا يصرّح عنها لتجنّب الوصمة والحرج، لذا فقد تكون نسب الانتحار أعلى بكثير في الدول العربيّة.

“تشير التقديرات إلى أن حوالى 792 مليون شخص- ما يقرب من 11 في المئة من سكان العالم- يعيشون مع شكل من أشكال اضطرابات الصحة النفسيّة، وأكثرها شيوعاً هو الاكتئاب أو اضطرابات القلق. ومع ذلك، تشير استطلاعات الرأي العامة إلى أن النسبة أعلى بكثير في العديد من البلدان العربية، حيث أفاد ما يقرب من 30 في المئة أنّهم يعانون من الاكتئاب (وحتى نسب أعلى بين العراقيين والتونسيين والفلسطينيين)”، بحسب دراسة المركز العربي “واشنطن دي سي”.

أهميّة الوقاية من الانتحار!

يقول الخبراء أنّه من خلال التدخلات القائمة على الأدلة وفي الوقت المناسب، يمكن تجنّب حالات الانتحار. في هذا السياق، ذكر جاستن بيكر، المدير السريري لمبادرة الحد من الانتحار والصدمات للمحاربين القدامى في مركز ويكسنر الطبي بجامعة ولاية أوهايو، في مقابلة لـCNN: “ما نفهمه بشكل جماعي هو حدوث خلل في التنظيم العاطفي وخطأ إدراكي”، مضيفاً المنتحرين “لا يمكنهم إصلاح الموقف، أو لا يمكنهم التفكير في طريقهم لتخطّي الموقف، لذلك يصبح الانتحار خياراً قابلاً للتطبيق كطريقة لإدارة الألم الذي يعانون منه. لذلك قد يتخذون إجراءً حيال ذلك حقاً”.

وذكرت مقالة الـCNN، بناءً على مقابلات مع خبراء، بعض السلوكيات التي يجب الانتباه إليها لتجنّب انتحار المقرّبين منّا، من بينها:

التدرب على الانتحار أو الاستعداد له، وهو ما قد يبدو مثل إظهار سلوكيات غير معتادة باستخدام البنادق أو الحبوب أو غيرها من العناصر المميتة،

التخلي عن المقتنيات العزيزة،

النوم كثيراً أو قليلاً جداً،

عزل النفس، 

إظهار الغضب أو الرغبة في الانتقام،

التصرف بقلق أو انفعال،

الحديث عن الرغبة في الموت- من طريق الانتحار أو غير ذلك،

غياب أي رغبة أو هدف من العيش.

وغيرها من علامات التحذير التي يجب أن تؤخذ دائماً على محمل الجد، خصوصاً وأنّ ذلك قد يساهم في حماية أشخاص أعزّاء من الانتحار والتدخّل في الوقت المناسب لإنقاذ حياتهم. 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.