fbpx

معلمون يأخذون مقاسات أحذية التلاميذ:
عن العودة الكئيبة إلى المدارس في سوريا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“أيهما أفضل أن ندرس 10 أو 12 سنة طب واختصاص، وبالأخير نروح على ألمانيا نعالج الألمان أو ندرس سنتين وندخل سوق العمل ونطالع مليون أو مليونين”. التصريح يعود إلى وزير التربية السوري، حول السبب في رفع معدلات القبول الجامعي. إنه واحدٌ من عشرات التصريحات المثيرة للسخرية في سوريا اليوم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في مدرسة في السويداء، يأخذ أحد المعلمين مقاسات أقدام الطلاب، يسجل الاسم، يسأل الطالب عن مقاس قدمه، ثم يسجل الرقم. 

تبرع أحد أبناء القرية المهاجرين بأحذية لجميع طلابها، قد يبدو الأمر مستهجناً في مكان آخر، لكن في سوريا، تعيد الأمهات ترديد مقاس أقدام أبنائهن مراراً وتكراراً حتى لا ينساها الصغار بعد انتشار خبر التبرع بالأحذية، بعضهن يقلن: “لا بأس أن تكون أكبر نمرة من المقاس الأصلي فيبقى الحذاء للسنة القادمة”.

 هذا جزء صغير من أزمة أكبر يعانيها الطلاب والعائلات مع عودة عام دراسي جديد، عامٌ لن يكون كلّ الأطفال فيه محظوظين كفايةً ليأخذ أستاذٌ مقاس أقدامهم.

تصريحات وزير التربية المثيرةُ للسخرية

“أيهما أفضل أن ندرس 10 أو 12 سنة طب واختصاص، وبالأخير نروح على ألمانيا نعالج الألمان أو ندرس سنتين وندخل سوق العمل ونطالع مليون أو مليونين”. هذا التصريح يعود إلى وزير التربية السوري، حول السبب في رفع معدلات القبول الجامعي. إنه واحدٌ من عشرات التصريحات المثيرة للسخرية، التي يخرج بها الوزير دارم طباع، بين حين وآخر. يمكن اختصار حال التعليم في مناطق سيطرة النظام، بتصريحات وزير تربيتها الذي ما عاد يثير الدهشة بقدر تحوّله إلى “تريند” بين السوريين. 

ليس هذا وحسب إذ إن الوزير لكي يثبت أن دراسة الطب ليست ذات أهمية ويمكن الحصول على المال من مهن أخرى أيضاً، قارن بين أجور الطبيب وعامل التكييف المنزلي قائلاً: “الطبيب بيطالعلو بالشهر مليون لمليون ونصف، وهدول عامل تكييف بيطالعن بيومين”، داعياً الناس إلى تغيير عقليتها تجاه التعليم المهني، كان يمكن لطباع إقناع الطلاب بأهمية التعليم المهني لكن ليس بهذه الطريقة، وكأن اختيار الدراسة مرتبط فقط بالمردود المالي وليس بما يحب الإنسان فعله في الحياة، مرسخاً نمطاً من التفكير الذي تتمحور فيه الحياة حول المكسب المالي، مسقطاً التطور المهني والبحثي.

أما الطامة الأكبر في كل ما قاله هو وصفه الأطفال المتسربين من المدارس بأنهم “المزتوتين بالشوارع”، وذلك في سياق حديثه عن المناهج التي تعاونت فيها الوزارة مع منظمة اليونيسف للطفولة لمساعدة الأطفال المتسربين والمتأخرين عن التعليم.  

كل هذا جزء من التدهور الحاد في الوضع التعليمي في سوريا، ليس على المستوى الاقتصادي، إنما حتى في التفكير المؤسساتي الذي يقود منظومة بأكملها يحيط بها الجهل والتقصير واستهتار مسؤوليها. 

هذا التخبط والتراجع على المستويات كافة يؤدي إلى تدهور الوضع التعليمي بشكل حاد، ففي نتائج امتحانات الثانوية للعام المنصرم بلغ عدد المعترضين على النتائج 70 ألف طالب وطالبة، ثبت صحة ألف منها، ليتبين أن طلاباً متفوقين حصلوا على درجة صفر في بعض المواد، وهذا يعني أن آلاف الأوراق لم تصحح حتى. ومن الطبيعي أن يحدث ذلك في ظل الظروف الصعبة والضغوطات التي يتعرض لها المصححون بالإضافة إلى صعوبة الوصول إلى مراكز التصحيح بسبب قلة وسائل المواصلات إثر شح الوقود بينما سهر المصححون لساعات طويلة في مراكز التصحيح من دون كهرباء ما اضطرهم إلى استخدام فلاش الهاتف الخليوي أثناء التصحيح.

الوضع الاقتصادي للطلاب والمعلمين

بثياب قديمة وحقائب مهترئة، رتقتها الأمهات، يعود الكثير من الأطفال إلى المدرسة، ببهجة منقوصة وأعباء مادية لعائلات يحملون جزءاً من وزرها، وكأن دخولهم إلى المدرسة بات خطأ أو ذنباً يجب أن تتحمله سنواتهم القليلة. لا يشير وزير التعليم إلى ما يتكبده التلاميذ والمعلمون من عناء أو يتعاطف معهم على أقل تقدير. يقول وكأنه قادم من كوكب آخر، إن الطلاب والمعلمين وسط الظروف الاقتصادية الحالية يرغبون في العودة إلى المدرسة لأن خروجهم قليل لذلك يحبون العودة إلى المدرسة: “ماعميروحوا ولا عميجوا، لأن مجالات الطلعة ضمن ظروف البلد الحالية قليلة، وبالتالي فإن الطالب يحب العودة إلى باحة المدرسة وأصدقاؤه فيها”، متجاهلاً أن من حقّ المعلمين والطلاب الخروج في إجازات خلال فصل الصيف، حتى يتخلصوا من أعباء سنة دراسية كاملة ليدخلوا متحمسين إلى السنة الجديدة. كان من الأفضل لطباع التحدث عن طرق لترفيه الطلاب ومساعدتهم على تخطي الأزمات التي تؤثر بشكل مباشر على عملهم وحياتهم بدل اختلاق أكاذيب ليست موجودة على أرض الواقع، وهو ما يثير غضب أهالي الطلاب والمعلمين. 

تقول مايا (اسم مستعار) وهي معلمة مادة الكيمياء: “لم نكد ننتهي من تصحيح أوراق امتحانات الشهادة الثانوية حتى جاء عامٌ دراسي جديد، الأمر كالعقاب ولا يشبه ممارسة مهنة تعتبر من أسمى المهن”، كل هذا يُفقد المعلمين شغفهم ورغبتهم في التعليم في ظل تدني الأجور لذلك بات الكثير من المعلمين يقدمون استقالتهم ويلجأون إلى التدريس الخصوصي ذي الدخل الأعلى، إذ أن متوسط بدل ساعة التدريس الخصوصية يبلغ حوالي 5000 ليرة سورية، (حوالي دولارٍ أميركيّ واحد وبعض السنتات)، أي أن المدرّس قادر على الحصول على دخل يفوق راتبه بأضعاف وبخاصة في أوقات الامتحانات، إذ يزداد الإقبال على ساعات التدريس الخصوصية. يقول محمود وهو مدرس فيزياء قدم استقالته منذ أكثر من أربع سنوات: “كان التدريس يأخذ كل وقتي دون جدوى، وحين بدأ ابني وابنتي الدراسة الجامعية غدا الراتب لا يكفي شيئاً فقررت التفرغ الكامل للدروس الخصوصية وقدمت استقالتي وبالفعل صرت قادراً على مواكبة كل احتياجات ابنائي”.

فيما يخص عائلات التلاميذ، الأمر أكثر تعقيداً حين يتعلق بوجود أكثر من طفل واحد في الأسرة. وفي جولة لـ “درج” على الأسواق السورية، تقدّر تكلفة تجهيز طالب الثانوية العامة ما بين 150 إلى 250 ألف ليرة سورية (حوالي 37 و 62 دولاراً أميركياً)، بينما يتراوح راتب الموظف حوالى 150 ألف ليرة سورية، فكيف لو كانت العائلة تضم طفلين أو ثلاثة! هذا بالإضافة إلى ثمن الكتب التي يجب على طلاب الثانوية شراؤها والتي يصل سعرها إلى 50 ألف ليرة سوريّة (12 دولاراً اميركياً). ولحل هذه الأزمة التي يكاد حلها أن يكون مستحيلاً، تناشد بعض الصفحات على “الفيسبوك” المتبرعين لتأمين مستلزمات الدراسة لعائلة هنا وأخرى هناك، ينجح بعضها وتحصل العائلة على مساعدة مالية لكن لا يحالف الحظ جميع العائلات، بينما يتكفل متبرعون في القرى الصغيرة بشراء مستلزمات الدراسة لكل أطفال القرية وهذا الحل يبدو مثالياً لعائلات تؤجل شراء هذه المستلزمات على أمل ظهور فاعل خير قريباً. 

تقول فاطمة (اسم مستعار) والتي فقدت زوجها منذ 7 سنوات: “أدخلت ابنتيَّ إلى المدرسة وهما في الصف الخامس والسابع، بعد تأمين مستلزماتهما بصعوبة بالغة بينما أخرجتُ ابني الأكبر من المدرسة ليعمل عند حدادٍ، ربما يستطيع إكمال دراسته في يوم ما”.

مدارس اللجوء والمخيمات

بحسب حكومة النظام السوري يوجد في مناطق النظام ما يقارب 3,651,923 تلميذاً وطالباً من مختلف المراحل التعليمية موزعين على 13,660 مدرسة ومعهداً، لكن القصة لا تنتهي هنا، ولا تنحصر في مناطق سيطرة النظام، فعلى الجانب الآخر هناك حكايات مختلفة، ما يجمعها في النهاية الفقر والعوز وعجز الآباء، إذ أن الانقسامات السياسية وسيطرة فصائل مختلفة على أجزاء من سوريا وصلت حتى إلى القطاع التعليمي. 

ينتشر في سوريا أكثر من منهاج تعليمي واحد، بحسب الفصيل أو الجهة التي تسيطر على المنطقة، وفي بعض المناطق كإدلب تمتنع العائلات عن إرسال بناتها إلى المدرسة بسبب الجهل والقيود المجتمعية. بالنسبة إلى المناهج، تعتمد حكومة النظام منهاجاً تعليمياً واحداً يطبّق في كل المدن الواقعة تحت سيطرتها، أما في مناطق الإدارة الذاتية الكردية شمال شرقي سوريا، يتم اعتماد منهاج تعليمي مزدوج للتدريس ضمن مناطق نفوذها في الأقاليم الشمالية وتشمل أكثر من 1400 مدرسة في محافظة الحسكة، ونازحي مدينة عفرين الموزعين في مناطق ومخيمات الشهباء في ريف حلب الشمالي، بالإضافة إلى مخيمات النازحين في الحسكة. لكن الحكومة ترفض الاعتراف بمناهج الإدارة الذاتية التي تأسست منتصف 2016، أي أن التلامذة غير قادرين على دخول الجامعات في مناطق النظام، ما يضطر بعضهم، من المقيمين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، في وقت امتحاني الشهادة الإعدادية والثانوية، إلى التوجه نحو مناطق سيطرة النظام حيث تُجهز لهم  مساكن مؤقتة ويعودون بعد انتهاء الامتحانات، في رحلة شاقة تشبه النزوح المؤقت.

وكانت منظمة “منسقو استجابة سوريا” قد وثقت يوم الجمعة 5 من آب/ أغسطس، عدد المخيمات الخالية من النقاط التعليمية وعددها 930 منتشرة في مناطق شمال غرب سوريا، أما عدد الأطفال المتسربين عن التعليم ضمن مخيمات شمال غرب سوريا فهو36,848 ألف طالب.

إقرأوا أيضاً:

في تركيا يدرس ما يقارب مليون طالب وطالبة سورية بحسب ما قال وزير التربية التركي محمود أوزر خلال كلمة ألقاها في منتدى التعليم العالمي في العاصمة البريطانية لندن، أما في لبنان يواجه الطلاب السوريون المزيد من الصعوبات مع تصاعد التضييق والحملات وخطاب الكراهية ضد اللاجئين ما انعكس عدم قدرة على التنقل بحرية، حتى أن كثيرين يشعرون أنهم معرضون للخطر فقط لأنهم سوريون. 

في شهر آب/أغسطس الماضي أطلق مدير مدرسة في لبنان النار على مجموعة من الطلاب الذين يلعبون في باحة مدرستهم في وقت لم يبدأ الفصل الدراسي فيه، وعندما ثار عليه الأهالي اعتذرت زوجته وقالت: “كنا نظنهم سوريون”! بهذه الحادثة يبدأ السوريون عامهم الدراسي الجديد في لبنان وكأن على الأطفال الخوف من هويتهم.

من جهة أخرى يُستخدم الأطفال والتلاميذ السوريون كورقة ضغط سياسية، ليخرج لاحقاً وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال عباس الحلبي ويحسم الجدل، واعداً بعدم دمج الطلاب السوريين في المدارس اللبنانية. مجدداً يستخدم اللاجئون ورقة مساومة داخلية ومع المجتمع الدولي لتحصيل مكاسب مالية وسياسية على حساب اللبنانيين والسوريين معاً. 

يبدأ العام الدراسي السوري ومعه يحتاج أكثر من 6.5 مليون طفل في سوريا إلى المساعدة، وهو أعلى رقم جرى تسجيله منذ بداية الأزمة السورية المستمرة لأكثر من 11 عاماً، بينما تستمر حكومة النظام في تجاهل حجم معاناة الأطفال والتلاميذ، فتكرم أسماء الأسد المتفوقين في سوريا في حفل أنيق، من دون الاكتراث بآلاف الطلاب الذين لا يملكون حتى فرصة الذهاب إلى المدرسة في محاولة لتصدير صورة مشرقة عن سوريا، هي في الواقع العكس تماماً ولا تنطبق سوى على قلة من التلاميذ.

إقرأوا أيضاً: