fbpx

رحلت إليزابيث سليلة فيكتوريا… فماذا عن المملكة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد أن يزول التعاطف مع الملك الجديد لرحيل والدته كيف سيراه الناس، هو والملكية؟ ومع الأزمات الاقتصادية الشديدة التي تمر بها البلاد، هل سيخلق ذلك شعوراً سلبياً تجاه الأسرة المالكة المرفهة؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يبدُ محتملاً أن تصبح وليةً  للعهد فعمها، إدوارد، كان وريث العرش، وليس والدها. لكن، من أجل أميركية مطلقة وقع في غرامها في بلدٍ لم تقبل كنيسته الطلاق، تخلى إدوارد الثامن عن العرش لأخيه بعد أقل من عامٍ من جلوسه عليه، وأصبح جورج السادس، ملكاً مكانه عام 1937، لتصبح ابنته الكبرى إليزابيث وليةً للعهد. في تقلبات القدر هذه مؤشرٌ لما كان آتياً في حياة الأميرة التي ستصبح ملكةً قبل أن تتم السادسة والعشرين. البلد الذي ولدت فيه الأميرة إليزابيث عام 1926 كان غير ذلك الذي جلست على عرشه عام 1952، وبين عالم 1952 وعالمنا الذي تركته الآن، بَونٌ شاسع يكاد يُعجزُ الوصف. لكن سليلة الملكة فيكتوريا تميزت بشخصيةٍ جاهزة للعمل السياسي، وإن كان دورها نظرياً فوق السياسة، إذ عُرفت بالمرونة والقدرة على ضبط نفس. وسواء كانت قدرات الملكة إليزابيث الثانية السياسية  فطرةً فيها أو مستقاة من مستشارين قديرين، فالنتيجة واحدة. عدا حكمها الأطول في تاريخ بلادها، هي ربما أنجح من جلس على هذا العرش وساهم في تثبيته، برغم رمزية دوره، لذلك إن قدرتها في وجه المتغيرات الكثيرة تصعّب مهمة خَلفها وتترك أسئلةً عن مستقبل العرش والملكية فيما يرى البريطانيون بلادهم مقبلةً على أزمة تلو الأخرى.

على الأقل بعضٌ من قدرات الملكة الراحلة موروث من بيتٍ تمكن من دوره عبر عقود في بلدٍ تشكلت طبيعة سياسته عبر قرون. قبل ولادة إليزابيث ببضعة أعوام انتهت الحر ب العالمية الأولى، مُنهيةً معها حُكم ثلاث أسرٍ إمبراطورية في القارة العجوز: آل هابسبورغ في النمسا، آل رومانوف في روسيا وآل هوهنتسولرن في ألمانيا. آخر قياصرة البيتين الأخيرين (كما كانت ألقابهم)، نيكولاس الثاني في روسيا وفيلهام الثاني في ألمانيا، كانا في مقام جد الملكة إليزابيث، اذ كانا، كما جدها لأبيها جورج الخامس، حفيدين مباشرين للملكة فيكتوريا التي حكمت بريطانيا من 1837 حتى 1901 (من ثم الشبه الشديد بين قيصر روسيا الأخير وجورج الخامس وحضور القيصر الألماني مرض جدته فيكتوريا الذي ماتت فيه. اليوم، عدا تشارلز الثالث ملك بريطانيا الجديد، هناك ملوك كل من أسبانيا والنرويج والدنمارك والسويد من أحفاد فيكتوريا). فلِمَ سقط أحفاد فيكتوريا في روسيا وألمانيا وبقوا في بريطانيا؟ جُل الإجابة إن لم يكن كلها في الاستعداد للتغيير، بل والرضوخ للواقع السياسي وما وراءه من قيم ثقافيةٍ متغيرة تحكمه. من طرائف تاريخ آل ويندسور أصلهم الألماني. فالأسرة تنحدر من بيت هانوفر الألماني الذي نقل البرلمان البريطاني العرش إليه أوائل القرن الثامن عشر بعد تخطيه عشرات الورثة الكاثوليك، فالمطلوب كان ملكاً بروتستانتياً، والملكة فيكتوريا، الألمانية الأم، كانت من هذا البيت، ثم تزوجت ابن خالها (وابن اخو ملك بلجيكا آنذاك) الأمير ألبرت، الألماني أيضاً، وتسمي أبناءها بعائلة أبيهم: ساكس-كوبرج. لكن خلال الحرب العالمية الأولى حين تجابه الألمان والبريطانيون في ساحات القتال، ومع تزايد العداء لكل ما هو ألماني، غيرت الأسرة المالكة اسمها ل”ويندسور”، نسبة للقرية التي يقع فيها قصرهم المعروف، علماً أن ألمانيا كوحدةٍ سياسيةٍ واحدة لم تتشكل إلا في أواخر القرن التاسع عشر. ليس الغريب تغيير اسم الأسرة، لكن الغريب ونحن ننظر إليه اليوم، وبعد رسوخ القوميات الحديثة، أن هذا الفعل نجح في ستر ألمانيةِ الأسرة المالكة الطافحة، لكن من جهة كان للملكية كفكرةٍ ومؤسسة وزنها آنذاك، ومن جهةٍ أخرى كان المشهد السياسي البريطاني مختلفاً عن غيره في أوروبا.  

على عكس الدول التي تربع عليها أقرباء لهم خسروا عروشهم، بل وأرواحهم وأرواح أفراد أسرتهم (كما في حالة نيكولاس الثاني في روسيا) عرفت الجزر البريطانية تراثاً طويلاً من تحجيم سلطة الملوك. قبل أن يُعدم الفرنسيون ملكهم ويعلنوا الجمهورية  بقرنٍ ونصفٍ حاكم البرلمان الإنجليزي ملكه، سَمي الملك الحالي، تشارلز الأول عام 1649 وأعدمه، وأصبحت البلاد جمهوريةً للمرة الأولى والأخيرة في تاريخها لعقدٍ كامل، قبل أن يعود تشارلز الثاني إلى عرش أبيه المقتول. تحجيم سلطة العرش والأرستقراطية الوراثية استمرا بعد هذه الأحداث الدموية بثباتٍ وإن ببطء، وحين حاول ابن تشارلز الأول، جيمس الثاني، أن يوسع سلطانه ويعاند البرلمان وهوية البلاد البروتستانتية (وهو الكاثوليكي)، أطاح به البرلمان واستبدله بابنته وزوجها عام 1688 فيما عٌرف بـ”الثورة المجيدة”. 

لذلك حين انتهت الحرب العالمية الأولى  عام 1918، على عكس روسيا وألمانيا حيث الَملَكيات مطلقة، لم تكن هناك حاجةٌ لإزاحة صاحب العرش أو العرش نفسه، فالقرار مكانه البرلمان والحكومة التي يختار. بل وكما قبل قرنين حينما اختار البرلمان وريثا ألمانياً بروتستانتياً للعرش ذا قرابة بعيدة، متخطياً الورثة الشرعيين الكاثوليك. عام 1937 كانت الحكومة هي من خيّرت الجالس على العرش، إدوارد الثامن، بين البقاء مكانه أو البقاء مع رفيقته الأمريكية المطلقة. لذلك، مثلاً لا حصراً، معروف أن الملكة اليزابيث رأت في “العدوان الثلاثي” على مصر عام 1956 ضرباً من الجنون لكن لم تعتبر أن لها إيقاف ذلك أو الاعتراض عليه علناً، ومعلوم أيضاً ان علاقتها بمارغريت ثاتشر رئيسة “وزرائها” الشهيرة لم تكن جيدة لكن هذا شأن ابقته الملكة لنفسها (اللهم إلا في تسريبات صحافية تثير الريبة في كونها “خطأ”)، بل إنها حضرت جنازة ثاتشر  عام 2013، وهي ثاني وآخر جنازة سياسي تحضرها، الأولى كانت لونستون تشيرشل في الستينات. 

أبعد من الوظيفة…

خلقت إليزابيث الثانية دوراً لنفسها ذهب أبعد من حدود “وظيفتها”، بل كانت مركز ثقل وثبات بين تغيرات متسارعة نجحت في مجاراتها. وُلِدت الملكة في بلدٍ كان يحكم ربع العالم مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، وكان القوة السياسية الأبرز على مسرحه، وحين صعدت للعرش كان البلد نفسه يخسر امبراطوريته بسرعة، وقد تراجعت مكانته في الساحة الدولية خلف الأميركيين والسوفيت. 

كانت بريطانيا تعاني ضائقة اقتصادية حادة من أثر الكلفة المرعبة للحرب العالمية الثانية والدمار الهائل الذي خلفته. ساهمت الملكة الشابة في احتفاظ بريطانيا بمكانة تفوق حجمها الحقيقي. ترأست الملكة “منظمة الكومنويلث” التي تعود جذورها لعشرينيات القرن الماضي، وربطت بريطانيا بمستعمراتها ومناطق نفوذها السابقة، ولعبت دوراً دبلوماسياً مهماً في تجسيد علاقة بريطانيا، حرفياً من خلال دورها الشخصي، بهذه البلاد التي خرجت من الامبراطورية. مَثّل نفوذ بريطانيا في هذه المؤسسة التي تضم اليوم 54 بلداً ورقةً أساسية في سياستها الخارجية. 

التأقلم مع ما بعد الإمبراطورية رافقه تعامل مؤسسة الملكية مع واقع إعلامي، ومن ثم ثقافي، جديد، بدت هذه السيدة المولودة في عشرينات القرن الماضي قادرة عادةً على التعامل معه. تتويجها عام 1953 كان أول حدث من نوعه يذاع على التلفزيون، بقرار منها، زوجها الأمير فيليب ساهم في إدارة الحدث وأيد الفكرة  بينما عارضها رئيس الوزراء آنذاك ونستون تشيرشيل. تشيرشيل، الأرستقراطي المحافظ، الذي كان في وزارته الأخيرة وقد اقترب عمره من الثمانين سنة، رأى أن عرض طقوس التتويج الكنسية على الشاشة سيكشف عن الملكية هالة القداسة المحيطة بها وأن مجرد وجود الكاميرات وأضوائها قد يزعج صاحبة التاج. ربما كان على حق ساعتها، لكن رؤية الملكة كانت أبعد،  كانت تدرك أن الصورة والأداء مفتاحان للمشهد السياسي في عصر ثورة الاتصالات، ادركت إليزاببث ابنة السابعة والعشرين ذلك يومها، حين كانت تلك الثورة في أوائل بداياتها. 

نجحت الملكة في استغلال الإعلام للتقرب للناس، ومحاولة الظهور ببعض “العادية”. عدا تقليد خطاب عيد الميلاد الذي بدأه جدها جورج الخامس والذي أدته كل عام بنصٍ مختصر مكتوب بعناية، أنتجت، أو سمحت بإنتاج، عددٍ من الأفلام الوثائقية عن حياتها العائلية. أول هذا النشاط كان في الستينات، وللمرة الأولى رأى البريطانيون ملكتهم تمارس دورها أماً وزوجةً مع أفراد أسرتها. وفي كل مناسبة كانت تحرص على الحديث مباشرةً مع أكبر عددٍ ممكن من الناس بغض النظر عن مكانتهم الإجتماعية، وكانت ناجحة في أحيان كثيرة في كسر الجليد الذي يُتوقع أن يفصل الناس عن ملكٍ أو ملكة دون تقليلٍ من مكانتها. لكن هنا أيضاً كانت الصورة أكثر تعقيداً مما تبدو، سواء بالنسبة إلى شخص الملكة أو المشهد البريطاني العام. في نشاطها الإعلامي والخيري وظهورها المتكرر مع “رعاياها” كانت الملكة تسبق من ينتقدها بتهمة الاستعلاء على الناس من فوق العرش، لكنها بالنزول إلى “العامة” كانت أيضاً تؤكد، بقصدٍ أو دون قصد، أنها فوق الناس، هناك من سيرى ذلك تفضلاً محموداً وهناك من سيراه مؤشراً لمؤسسة هي قمة منظومة طبقية يجب التخلص منها.  

الملكة والطبقية

صحيح، عبر الثلاثين عاماً الماضية لم يمثل التيار الجمهوري، أي الراغب في إلغاء الملكية، أكثر من ربع البريطانيين، لكنه موجودٌ بثبات منذ عشرينات القرن الماضي. طبقية المجتمع البريطاني وإن كانت قويةً إلى اليوم تضعف وإن ببطء. إن كانت خمسينات القرن الماضي زمن مِحنٍ اقتصادية وتعايش مع ما بعد الإمبراطورية، فمما ميز الستينات هو التمرد على التراتبية الاجتماعية القائمة وتعريتها عبر وسائل الإعلام. كان مُحتماً أن يتجرأ الإعلام على كل مغلقٍ ومُخبأ، خاصة في بلد ذو تقاليد ديمقراطية راسخة عرف صراعاً طبقياً مستعراً عبر قرون. في  ربيع عام 1963، على يد أحد أعضاء البرلمان، خرجت إلى العلن فضيحة علاقة بين وزير الدفاع آنذاك جون بيرفيومو، وفتاة شابة، كانت أيضاً على علاقة بضابط استخبارات روسي. بيرفييومو قابل كريستين كيلر ابنة التاسعة عشرة ، التي اشُتبه في كونها جزءاً من شبكةٍ للدعارة، في حفل ماجن قي أحد قصور الأرستقراطية البريطانية، مقر الفيكونت أستور  (و”الفيكونت” أعلى مقاماً من “اللورد”). خشية قوانين تحمي الحريات الشخصية، لم تكن الصحافة لتغرز أنيابها في الأمر لو لم يفتحه عضو برلمان محمي بحصانته، لكن تلك السابقة وسّعت بشدة من جرأة الإعلام على شؤون النخبة البريطانية التي كان بيرفيومو أحد أعضاء قمتها بامتياز. هذه الفضيحة شبه المنسية اليوم كانت زلزالاً قلب علاقة النخبة بالصحافة وشرخ بقوة صورة النخبة الحاكمة. التجرؤ على الوزراء ورئيسهم أو رئيستهم ثم على العائلة المالكة وصولاً إلى الملكة نفسها في تصاعد منذ هذه الفضيحة إلى يومنا هذا، ومن يتابع الصحافة والإعلام البريطانيين اليوم، بما في ذلك “بي بي سي” المملوكة للدولة، سيرى ويسمع الكثير من السخرية الحادة والنقد اللاذع، هذا واقع كان من المستحيل تخيله حين جلست إليزابيث على عرشها قبل سبعين عاماً.

لكن ما كان ضرباً من الجنون البعيد حتى عن الخيال وأمسى واقعاً في عهد الملكة وأثر فيها  وفي مؤسسة العرش، كان إجبار عمها على التنازل عن العرش عام 1937 لرغبته الزواج من مطلقة، وبُعيد جلوسها على العرش عارضت زواج أختها، الأميرة مارغريت من رجل أحبته لأنه أيضاً مُطلق. لكن سرعان ما غزا الطلاق البيت الملكي، وفي عهد سقطت فيه هالة القداسة عن العائلة المالكة وصولاً إلى الاجتراء على كل خصوصية، أصبح كل ما يخص حياة هذه الأسرة مادةً مُفَضلةً للصحافة. الأميرة مارغريت التي تخلت تحت الضغط عن الاقتران بُمطَلّق تزوجت بآخر لتتطلق منه لاحقاً. بين أبناء الملكة الثلاثة وابنتها الوحيدة، ثلاثة انتهت زيجاتهم بالطلاق، واثنان، الملك الحالي تشارلز والأميرة آن، تزوجا مجدداً. أما حفيدها هاري، فتزوج من ممثلة أميركية نصف أفريقية مطلقة، من كان يتوقع هذا في ستنيات القرن الماضي ناهيك عن 1952 حين جلست الملكة على العرش؟

لكن مرة أخرى، هذا مجتمع قيد التغير، ومن يجلس على رأسه إما أن يتغير معه أو سيبدله المجتمع بغيره أو يلغي دوره. تزوجت الملكة من الأمير فيليب، قريب لها، واحد آخر من نسل الملكة فيكتوريا وابن عائلةٍ مالكة أخرى (وإن كانت قد فقدت عرشها اليوناني). ابنها الأكبر وولي عهدها كانت زيجته الأولى، من ديانا سبنسر، سليلة واحدة من أكثر عائلات البلاد ارستقراطية، بأصول تعود لأكثر من ملكٍ وملكة في إنكلترا واسكتلندا. أما حفيدها، ولي عهد البلاد اليوم، الأمير ويليام، فتزوج سيدةً من “العامة”. 

أول رئيس وزراء للملكة كان وينستون تشيرشل الارستقراطي بامتياز، لكن في عملية تغيير عمرها قرون تواصل انحسار الدور السياسي للارستقراطية. فبعد تشيرشيل، فيما عدا أليك-  دوغلاس هوم (رئيس وزراء محافظ لعامٍ واحد 1963-1964) وديفيد كاميرون (رئيس الوزارة 2010 – 2016) لم يأت أي من رؤساء الوزارة من خلفيات ارستقراطية. بل إن أهم رؤساء الوزراء المحافظين في عهد الملكة، مارغريت تاتشر، كانت ابنة بقال. في الوقت نفسه تواصل انحسار دور غرفة البرلمان العليا: مجلس اللوردات وتقليل عدد أعضائه من أصحاب الألقاب، ومن ثم العضوية، الموروثة، إلى أقلية محدودةٍ فيه. صحيح، جُل من أداروا البلاد تخرجوا من مؤسسات نخبوية معينة (لا سيما جامعة أكسفورد التي خرجت غالبية رؤساء الوزارة بعد الحرب) وبقيت الطبقية قوية في المجتمع لكن معايير الترقي الاجتماعي وتركيب النخبة تغيرت. 

لم يبدُ أن أياً من هذه التغيرات أزعج الملكة، وسواء كان ذلك عن اقتناعٍ أو عن مجاراةٍ للواقع، فالنتيجة كانت لمصلحتها. بل “تسرب” للصحافة أحياناً انها أكثر تقدمية وانفتاحاً من السياسيين. مثلاً، انتشر أنها اختلفت مع مارغريت تاتشر في الموقف من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، رأت الملكة ضرورة الوقوف بصرامة ضده بينما لم تر تاتشر غضاضة في التحالف معه. كما هو معروف، الجالس على العرش في بريطانيا هو أيضاً رأس كنيسة إنكلترا و”حامي العقيدة” كما تقول أحد ألقابه الرسمية، لكن الملكة ألقت خطاباً، يمكن اعتباره ثورياً في سياقه، عام 2002 في قصر  لامبيث، مقر كنيسة إنكلترا، قالت فيه: “إن على [هذه] الكنيسة أن  تحمي حرية ممارسة العقائد كافة في هذا البلد” (علماً أن هناك تصريحات شهيرة لابنها الملك الحالي يقول فيها إن دور شاغل العرش أن يكون “حامي حق الاعتقاد”  defender of faith لا “حامي الاعتقاد” defender of the faith المسيحي البروتستانتي حصراً، في إشارة إلى كنائس إنكلترا واسكتلندا؟ وسواء صدر هذا الموقف منها عن اعتقادٍ تقدمي أو عن تماهٍ مع بلد أصبح الملايين من مواطنيه من أديانٍ وأعراقٍ مختلفة فقد خدم مكانتها كداعمةٍ للحريات الدينية.

لكن برغم ذلك كله كان هناك مشهدٌ بدت فيه الملكة الطرف الأضعف إلى الحد الذي انخفضت فيه شعبيتها وشعبية مؤسسة العرش إلى أدنى مستوياتها لكنه يكشف أيضاً عن حنكتها ومكانتها في آنٍ معاً، تحديدا حين ماتت ديانا سبينسير طليقة ابنها الأكبر وولي عهدها في حادث سيارة عام 1997. ساعتها بدت الملكة، ولو لبضعة أيام على الأقل في مواجهة عالم لم تفهمه أمام موت غريمٍ، أي طليقة ابنها، نجح تماماً في استخدام الإعلام لمصلحته. قدمت ديانا نفسها كضحيةٍ كاملة في علاقتها مع ولي العهد وأسرته و كارستقراطية عفوية لا تعرف شيئاً من قيود مكانتها، على عكس الأسرة المالكة. لكن، وفي مشهدٍ شهير، بدأت الصورة في الانقلاب لمصلحة الملكة حين ترجلت من سيارتها وتحدثت مع المحتشدين الحزانى أمام قصر باكينغهام، الذين بدأوا بالتصفيق ما إن رأوها برغم كل ما وجهته الصحافة لها من نقد لاذع آنذاك. ثم ألقت الملكة خطاباً مدحت فيه أم حفيديها ثم ختمت ذلك كله بإحناء الرأس الملكي (حرفياً) خلال الجنازة لنعش المُتوفاة. مرة أخرى سواء كان ذلك صادراً عن حنكتها الإعلامية، أو عن نصيحة مستشارين، فقد نجحت الملكة في قلب الموقف لمصلحتها. ساعدتها هنا مكانتها في عيون الناس الذي صفقوا بشكل يكاد يكون لا إرادياً أمامها، فكل من قابل هذه السيدة سيخبرك عن حضورها القوي وقدرتها على التقرب من الناس، بل وفكاهتها ودبلوماسيتها التي لا تخطئها عين إلى الحد الذي بدت فيه أحياناً فوق الخطأ، ولا يتأتى ذلك من إلا قدرة على إنتاج صورة تنم عن ذلك.

من القادر إذاً على ملء هذا الفراغ الهائل؟ و أي أثر لغيابها في المستقبل القريب والمتوسط؟ تتشكل المملكة المتحدة من أربعة بلدان: إنكلترا، ويلز، اسكتلند، أيرلندا الشمالية. اسم “المملكة المتحدة” ومعه “بريطانيا العظمى” لم يُعرفا إلا بعد إعلان اتحاد اسكتلندا وانكلترا في دولة واحد (لا فقط تحت عرشٍ واحد) عام 1707، اليوم يبدو هذا الاتحاد مهدداً بالموت. شهدت مراسم تشييع الملكة في اسكتلندا في الأيام الماضية جموعاً حاشدة في هذا البلد الصغير (سكانه 5 ملايين). وُضع جسدها في كنيسة سانت جايلز في عاصمة البلاد إدينبره وعليه تاج اسكتلندا (لا انكلترا) و يتحدث عنها الناس كـ”ملكة للاسكتلنديين” (من المفارقات أن الكنيسة هذه هي نفسها التي بدأت منها في تموز/ يوليو 1637، بسب محاولة فرض نص معين للطقوس المسيحية،  سلسلة الحروب التي  انتهت، كما ذكرنا، بقطع رأس أحد أسلافها، تشارلز الأول، الذي كان ملك انكلترا واسكتلندا معاً. و ألقى الملك تشارلز  الثالث خُطبةً امام البرلمان الاسكتلندي بعد تلقيه العزاء منه، البرلمان الذي لم يكن موجوداً حين تولت والدته الراحلة السلطة. الأعلام المرفوعة كان جلها أعلام اسكتلندا، لا المملكة المتحدة. نظرياً يسعى، حزب الاستقلال الاسكتلندي للبقاء تحت حكم تاج آل ويندسور بينما تخرج بلاده من الاتحاد الكامل مع انكلترا، مُنهياً بذلك المملكة المتحدة. لكن إليزابيث الثانية كانت نصف اسكتلندية مباشرة (امها ارستقراطية اسكتلندية) إلى عشقها للاقامة في هذا البلد وتقربها لأهله، ومعروف أيضاً أنها، وإن دون تصريحٍ علني، تنفست الصعداء حين فشل استفتاء على استقلال اسكتلندا عام 2014 في نيل الأغلبية المطلوبة. اليوم هناك حالة واسعة من الحزن على الراحلة والتعاطف مع عائلتها، لكن ماذا بعد مرور هذه الموجة؟ وعدا الرغبة القوية في الاستقلال في اسكتلندا ماذا عن التيار الجمهوري فيها، الأقوى بكثير من نظيره الإنكليزي؟ بعد خروج اتحاد بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يبدو خروج اسكتلندا من المملكة المتحدة مسألة وقت، بخاصة بعد وفاة الملكة التي لا تقارن شعبيتها وحضورها بابنها. أما الموقف في أيرلندا الشمالية في ضوء تاريخها من العنف بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي ومن ثم أزمة إعادة رسم الحدود مع جمهورية أيرلندا، فينذر بما لا تحمد عقباه.

ووراء البحار لا تختلف الصورة، هناك حديث عن انفصال كامل  في أكثر من دولة من “توابع التاج”، البلدان المستقلة الأربعة عشر التي تتبع التاج البريطاني، خاصة  في جاميكا وكذلك في استراليا وكندا، وإن سلكت هذه الدول هذا الطريق فلِمَ لا يتبعهم غيرهم؟ وأي إضعافٍ لمكانة بريطانيا سيعنيه ذلك؟ صحيح أن سلطة العرش البريطاني هنا رمزية اسمية، لا أكثر، لكن شخص الملكة كان رابطاً قوياً ذا شعبية. الآن لا وجود لهذا الرابط. 

وماذا عن قلب مُلك آل ويندسور، في انكلترا؟ حين تولت إليزابيث الثانية العرش عام 1952 قال استطلاعٌ للرأي أن ثلث البريطانيين اعتبروها مُعينةً من الله، لو سئل الناس عن ذلك عن سابقيها على العرش حين جلوسهم عليه لكانت النسبة أعلى قطعاً، ولو سئلوا اليوم ربما كانت النسبة صفر. ماذا بقي، إن بقي شيء، من القداسة التي كانت لشاغل العرش الممسوح على رأسه بالزيت المقدس في طقس التتويج الكنسي؟ بعد أن يزول التعاطف مع الملك الجديد لرحيل والدته كيف سيراه الناس، هو والملكية؟ و مع الأزمات الاقتصادية الشديدة التي تمر بها البلاد، هل سيخلق ذلك شعوراً سلبياً تجاه الأسرة المالكة المرفهة؟ هل يبقى أكثر الناس على تبجيل الملكية؟ تشارلز الثالث أكد احترامه حجم دوره، كما تنص أعراف البلاد السياسية بالفعل، لكن هل ينجح في موازنة احترام الحدود والإبقاء على دورٍ مطلوب؟ هل يتمكن من تحقيق شرعية سياسية دون ممارسة السياسة كما فعلت الملكة الراحلة؟ 

إقرأوا أيضاً: