fbpx

الفنّ الشمولي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يميّز مؤسِّس الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني بين نوعين من الفن؛ جيّد وسيّئ أو جميل وقبيح حيث يقول: “الفنّ الجميل والجيّد يسحق الرأسمالية والشيوعية اللتين تحاولان تدمير إسلام الرفاه والرخاء وإسلام الانتقاء والإسلام الوسطي”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ناقش المؤرّخ الروسي إيغور كولومستوك Igor Golomstock، في كتابه “الفنّ الشمولي” ظهور هذا الفنّ وسياق تطوّره ومن ثم مناقشته ودراسته، وقد أخذ نماذج من الفنّ الشمولي في الاتحاد السوفياتي، وألمانيا النازية، والصين الماوية، والنظام البعثي في العراق. في هذا المقال، سنتناول أمثلة من هذا الفن في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

إنّ الأنظمة الشمولية والتي تطرّقت إليها حنة آرندت بدقة في كتابها “أصول الشمولية الصادر 1951” هي أنظمة سياسية قائمة على أيديولوجية شاملة، وفي الغالب لها نظرة عالمية عابرة للحدود، ولا تقتصر على مناطق سيادتها. هذه الأنظمة ليست بالضرورة غير قانونية؛ ما يعني أنّها قد تكون جاءت بأساليب ديمقراطية ونتيجة للانتخابات، وكمثال على ذلك نجد كيف أنّ نظام هتلر قد تشكّل بعد فوز الحزب النازي في الانتخابات الألمانية.

هذه الأنظمة تستخدم الحكومة لدفع أيديولوجيتها قُدُماً، إذ تستخدم الكتلة الأكبر في الحكومة لصالحها. تبعاً لذلك، كان تحقيق نظام شيوعيّ عالميّ الهدف الرئيس للشيوعيين بعد استيلائهم على السلطة في الاتحاد السوفياتي.

وبالشكل ذاته، لم يكن نظام الجمهورية الإسلامية يسعى إلى الاستيلاء على السلطة في إيران فقط، إنما كانت السلطة وسيلة لدفع الأيديولوجية باتجاه أمر أعظم وهو تأسيس نظام تحت مسمّى “الإسلام العالمي”. وبالتالي، يمكن إدراك مجموع المفاهيم مثل؛ تصدير الثورة وتهيئة الأرضية للظهور العالمي للإمام المهدي، وأيضاً يمكن فهم التدخّلات الإقليمية وحكومة الله العالمية، وعلى غرار الأمثلة الأخرى للأنظمة الشمولية، فلدى نظام الجمهورية الإسلامية نموذج جامع وشامل لتغيير أبعاد النظام السياسيّ والاجتماعي في مناطق نفوذها.

وبناء على ذلك تم تشكيل السياسة الإسلامية، وأسلمة الاقتصاد، وأسلمة العلوم الإنسانية، والفنّ الثوريّ، ومجموعة واسعة من المصطلحات المتعلّقة بالثورة الإسلامية الإيرانية، والتي كانت خلال العقود الماضية أساس سياسة هذا النظام في إدارة المجتمع. وبالمثل فإنّ أيديولوجية النظام الشموليّ تستند دائماً إلى افتراض وجود نظام أيديولوجي منافس، إذ يكَنّ له العداء في جميع الجوانب الحياتية الاجتماعية والسياسية لضمان استمرارية النظام وبقائه. لذلك ينبغي توجيه جميع مقدّرات البلاد بما يعكس أهداف النظام الأيديولوجية ومنافسته مع النظام الآخر للحفاظ على بقائه.

تمثال من الشمع للخميني في طهران

الخميني والفن

يميّز مؤسِّس الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني بين نوعين من الفن، جيّد وسيئ أو جميل وقبيح، حيث يقول: “الفنّ الجميل والجيّد يسحق الرأسمالية والشيوعية اللتين تحاولان تدمير إسلام الرفاه والرخاء وإسلام الانتقاء والإسلام الوسطي”.

وجد كولومستوك لأوّل مرة في مكان عمله بمكتبة أطفال في متحف بوشكين بروسيا أنّ لديهم نوعاً معيّناً من الفنّ تحت مسمّى الفنّ الكلّي أو الشمولي. وعند زيارة طلاب المدارس للأعمال الموجودة في مكتبة الأطفال، اكتشف أنّه وعلى رغم حجم التعليم الفنّي الكبير المتاح للأطفال في ذلك الوقت، إلا أنّهم لم يستطيعوا التمييز بين الفنّ الشيوعي والأعمال الفنية الألمانية النازية، إذ تم تضمين هذه الأعمال في مجموعة واحدة من وجهة نظرهم.

يقول كولومستوك حول هذا: “في أعماق هذا النظام الشمولي وفي أعماق بطن هذا الحوت، توصّلت إلى الفكرة الرئيسة لهذا الكتاب، وهي أنّ هناك الكثير من أوجه الشبه بين فنّ الاتحاد السوفياتي والنازية الألمانية على رغم العداء الأيديولوجي القديم”.

“الواقعية الشمولية” هي فنّ يدّعي أنّه يعبّر عن الواقع، لكنّه واقع من وجهة نظر النظام الشمولي فقط، ومن ثمّ فإنّ الدولة في النظام الشمولي، مسؤولة عن توجيه الفنانين إلى أهداف النظام بشكل مباشر

إنّ الفنّ في النظام الشمولي من وجهة نظر كولمستاك ليس فنّاً  ظهر خلال فترة الحكم العسكري هذه، لكن ربما يكون هذا الفنّ قد تم إنشاؤه بدستور هذا النظام وحمايته، مباشرة لدعم النظام والترويج له ولأيديولوجيته.

إنّ هذا (الفنّ المخصّص) لا يمتّ بصلة إلى الإبداع الشخصي للفنان، لكن ونتيجة هيمنة النظام السياسي الحاكم في مجال الفنّ وتوجيه الفنانين في اتجاه معين، بهدف إنتاج أعمال تمثّل أيديولوجية النظام، فإنّ هذا النوع من الفنّ لا يدوم، وبمجرد أُفول النظام الشموليّ تفنى هذه الأعمال أو يتم نقلها إلى زاوية في المتاحف ومراكز الأبحاث، وبالتالي فهي لا تحظى بقيمة فنية معينة، وليس لها سوى القيمة التاريخية والبحثية.

كان موسوليني أوّل زعيم لنظام شموليّ أدرك أهمية استخدام الفنّ لتعزيز أهداف نظامه الشمولي في إيطاليا الفاشية، وفي وقت لاحق قام النازيون الألمان والشيوعيون السوفييت بتنفيذ كامل الفكرة في أنظمتهم، ما أدى إلى إنشاء عدد كبير من الأعمال المعروفة الآن باسم “فنّ الحقبة النازية” و”فنّ الحقبة السوفياتية” ويتم الاحتفاظ بها في المتاحف وليست لها أهمية فنيّة تذكر.

كما أشار كولمستوك في ملحقات كتابه إلى أمثلة عن الفنّ الشمولي في العراق خلال زمن صدّام، ونموذج “قوس النصر” في بغداد، وقد تمت إضافة وصف شامل لهذا العمل من قبل كنعان مكية أستاذ الفن المعماري والتمدّن الإسلامي العراقي في مقال له بعنوان: ما هو الفنّ الشموليّ؟.

قاعدة قوس النصر وهي عبارة عن خوذات جنود إيرانيين وتنتصب فوقها يد عملاقة تجسّد يد صدّام حسين

صدّام وتماثيله

تم إنشاء قوس النصر في بغداد عقب انتهاء الحرب العراقية مع إيران في إحياء ذكرى هذه الحرب، وهذا القوس هو عبارة عن سيفين ضخمين في ذراعين ضخمين من البرونز، تبرزان من طرفي الشارع وتتصلان منتصفه، وكان شكل الذراعين نموذجاً ليدي صدّام، ومثالاً على انتصاره في حربه التي دامت 8 سنوات مع إيران، والتي كانت قائمة على بروباغندا حزب البعث في ذلك الوقت، وفي أرضية نقطة اتصال الذراعين بالأرض ثمة خوذات حديدية لجنود إيرانيين كدليل على هزيمتهم.

صدّام نفسه مرّ على ظهر الحصان تحت هذا القوس في حفل افتتاح هذا النصب، ثم تم إهمال هذا العمل الفني بعد سقوط صدّام وتعرّض للتخريب مرّات عدة من قبل جماعات شيعية مسلّحة، وبالمثل تمّ تدمير وتخريب الكثير من تماثيل صدام في المدن العراقية المختلفة.

يلخّص كولمستوك في بحثه أوجه التشابه في الفنّ الشمولي في إيطاليا، ألمانيا، الصين، الاتحاد السوفياتي، ومن ثم العراق زمن صدّام.

“الواقعية الشمولية” هي فنّ يدّعي أنّه يعبّر عن الواقع، لكنّه واقع من وجهة نظر النظام الشمولي فقط، ومن ثمّ فإنّ الدولة في النظام الشمولي، مسؤولة عن توجيه الفنانين إلى أهداف النظام بشكل مباشر، كما يتم تشجيع الفنانين على التمتّع بروح المسؤولية ويُطلب منهم أن يكونوا فنّانين ملتزمين وأن يُنتجوا فنّاً ملتزِماً.

ّفعلى سبيل المثال يعرّف مؤسِّس الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني الفنّ بهذه الطريقة: “إنّ الفنّ هو نفخ روح الالتزام في الإنسان”، وهذا تناقض جوهري مع واقع الفن الذي ينبع من الذات المبدعة للفنّان وعلى أساس مركب -أحياناً متناقض- مع مختلف الاتجاهات الفنية والثقافية في المجتمع.

هذا الأمر هو بالضبط وجه الاختلاف بين “الفنّ في التاريخ الحضاري الإسلامي” و”الفنّ الأيديولوجي في الجمهورية الإسلامية”، إذ يعتمد الفنّ الإسلامي في تركيبته على الجمع ما بين الطبيعيّ والإبداعيّ، والفنّ الإسلاميّ مع الفن المسيحي والزرادشتي ومجموع الفنون المحلّية في المناطق الإسلامية حيث أخذ شكله من هذا المجموع، ونتيجة لهذا الجمع بين العناصر الفنية فقد أعطاه نوعاً من الشعرية والواقعية Defamiliarization كما هو من منظور الناقد الأدبي الروسي فيكتور شكلوفسكي، والذي يعتبره جوهر العمل الفني.

يفرض الفنّ الشموليّ – وبسبب توجهه السياسي – بنية متكرّرة وتقليدية من وجهة نظر النظام الشمولي، وهذا هو بالضبط ما يجعله غير مستمر، ويجعل سقوطه مع سقوط النظام السياسي الحامي له حتمياً.

تمثال يتهكّم على تمثال الحريّة الأميركي – طهران

كلما زاد الاستبداد كثرت الرسومات

هكذا وبالنظر إلى تاريخ فنّ الثورة الإسلامية في العقود الأربع الماضية، فإنّنا نشهد زوال عدد كبير من الأعمال الفنية التي أنتجت في هذه المرحلة بسبب افتقارها للإبداع الفني، فعلى سبيل المثال فإنّ الانتشار الواسع للوحات والصور الفوتوغرافية الخاصة بالشخصيات المتعلّقة بالثورة الإسلامية والتي ملأت الجدران على طرفي الشوارع في المدن الإيرانية المختلفة خلال عقد الثمانينات من القرن الفائت خصوصاً، قد زالت تدريجياً ولم يبق لها أي أثر فني يُذكر.

كذلك الأمر في ما يتعلّق بالكثير من التماثيل والمجسّمات والمنحوتات الفنية المختلفة المتعلّقة بحرب الـ8 سنوات بين إيران والعراق والتي تم نصبها في مختلف المدن الإيرانية تدريجياً في عقد التسعينات من القرن الماضي، وعلى الرغم من الجهود اللاحقة للحفاظ على تراث وفنّ الحرب على شكل أعمال فنية، إلا أنّنا لم نشهد إنتاج أعمال وروائع فنية في هذا المجال، وأصبحت معظم هذه الأعمال مجرّد آثار للمراجعات والبحوث التاريخية.

هذا أيضاً ينسحب على مجال الشعر، ومن بين أعمال الشعراء المعروفين للثورة الإسلامية، لم يبق أي عمل بما يوازي الروائع الفنية للشعراء “غير الثوريين” من أمثال أحمد شاملو وسهراب سبهري ونيما يوشيج وغيرهم.

“بالنظر إلى تاريخ فنّ الثورة الإسلامية في العقود الأربع الماضية، فإنّنا نشهد زوال عدد كبير من الأعمال الفنية التي أُنتجت في هذه المرحلة بسبب افتقارها للإبداع”

في مجال السينما، ومن بين الأعمال المختلفة المعروفة باسم “سينما الدفاع المقدّس” استطاعت أفلام قليلة أن تخرج عن الإطار الأيديولوجي لنظام الجمهورية الإسلامية وإضافة بعض المضامين الإنسانية إلى سرد الحرب، وبالطبع فإنّ هذا النوع أيضاً اعتبر من الأفلام الثورية التي تم إنتاجها من قبل الثوريين (وفي مواضع كثيرة غير مقبولة)، ومن أبرز الأمثلة لهذه النوعية من الأفلام أعمال إبراهيم حاتمي كيا من قبيل فيلم (کرخه تا راین/ من الكرخ وحتى الراين) وفيلم (بوی پیراهن یوسف/ ريح قميص يوسف). والمصير ذاته ستلقاه مجموعة الأفلام الدينية المختصة عن الثورة الإسلامية.

في المجال المعماريّ، تُظهر مقارنة بين الهندسة المعمارية المستخدمة في ما بين مزارات الأئمة الشيعة وهندسة مزار آية الله الخميني، حيث تظهر بوضوح حقيقة أنّ الهندسة المعمارية الأولى تنبع من روح الفنّ الخلاق الذي هو نتيجة تراكم فني ومجموع الثقافات السابقة وتشكلت من خلالها، لكن النموذج الثاني يفتقر إلى هذه الروح الخلاّقة والمبدعة.

إضافة إلى ذلك، فمن الواضح أنّ هذا العمل هو نسخة مستنسخة تفتقر إلى الإبداع. في البداية وعقب وفاة آية الله الخميني، تم بناء المزار بشكل مكعب وبوشاح أسود يغطيها بما يدعها قريبة من بناء الكعبة، ثم وخلال العقود الماضية تم بناء نموذج تقليدي يشابه مزارات الأئمة الشيعة والتي لم تنجح في إضافة قيمة فنية لما كانت عليه مزارات الأئمة الشيعة.

في الواقع فإنّ الفنّ الشمولي وبسبب لجوئه إلى خلق نسخة واحدة وتوجّه واحد للفنّ ودعوته الجميع إلى عكس الشكل والصورة ذاتهما في الأعمال فنية لخلق “ديكتاتورية الذوق الفني”، على حدّ تعبير الشاعر الروسي فلاديمير مايكوفسكي، وتحويل الفنّ إلى عملية مكرّرة وواحدة بطريقة تسمح بمعرفة أهداف هذه الأعمال بشكل مباشر ومن دون عناء التنبؤ وغياب عنصر المفاجأة في هذه الأعمال.

ترجمة – عباس علي موسى

هذا الموضوع تمت ترجمته عن موقع aasoo.org ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

إقرأ أيضاً:
من الإعدام على الملأ إلى القتل في غرف مغلقة: سلب الحياة في إيران
كيف تشكّلت الحركة النسوية في إيران ما قبل الثورة الإسلامية؟