fbpx

الوجوه الأربعة لتشومسكي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لنعوم تشومسكي أربع شخصيات، لا شخصية واحدة. شخصيتان يعرفهما العرب جيداً، وشخصيتان خارج دائرة الاهتمام العربي الذي ينتقي من تشومسكي ما يريد رؤيته وسماعه فقط.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ما أصعب الحديث عن شخصيه مثل نعوم تشومسكي.

فكيف يمكن اختصار مثقفٍ عليك أن تقف في الطابور ثلاث سنوات حتى تحصل على موعد لحديث صحافي معه، في مقالٍ قصير. مثقف يتحدّث بثقة منقطعة النظير من دون أن تحس ولو بخيط دقيق من الشك في ما يطرحه من معلومات وآراء. كما أنه قادر على انتزاع تصفيق المستمعين وإعجابهم في ثوان حتى إذا كان يكرّر الأفكار ذاتها في كتاباته ومقابلاته وأحاديثه.

لكن لتشومسكي أربع شخصيات، لا شخصية واحدة. شخصيتان يعرفهما العرب جيداً، وشخصيتان خارج دائرة الاهتمام العربي الذي ينتقي من تشومسكي ما يريد رؤيته وسماعه فقط.

الشخصية الأولى هي عالم اللسانيات الفذ الذي غيّر تاريخ البحث اللساني وابتكر نظريات في اللغة والنحو تثير إعجاب المختصين.

أما الشخصية الثانية، فذلك الناقد العنيف للسياسة الخارجية الأميركية والهيمنة الغربية وانتهاكات حقوق الإنسان في دول العالم الثالث.

لكن هناك شخصية ثالثة هي شخصية الموظّف الذي يعمل في مؤسسة مموّلة من وزارة الدفاع الأميركية والمخابرات الأميركية، التي لا يكف عن نقد تدخّلاتها وانتهاكاتها.

أما الشخصيه الرابعة الأقدر على تفسير تشعّبات فكر تشومسكي وتناقضاته فهي شخصيه الفوضوي Anarchist. والفوضوية Anarchism هي المدرسة الفلسفية التي ينتمي إليها تشومسكي، هي باختصار أيديولوجية مثالية تؤمن بإلغاء كل أنواع السلطات والحكومات، وتنادي بمجتمع محكوم ذاتياً عبر نقابات يشكّلها المواطنون وينادون بسيطرة العمّال على الشركات والمصانع والمؤسسات الاستثمارية وإدارتها من الأسفل.

كان العهد الذهبي للفوضويين هو القرن التاسع عشر عندما نجحوا في اغتيال سلسلة كبيرة من كبار رؤساء وملوك الدول أدّى آخرها إلى انفجار الحرب العالمية الأولى. ويعود النقد العنيف الذي يوجّهه تشومسكي للإدارة الأميركية والرأسمالية العالمية إلى نزعته الفوضوية.

ينتقد تشومسكي “نظرية المؤامرة”، لكنه في الحقيقة المرجعية الثقافية الأشهر لنظرية المؤامرة. فهو يؤمن بوجود طبقة خاصة تحكم العالم مكوّنة من أقلية من الرأسماليين والعسكريين ومسؤولي الدعاية الذين يحرصون على إبقاء الأميركيين وغيرهم من الشعوب خائفين وفقراء ومضلّلين.

تشومسكي هو الواجهة الأكاديمية للنسخة الشعبية لنظرية “حكومة العالم الخفية” التي تتلاعب بمصائر الشعوب وعقولهم من مركز خفي في واشنطن. أما السلاح الرئيسي للطبقة التي تحكم العالم فهو “الدعاية”. فوسائل الاعلام الرئيسية من وجهة نظره ليست حرة ولا مستقلة ولكنها أدوات في يد كبار الرأسماليين لضخ المعلومات المضلّلة بشكل يومي إلى عقول المشاهدين والمستمعين الذين لا يملكون القدرة على مواجهة الدعاية أو تفنيدها.

يستطيع أي دارس للإعلام استيعاب أن تشومسكي يعتمد على نظرية إعلامية قديمة جداً هي نظرية “الرصاصة  السحرية”. بموجب هذه النظرية فأي رسالة تبثها وسائل الإعلام يتلقاها الجمهور ويصدّقها. لكن الدراسات التالية لتأثيرات الوسائل الإعلامية بيّنت أن الناس كانوا يسلكون في أحيان كثيرة، سلوكاً مخالفاً لمضمون وسائل الإعلام، ما أدّى إلى سقوط نظرية الرصاصة السحرية وحذفها من مجال دراسات الإعلام والرأي العام.

“العرب يقرأون تشومسكي لا ليسمعوا منه شيئاً جديداً بل ليسمعوا الأفكار ذاتها التي يؤمنون بها. يقرأ العرب تشومسكي ليبرّروا لأنفسهم صوابية إيمانهم الأعمى بنظرية المؤامرة”

أما وجهة نظره في الإرهاب فهي الأكثر شهرة في الوطن العربي وهي تتناغم مع وجهة النظر الإسلاموية واليسارية العربية التي ترى أن الإرهاب مجرّد صناعة مخابراتية ستنتهي، ما إن ترفع مخابرات هذه الدول يدها عن الشعوب المقهورة. لكنه في الوقت ذاته يتناقض مع نفسه ويؤمن بأن العمليات الارهابية ضد الغرب هي رد فعل للسياست التدخّلية العنيفة للقوى الكبرى، وانتقام الضعفاء من التاريخ الاستعماري الطويل للغرب.

وعلى رغم أنه من الصعب جداً الجمع بين الفكرتين المتناقضتين (الفكرة التي ترى الإرهاب صناعة مخابراتية بمعنى أنه من أدوات انتقام الأقوياء من الضعفاء، والفكرة المضادة أن الإرهاب انتقام الضعفاء من السياسات الاستعمارية) إلا ان تشومسكي يجمع بينهما.

من داخل نزعته الفوضوية، انطلقت حملته المطالبة برفع القيود عن المخدّرات المحظورة دولياً. فالحرب التي تطلقها الدول العظمى ضد المخدّرات هي، من وجهة نظره، حرب ضد الفقراء والمحرومين ووسيلة لفرض الهيمنة الغربية العالمية على الشعوب لأن الفقراء هم المستهلك الأكبر للمخدّرات! وهذه الحرب يجب أن تتوقف وأن يتم تشريع تعاطي كل أنواع المخدّرات بما في ذلك الأفيون والكوكايين أسوة بالكحول والسجائر.

ولكي تكتمل الباقة الفوضوية لتشومسكي لا يمكن أن نهمل نظريته في “عبودية الأجور”. فهو يرى أن العبودية لا تزال مستمرّة في شكلها الجديد المتمثل في الأجور والمرتبات. فأي موظف يعمل بأجر مع مستثمر آخر هو في الحقيقة عبد حتى إن كان يعمل في أرقى الشركات ويستلم راتباً فلكياً. ولا حل لديه للتخلّص من عبودية الأجور سوى أن يتخلّى الملايين عن وظائفهم الحالية ويؤسّسوا أعمالهم ومبادراتهم الذاتية.

تشومسكي خلال تظاهرة دعماً لقطاع غزّة عام 2012

لتشومسكي شعبية جماهيرية في العالم العربي لا تضاهيها شعبية أي مثقف غربي أو عربي. فهو المثقف المحبوب من التيارات الفكرية العربية من أقصى اليسار الماركسي إلى أقصى اليميني السلفي الإخواني.

ما سبب شعبيّته وهو لا يضيف أي معلومة جديدة إلى العقيلة العربية؟

الأرجح أن العرب يقرأون تشومسكي لا ليسمعوا منه شيئاً جديداً بل ليسمعوا الأفكار ذاتها التي يؤمنون بها. يقرأ العرب تشومسكي ليبرّروا لأنفسهم صوابية إيمانهم الأعمى بنظرية المؤامرة العالمية التي تقودها الحكومة الخفية والشركات الكبرى.

يقرأه العرب ليواسوا فشلهم بتأكيدات تشومسكي أن فشل الربيع العربي ناتج عن مؤامرة غربية مزعومة ضد أي ديموقراطية حقيقية في المنطقة (على رغم أن الدول العظمى دعمت الربيع العربي في سوريا واليمن وليبيا ومصر وأيّدت إسقاط الأنظمة القديمة)، وليغذّي عندهم الشعور بالكراهية لكل ما هو غربي قيماً ومؤسسات وأنظمة وأشخاص. وليس هناك من هو قادر على تغذية مشاعر الكراهية للغرب أكثر من فيلسوف فوضوي بارع يكره كل أنواع السلطة وكل أنواع التنظيم.

قرأت تشومسكي فترة طويلة بحب وحماسة. لكنني كلّما تعمّقت في قراءته كنت أحس بشعور خانق يقول لي إن ثمة خللاً عميقاً في أطروحات اللساني المتفرّد والفوضوي اللامع والناقد العنيف للسياسات الأميركية. وبدأت ألاحظ خلف السطور تلك النظرية العدمية وتلك القدرية المتشائمة التي تصوّر العالم سجناً محكوماً بقوى جبّارة خفية.

لكن الأخطر هو تلك اللاعقلانية التي يقدّمها تشومسكي بإطار عقلاني بارع تجعلك تؤمن بأن الإرهاب مؤامرة والرأسمالية مؤامرة والفتوحات التكنولوجية مؤامرة ومحاربة المخدّرات مؤامرة.

أستطيع القول إن تشومسكي أعاق التطوّر الذهني للكثير من العرب وصنع حاجزاً سميكاً بينهم وبين الفهم العلمي للعلاقات الدولية والإرهاب والسياسة الخارجية الأميركية. وقدّم لهم على طبق من ذهب تبريرات لإلقاء مسؤولية الفشل والتخلّف والإرهاب على المؤامرة الكونية بدلاً من أن نعي تخلّفنا ونقتلع جذور التخلف والاستبداد والإرهاب من مجتمعاتنا.

لكن أقوى رد على طروحات تشومسكي هي حياته نفسها.

فعلى رغم أنه يختصر وسائل الإعلام في وظيفة واحدة هي الدعاية والتضليل إلا أنه ضيف دائم على هذه الوسائل الإعلامية لا يكل ولا يمل من الظهور فيها وتكرار الأفكار والأمثلة والأسماء ذاتها.

وهو رافض لعبودية الأجور فلسفياً، لكنه مستسلم لها في حياته الشخصية إذ يعيش من “عبودية” راتبه الذي يستلمه من مموّلين ممثّلين للجيش والمخابرات والرأسمالية العالمية.

وفي حين يرفض الرأسمالية شكلاً ومضموناً ويبشّر بسقوطها فإنه يعيش ويكتب وينشر ويشتهر بتقنيات هذه الرأسمالية وآلياتها، ويتقاضى مبالغ باهظة من مؤسّسات الرأسمالية العالمية عن كل محاضرة أو لقاء.

تشومسكي ظاهرة مركّبة، فعلى رغم أهميته في نقد الجموح العسكري الأميركي وتحدّي الأفكار السائدة في الداخل الأميركي، إلا أنه يتحوّل آلة لنشر الخرافات السياسية والفوضوية الفلسفية ونظريات المؤامرة.

إذا جاز لي التشبيه أستطيع القول إن أفكار تشومسكي الفوضوية مثل اللقاحات، عندما تدخل جسداً سليماً تحفّز مناعته وقدرته على الرفض، وعندما تدخل جسماً سقيماً تتدهور حالته أكثر.

وربما تكمن هنا معضلة الاهتمام العربي بتشومسكي.

إقرأ أيضاً:
في حرية التعبير والإساءة والازدراء
ماذا فعل فينا العام 1979؟
ماركس لم يعد ماركسياً في ذكراه ال200