fbpx

شباب العراق بين الميليشيات والسلاح وفتوى الجهاد الكفائي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تصور -دولة ضعيفة و”حشد شعبي” قوي- هو في الواقع أمر أساسي في أوساط كثير من الشباب، وخاصة في الجنوب، لأنه يعطي خياراتهم معنى.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عادل بكوان – باحث عراقي

مع تأزّم الوضع السياسي في العراق وذهابه قبل مدة إلى مواجهة في الشارع بين التيار الصدري الذي اقتحم المنطقة الخضراء واعتصم بجوار البرلمان، وبين الإطار التنسيقي الذي يضم القوى الموالية لإيران وميليشياتها، ثم انحداره إلى مواجهة أمنية دموية كادت تنزلق إلى حرب أهلية شيعية- شيعية، يبدو الشباب العراقي أسيراً لمنطق حكم الميليشيات التي تتحكم بمفاصل الدولة، وتحدد عبر سطوتها، مستقبله ومستقبل البلاد. في ما يلي قراءة لواقع الشباب العراقي في ظل الميليشيات العراقية من ضمن دراسة طويلة أعدّها الباحث العراقي عادل بكوان، ونشرتها “مبادرة الإصلاح العربي”، بعنوان: “الشباب العراقي في سياقات الصراع: التحزب والاستراتيجيات الانقسامية واستحالة لَمّ الشمل”، وهي مستندة إلى 75 مقابلة نوعية مع عراقيين أجريت عام 2020 في مدينتي الموصل والبصرة، اللتين شهدتا أنواعاً مختلفة من الصراع، بدءاً من الصراع العنيف مع “داعش” إلى الصراع مع حركة تشرين الاحتجاجية، الذي أحدث تغييرات اجتماعية وسياسية عميقة، لا يزال تأثيرها مستمراً إلى اليوم.

أدّى المرسوم رقم 1 بتاريخ 12 أيار/ مايو 2003 الخاص بـ”اجتثاث البعث” من المجتمع العراقي، إضافة إلى المرسوم رقم 2 الذي قضى بحل الجيش العراقي، الذي أصدرته “سلطة الائتلاف المؤقتة” بقيادة بول بريمر بتاريخ 23 أيار/مايو 2003، إلى تجريد العراق من جميع مؤسساته التي كانت تمثّل تقاليد دولة امتدت على مدى قرن من الزمن تقريباً. ووفقاً لشهادة بول بريمر الشخصية، فقد استخدم هذا “التطهير” للمجتمع العراقي، هذا الفراغ، لإرساء الأسس الأولى لعملية إعادة تشكيل الدولة العراقية. وقد تم إصلاح الجيش ووزارتَي الدفاع والداخلية، وأجهزة الأمن والدفاع التابعة لهاتَين الوزارتَين، في الغالب من خلال دمج ميليشيات كانت في السابق معارِضة لنظام صدام حسين. ونتيجة لذلك، وبناء على إصرار الولايات المتحدة، صارت هذه الميليشيات تمثل العمود الفقري لدولة ما بعد صدام.

وأمام مشهد صعود “داعش” وتنامي المخاوف من استسلام بغداد لجهاديّي الخلافة، أصدر آية الله السيستاني فتوى بتاريخ 13 حزيران/ يونيو 2014، يطلب فيها من العراقيين تشكيل “حشد شعبي: للدفاع عن البلاد. كانت تلك لحظة حاسمة بالنسبة إلى الميليشيات التي صارت، بفضل هذه الفتوى، منظّمة في هيئة “قوات الحشد الشعبي”، التي تخضع رسمياً لقيادة رئيس الوزراء ولكنها مستقلة، مع استمرار تغلغلها في مؤسسات الدولة. فقد خصّصت الدولة العراقية 2.6 مليار دولار أميركي من ميزانيتها لهذه الميليشيات عام 2021، وهو ما يساوي ميزانية الخمس وزارات التالية مجتمعةً؛ وهي الزراعة والصناعة والنقل والموارد المائية والاتصالات. وفي العام ذاته، وصل عدد التنظيمات العسكرية المتضمَّنة في قوات الحشد الشعبي إلى 67 تنظيماً، تضمّ 160 ألف مقاتل يملؤون صفوف الحكومة العراقية ويسدّون النقص فيها. ومع ذلك، فإن النظر إلى هذه الميليشيات على أنها كيان متجانس ذو قيادة موحدة، أو برنامج سياسي متماسك، أو لديها استراتيجيات عمل مُنسَّقة، هو أمرٌ يتعارض تماماً مع الواقع الذي يتسم بوجود خصومات تؤجج الاشتباكات العسكرية التي ينتج عنها وفيات وإصابات بين المسلحين الشيعة أنفسهم. على هذا النحو، واستناداً إلى تحليل البيانات الواقعية عن هذه العداءات داخل الميليشيات، فقد تم تحديد ثلاث فئات مميّزة من الميليشيات، وهي: الميليشيات الموالية لإيران وميليشيات المرجعيات، والميليشيات القومية.

تسلط هذه النظرة لميليشيات قوات “الحشد الشعبي” الضوء على المجتمع المنقسم الذي لم يعُد يشترك في اللغة والرموز والمراجع وآفاق المستقبل نفسها.

عند تحليل المقابلات، يمكننا تحديد علاقة دينامية بين هذه الميليشيات وبين الشباب بوصفهم فئة اجتماعية سائدة في المجتمع العراقي. فمنذ تأسيس قوات الحشد الشعبي، دعت الشباب مباشرة إلى الاحتشاد والتنظيم والتضحية بأنفسهم من أجل “إنقاذ الوطن” من “تنظيم داعش الهمجي”. وقد لبّى الشباب، لا سيّما الشيعة منهم، بشكل إيجابي وانضمّوا بالآلاف إلى قوات “الحشد الشعبي”، مدفوعين بفتوى السيستاني ونداء الوطنية. وبين عامَي 2014 و2018، على مدى أربع سنواتٍ طوال، قاتل هؤلاء الشباب، دون أي خبرة سابقة، ضد جهاديّين محنّكين. وكانت الأسر في الجنوب تستقبل يومياً جثامين الذين سقطوا خلال المعارك. ومع أسف الأهالي وحزنهم، إلا أنهم كانوا فخورين بتضحياتهم، ودفنوا شهداءهم. فعلى هذا النحو تبدَّت عقيدة “الشهادة” في صورتها الاجتماعية خلال هذه الفترة، وأصبحت مبدأ حاسماً في ممارَسات الشباب. ومع ذلك، فقد أدى انتهاء الحرب ضد “داعش” وعودة ظهور هذه التنظيمات في الحياة اليومية، فضلاً عن إعادة انتشارها في الفضاءات الاجتماعية، إلى حدوث تحوّلات في خطابها وممارساتها وتجسُّدها، بل أيضاً في شبه التوافق بشأنها الذي كان موجوداً عام 2014.

في هذا السياق، هناك دوافع مختلفة تؤكّد التزامَ الشباب بالانضمام إلى قوات “الحشد الشعبي”. فبعضهم يقوم التزامه على أسباب أيديولوجية؛ فقد لاقت إعادة دمجهم في معسكرات التدريب التابعة للحشد نجاحاً، حتى بعد الحرب. وهذا هو الحال بالنسبة إلى كنعان، الشيعي البصري الذي يبلغ من العمر 24 سنة، وهو متزوج، ولم يحصل على شهادة الثانوية. فهو يعتقد أن “الحشد الشعبي مقدَّس. فأعضاؤه، لا سيما أعضاء سرايا السلام (وهي ميليشيا تابعة لمقتدى الصدر)، هم رجالُ صدقٍ ونزاهة، وسيضحون بأنفسهم من أجل بلدهم”. لكن بالنسبة إلى آخرين، فالعضوية شيء بدهي؛ لأن الشباب، في ظل دولة فاشلة، يبحثون عن بدائل لحماية أنفسهم. بالنسبة إلى حسين -وهو خرّيج جامعيّ شيعي من البصرة عاطل يبلغ من العمر 23 عاماً، ومتزوج ولم يُنجب بعد- فقوات الحشد الشعبي هي البديل الوحيد؛ إذ يقول: “الشباب يحملون السلاح لأن الدولة لا تستطيع حمايتهم ولا حماية أسرهم أو بلادهم. فالشباب يحملون السلاح للقيام بهذا الدور”. 

إن هذا التصور -دولة ضعيفة و”حشد شعبي” قوي- هو في الواقع أمر أساسي في أوساط كثير من الشباب، وخاصة في الجنوب، لأنه يعطي خياراتهم معنى. وقد دفع هذا حسن، وهو موظف مدني متزوج ويبلغ من العمر 25 سنة، إلى إخبارنا: “أنا أؤيد قوات الحشد الشعبي. فقد أنقذت وطننا، ومقاتلوها يحمون الدولة وأهلها. وقد ذهبتُ إلى خط المواجهة وشاركتُ في الحرب، ولكن لم أر الجيش هناك. كنا وحدنا في المقدمة، ولا أستطيع أن أنسى ذلك أبداً”.

ومع ذلك، ومنذ العام 2018 مع انتهاء الحرب ضد “داعش” وعودة هذه التنظيمات من الجبهة، هناك تغيير في تصوّرها وهويتها وتمثيلها في أوساط الشباب. فلم تعد الميليشيات المدججة بالسلاح في حالة حرب؛ وقد انتشرت في المدن محاوِلةً فرض رؤيتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية للمجتمع، التي قَبِلها قطاع من المجتمع ودَعَمها بوضوح. ومع ذلك، هناك جزء كبير جداً ونشط من الشباب رفض رفضاً قاطعاً هذه الرؤية، وكانوا على استعداد للدخول في مواجهة عنيفة ضد هذه الميليشيات.

أحمد -وهو خرّيج شاب شيعي من البصرة، متزوج ويعمل في شركة صغيرة- أحد هؤلاء الشباب الذين عبّروا عن رفضهم لما سمّوه “ارتهان الدولة للميليشيات”. فكما يقول، “يجب أن تكون الدولة هي الكيان الوحيد المسؤول عن أمننا”. وترى فاطمة، وهي طالبة جامعيّة شيعية تعيش في البصرة وتبلغ من العمر 23 عاماً، أن قوات الحشد الشعبي “تهديد حقيقي للدولة والمجتمع العراقي”، وأنها “مصدر البؤس والشقاء، لأنها تقتل وتنهب وتغتصب وتدمّر البلاد…”. وقد وثّقت منظمة العفو الدولية في الواقع دلائل تؤكّد ما تقوله فاطمة. فقد وصفت بوضوح ممارسات الميليشيات التي “أعدمَت […] خارجَ نطاق القضاء، أو قتلَت على نحو غير مشروع، وعذّبَت واختطفَت آلاف الرجال والصبيان. وجرى اقتياد الضحايا من بيوتهم أو أماكن عملهم، أو من مخيمات النازحين داخلياً، أو لدى مرورهم بنقاط التفتيش، أو من أماكن عامة أخرى. وعثر على بعضهم لاحقاً قتلى. بينما لا يزال الآلاف منهم في عداد المفقودين، برغم مرور أسابيع وأشهر وسنوات على اختطافهم“.

تسلط هذه النظرة لميليشيات قوات “الحشد الشعبي” الضوء على المجتمع المنقسم الذي لم يعُد يشترك في اللغة والرموز والمراجع وآفاق المستقبل نفسها. فمن ناحية لدينا شباب يرى في ميليشيات قوات الحشد الشعبي شيئاً مقدساً، ومخلِّصاً وملجَأً وحمايةً. ومن ناحية أخرى، لدينا شباب -مثل نادية، وهي شيعية متزوجة تحمل شهادة في القانون وتبلغ من العمر 25 عاماً- يرون في ميليشيات قوات الحشد الشعبي مجرد “قتلة ولصوص وقطّاع طرق، لا أكثر ولا أقل، ولديهم هدف واحد لا غير: تدمير البلد”. وبالتالي، فإن الفجوة بين هذين الفريقين في المجتمع هي فجوة راسخة بنيوياً. ولا شك في أن هذه الفجوة هي أحد العوامل الرئيسة وراء التزام الشباب بحركة احتجاجية غير مسبوقة.

ينشر هذا النص بالتعاون مع “مبادرة الإصلاح العربي”  

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!