fbpx

الشيخة في حضرة أم العلماء السبعة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان على الفتيات العازبات اللواتي قدمن إلى الحوزة، أن يكن حاضرات في أي وقت لمشروع زواج مستعجل. تأتي الأخت أم أحمد إلى الحوزة بعد انتهاء الدروس، تنزل ضيفة في غرفة إحدى الأخوات، فتدرك الفتيات أن طائر النصيب يحوم فوق الرؤوس. فيقمن إلى غرفهن يغتسلن ويتعطرن ويفركن أسنانهن ويسرحن شعورهن ويرتدين أحلى ملابسهن ويذهبن إليها. كانت الفتيات يداوين جراح غربتهن بالزواج. كن يبحثن في العلاقة مع الرجل عن وطن. كانت غربتهن اختيارية، لكن أشواقهن لم تكن كذلك. غريبات يفتشن في غرباء مثلهن عن وجوه وبيوت وحيوات تركنها ولم تتركهن.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تركتٌ حوزة قم مع شعور يشبه شعور النجاة من كارثة. استطعتُ ان أتخلص سريعاً من الأذى النفسي الذي سببته لي إقامتي القصيرة فيها، لكنني ظللت متمسكة بدراسة العلوم الدينية.
وقع الاختيار هذه المرة على حوزة دينية عربية. حوزة دينية عربية للنساء في طهران! خبر مثير للعجب والإعجاب! عرفت لاحقا، أن إدارتها عربيةً أيضا، وتضم شباناً وفتيات شيعة من عدد من البلاد العربية، استدرجتهم الجهورية الإسلامية، وقدمت لهم كل التسهيلات والإمكانات، التي تجعل منهم أصواتا وأدوات لها في العالم العربي في المستقبل، تحت مسمى دعم حركات التحرر.
حملتُ حقيبتي ذلك الصباح وأخذت باص النقل العمومي من “بوابة شمران” في أعلى شمال طهران، نزولا  صوب أسفل المدينة. ومن ميدان “توب خانه” حيث تعج الساحة المترامية بالفقراء الباحثين عن الرزق والمأوى، استقللت فان ركاب ذاهبا إلى قرية “مامازند” في جنوب شرق طهران حيث توجد الحوزة العربية.
الطريق إلى “مامازند” طويلة وشاقة، كأي طريق أخرى في هذه البلاد الضخمة، الواسعة المساحة، المتباعدة المسافات. تخطر ببالي بلادي التي نقطعها من رأس الجبل حتى فقش الموج في أقل من ساعة، فابتسم. في “مامازند” هناك أطفال لم يعرفوا البحر إلا في الكتب المدرسية وناس ماتوا ولم يروه.
نخرج من صخب طهران، وندخل جنة ريفها الشرقي. وكلما نهب الفان الأرض كلما انحصر اللون الأخضر المنفلش على طول طهران وعرضها، ضمن بساتين ومزارع مسورة، واتسع المشهد للصخور الدهرية والجبال الجرداء، التي تتحول مع بداية أكتوبر حتى نهاية آذار إلى ما يشبه جدرانا بيضاء تحاصر طهران بالثلج والصقيع.
أنا في المقعد الأخير، وأمامي إمرأة ريفية تقطع المسافة بالنوم، كلما توقف الفان لإنزال أحد الركاب، تستعيذ بالله وتمسح بيديها على وجهها، فأسمع خربشة جافية، أتعمد النظر، فأرى كفين مشققتين، حفر فيهما التعب والعمل أخاديد عميقة سوداء.
كل يوم، يلملم الفان فقراء “مامازند” الذين يعملون في مهن متواضعة في طهران، والفلاحين الذين يقصدون سوقها الشعبي الكبير في “شاه عبد العظيم” لبيع منتوجاتهم وأغلبهم من النساء، ويتلوى عائدا على الطريق الريفية الوادعة.
كل شيء في “مامازند” مفقود، قرية قليلة السكان والزوار، ولولا الطريق الدولية التي تمرّ من جانبها، لظننت أنها مازالت قابعة في كهوف التاريخ. بيوتها من الطوب الأصفر الداكن، تستكمل مشهد الجبال الوعرة المحيطة بها. فيها مدرسة حكومية ابتدائية، ومحل سمانة واحد يبيع سلعا يحتاجها عابرو الطريق: سجائر وبسكويت ومياه ومشروبات غازية صناعة محلية وبعض المنتوجات الزراعية، وفرن يحضر خبزا ريفيا شهيا، كانت تتسرب رائحته صباحا إلى مناماتنا في الحوزة، فنهرع إليه قبل بدء الدروس لنفوز بالقليل منه، ونهران يحيطانها من الشمال والجنوب، لذلك سمّتها زميلتي العراقية في الحوزة الجديدة “بلاد ما بين النهرين”.
مبنى الحوزة، كان في الأصل مدينة جامعية بناها الشاه محمد رضا بهلوي, قبل أن تطيح به الثورة، قالوا لنا أيضا إنها كانت مدرسة زراعية، الثورة صادرت المبنى ومنحته للشيعة العرب، يتلقون فيه العلوم الدينية والكثير من السياسة والثورة ويتخذون من مناماته سكنا دائما لهم.
ينقسم مبنى الحوزة إلى قسمين، على طرفي طريق تؤدي إليها فقط. قسم للذكور وآخر للإناث، عملا بقوانين الفصل بين الجنسين. في كل قسم يوجد قاعات للتدريس موزعة حسب السنوات الدراسية، وصالات واسعة للمحاضرات التثقيفية الجامعة. أما الطبقات العليا فهي للمنامات، وفي كل طبقة من الطبقات حمام ومطبخ مشتركان. غرف المنامات واسعة وتتسع لأربع فتيات، لكل واحدة سريرها وخزانتها وزاوية دراسة خاصة بها.
كان يأتي لزيارتنا من حين لآخر، مفكرون ومثقفون وصحافيون عرب، ممن أسرتهم التجربة الخمينية، يلقون المحاضرات ويقيمون الندوات. كانوا متيقنين أن الخطوة التالية للإمام الخميني هي تحرير فلسطين، هو القائل: “اليوم إيران وغدا فلسطين”، لكن الحرب العراقية التي فرضت على الثورة الإسلامية، تقف دون تحقيق هذا الحلم. كان المسؤولون عن الحوزة يجهزون قاعة المحاضرات التي تقع في مبنى الذكور قبل وصولنا. ندخل من الباب المخصص للنساء، وبمحاذاتنا تمتد ستارة سوداء سميكة على طول القاعة، من باب المدخل حتى خشبة المسرح. ضيوفنا الثوريون حاربوا حكومات بلادهم وحاربتهم بسبب ميولهم اليسارية والعلمانية والتقدمية، لم يعترض أحد منهم مرة على هذا الفصل “السوداوي” بين العالمين.
في أوقات الأكل كنا نجتمع في قاعة الطعام حول دست كبير يحمله إلينا الطباخون الذين يقيمون في قسم الذكور. تطلق الأخت المسؤولة عن قاعة الطعام صافرة تحذيرية، حين يقتحم الطباخون مملكتنا النسائية، فنختفي عن مرمى عيونهم بلمح البصر. تخلو لقدومهم الممرات، وتنحبس الأنفاس، ويخيم صمت مريب على الأجواء! تقوم إحدى الفتيات بالتلصص على القادمين من ثقب المفتاح، تجثو على ركبتيها، تغمض عينا وتفتح أخرى على مدى اتساعها، وتصف للأخريات شكل القادمين بكثير من الحماسة والتأوهات، فيتعاركن على أخذ مكانها، علهن يظفرن بمشهد يبدد رتابة أيامهن.
تطلق الأخت نفسها صافرة الأمان فنخرج من خلف الأبواب، نحمل صحوننا وملاعقنا، وننتظم في طابور، نأخذ حصصنا من الطعام المقرر ونجلس في مكان على أرض القاعة، نتلو دعاء الطعام، نبسمل على “أوله وآخره” ثم نلتهم ما أعدوه لنا، نحمدل بعدها، نتلو دعاء الطعام مرة أخرى، ثم نحمل صحوننا وملاعقنا إلى المطبخ ننظفها ونضعها في غرفنا.
كانت طقوس الطعام أكثر الطقوس عفوية في الحوزة مقارنة بالطقوس الدينية والاجتماعية المفروضة علينا.
كان علينا أن “نتزاور” من حين لآخر، نقوم بزيارة بعضنا بعضا في غرفنا بعد إنهاء الدروس والواجبات، بغرض التعارف والانفتاح والاطلاع على همومنا المشتركة. كانوا قد نبهونا ألا نبوح بأسمائنا الحقيقية. كان مفروضا على كل فتاة تصل إلى الحوزة، أن تختار اسما مستعارا لها، ومن غير المسوح أن تبوح باسمها الحقيقي أو اسم عائلتها إلى فتاة أخرى، ومن تفعل تعاقب بالطرد. السرية التامة هي عمود الانتماء للحوزة والبقاء فيها. لكنه كان مسموحا أن نبوح باسم البلد الذي أتينا منه.
تفاجأت بوجود أعداد كبيرة من الفتيات من دول شمال أفريقيا، من تونس والمغرب والجزائر، تحولن إلى التشيع تأثرا بالثورة الخمينية، تركن أهلهن وأوطانهن ليعشن تفاصيل الثورة ويكن جزءا من يومياتها. الأكثرية كن من شيعة الخليج، تكبدن مشقات كبيرة وعذابات لا توصف للوصول إلى الجمهورية الإسلامية. خرجن من بيوتهن من دون علم عائلاتهن، وتم تهريبهن عبر الحدود من بلد إلى آخر، حيث تمكن من الاتصال بأشخاص أمنوا لهن جوزات سفر مزورة. تركن حياتهن الباذخة وحضن عائلاتهن وأمان بيوتهن للالتحاق باللحظة الثورية الكونية.
من الزيارات التي كانت مفروضة علينا، الزيارة الشهرية لمنزل آل المدرسي، العائلة العلمية العراقية الكربلائية، التي كانت مسؤولة عن الحوزة.
أيام الحرب الإيرانية العراقية، استخدم الرئيس العراقي صدام حسين، سلاح النفي لإرباك الجمهورية الإسلامية، وتحميلها أعباء اقتصادية إضافية. نفى عائلات نجفية وكربلائية علمية (دينية) بأكملها إلى إيران، بحجة أنها من أصول إيرانية، ومن لم يتسع الوقت لنفيه، تمت تصفيته في السجن. وهكذا استطاع أن يتخلص من معارضين أشداء وفي الوقت ذاته أخلى الحوزة العلمية العراقية من أهم علمائها. كان آل المدرسي من ضمن العائلات المنفية.
السيد هادي المدرسي، كان المسؤول المباشر عن الحوزة ومؤسسها، وهو أحد الأشقاء السبعة، الذين أنجبهم السيد محمد كاظم المدرسي، وألزمهم بدراسة العلوم الدينية، فخرج من بينهم المرجع وآية الله والعالم والمجتهد والكاتب. وكانت والدته وهي ابنة آية الله العظمى السيد مهدي الشيرازي، تسكن في منزل واسع إنما متواضع في قلب طهران.
المنزل من الداخل لا يحوي أي نوع من الأثاث، سجادتان عجميتان عملاقتان تغطيان أرضية  الصالة الواسعة المعدة لاستقبال النساء، تصل الواحدة منا وتجلس على الأرض وتسند ظهرها إلى الحائط. في صدر الغرفة الواسعة، انشغلت الأخوات بترتيب أريكة وثيرة مرتفعة قليلا عن الأرض. ثبتن لجهتها الخلفية وسادة كبيرة مطرزة وزينها بسبحة سوداء طويلة امتدت من جهة إلى أخرى، ثم وزعن عددا من الوسائد على جانبيها، ووضعن أمامها صينية نحاسية مدورة، عليها شمعة وسبحة وقرص من تربة كربلاء للصلاة وكوبا من الماء، ثم نادين على الوالدة للجلوس، فخرجت العلوية (اسم يطلق على كل سيدة شيعية يعود نسب عائلتها للرسول) مجللة بعباءتها السوداء وشالتها العراقية الحريرية، الكل ينظر إليها ولا تنظر إلى أحد، وبعدما جلست في مقعدها أخرجت كفها من كم عباءتها، لتبدأ الأخوات بالزحف إلى حيث مجلسها لتقبيل يدها.
عدنا إذا إلى تقبيل الأيادي!
تذكرت جدي وثوراته الصغيرة في القرية، خصوصا إذا تعلق الأمر بعادة دينية وافدة. لم يقبّل يد رجل دين يوما، وكان يحاسب من يفعل ذلك، حتى اتهمه أهل قريته بالشيوعية! وكانوا يقصدون الإلحاد كما قال لي.
كنت قريبة من باب المدخل، انسللت منه قبل أن يلاحظني أحد، وقررت عدم المشاركة في الزيارة الشهرية مرة أخرى. لم يدم قراري طويلا.
لم يكد يمر شهران على زيارتي اليتيمة لوالدة العلماء السبعة، حتى وجدت نفسي أذهب إلى منزلها بكامل إرادتي.
كان على الفتيات العازبات اللواتي قدمن إلى الحوزة، أن يكن حاضرات في أي وقت لمشروع زواج مستعجل. تأتي الأخت أم أحمد إلى الحوزة بعد انتهاء الدروس، تنزل ضيفة في غرفة إحدى الأخوات، فتدرك الفتيات أن طائر النصيب يحوم فوق الرؤوس. فيقمن إلى غرفهن يغتسلن ويتعطرن ويفركن أسنانهن ويسرحن شعورهن ويرتدين أحلى ملابسهن ويذهبن إليها.
كانت الفتيات يداوين جراح غربتهن بالزواج. كن يبحثن في العلاقة مع الرجل عن وطن. كانت غربتهن اختيارية، لكن أشواقهن لم تكن كذلك. غريبات يفتشن في غرباء مثلهن عن وجوه وبيوت وحيوات تركنها ولم تتركهن.
هذه المرة العريس كان يستحق حربا نووية، إنه أحد الأشقاء السبعة، ابن عائلة المدرسي ذات الحسب والنسب والصيت الذائع والشهرة التي طبقت الآفاق، نسيب السيد محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق ضد الاستعمار الإنكليزي، وقريب آية الله محمد الحسيني الشيرازي مؤسس التيار الشيرازي، الذي وقف إلى جانب الإمام الخميني حين كان منفيا في العراق، وساهم معه في إنجاح الثورة، هكذا صارت تردد جدران الحوزة والمزارع المحيطة بها والنهران الكبيران والجبال المكللة بالغيوم والثلوج وأعشاش العقبان من حولها.
اجتمعت الفتيات حول أم أحمد، ووجيف قلوبهن يطبل كالرعود في فضاء “مامازند” الوادعة. من الشباك العريض في الغرفة التي تحلقن فيها حول أم أحمد، تهب بين الفينة والفينة نسمات باردة آتية من صوب السهل الأخضر، فتخفف من حماوة مشاعرهن الملتهبة. تضحك أم أحمد لمشهدهن وهن ينظرن إليها وعيونهن تكاد تخرج من أحداقها.
وكي لا تطيل فترة تعذيبهن، تخبرهن أنها لم تأت اليوم لاختيار العروس، فقد وقع الاختيار عليها من قبل وبطريقة سرية جدا. إنما أتت لتعلمنا باسمها ولتطلب منا تحضير أنفسنا للعرس….
لم أعد أذكر من يوم العرس والتحضيرات التي سبقته إلا القليل. ليلة الحناء، والصينية الواسعة التي وضع عليها أنواع كثيرة من البهارات، كل نوع يرمز إلى أمنية جميلة للزوجين، والمرآة المذهبة ونسخة من القرآن والكثير الكثير من الشموع ودموع الفتيات العراقيات وهن يغنين همسا “قالوا صوانيكم شموع انترست، والتمن الحلوات من كل بيت حلوة التمت، واطراف أصابع ليلة الحنة بعذابي تحنت…”.
في الصالة غير المؤثثة في البيت الواسع لكن المتواضع في الحي الثوري في وسط طهران، جلست العروس البيضاء “كالقطن” في ركن مقابل لركن العلوية، وبينهما يرقص عدد من النساء على إيقاع خبط أقدامهن بالأرض، يرددن مواويل شعبية عراقية، ثم يرفعن رؤوسهن إلى الأعلى يتحدين بعضهن بعضا بإطلاق الزغاريد. تدخل أم أحمد حاملة كيسا من القماش، تدخل يدها اليمنى في فتحته الضيقة وتخرج منه كمشة من القطع النقدية الذهبية وتنثرها فوق الرؤوس، تهبط الأجساد دفعة واحدة إلى الأرض، وتتحول أصوات الزغاريد إلى همهمات والرقص إلى تدافع، آخذ حصتي من الذهب وأذهب إلى غير رجعة…

[video_player link=””][/video_player]