fbpx

عاشوراء: كبرتُ في الضاحية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أتركُ زحمةَ الحاجز الأمني خلفي، وأدخل راجلةً إلى قلب الضاحية الجنوبية، أدندن وأنا أنسلُّ من بين مكعبات الباطون المتراصة، أغنية مارسيل خليفة “من أين أدخل في الوطن”. بضع خطوات وينفتح المشهد أمامي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أترك زحمة الحاجز الأمني خلفي، وأدخل راجلة إلى قلب الضاحية الجنوبية، أدندن وأنا أنسل من بين مكعبات الباطون المتراصة، أغنية مارسيل خليفة “من أين أدخل في الوطن”.

بضع خطوات وينفتح المشهد أمامي…مشهدٌ متوقع، يعرفه كل من يسكن في الضاحية أو يقصدها. هنا “عاشوراء”، المناسبة المذهبية، التي يحييها الشيعة في الأيام العشر الأولى من شهر محرم، ذكرى معركة الطفّ أو كربلاء، التي قتل فيها الإمام الحسين بن علي وصحبه على يد يزيد بن معاوية.

تتحول الضاحية في أيام “عاشوراء” إلى جزيرة أمنية. والدخول إليها يصبح مغامرة، لا تقل مشقة وخطورة عن تسلق إحدى قمم العالم. السيارات تتكدس على الحواجز الأمنية عند مداخلها الرئيسية، ويحتجز المواطنون ساعات طويلة، ما بين تفتيش وأسئلة وتدقيق بالهويات.

هذه السنة، تسيطر حال استنفار قصوى على الأجواء، بعدما كشفت جهة أمنية لبنانية عن مخطط تفجير كانت تنوي “داعش” تنفيذه.

والضاحية في عاشوراء، هي أرض السواد، الاسم الذي أطلقه “الفاتحون” المسلمون القادمون من جزيرة العرب، على العراق، لكثافة بساتين النخيل والأشجار والزروع فيه، مع فارق جمالي بين المشهدين.

الرايات والأعلام واللافتات السوداء تشغل مساحة الرؤية. السواد يحتل عاليها وسافلها، يسيطر على كل جامد ومتحرك، يغشى الأعمدة، وشرفات المنازل، وواجهات المحلات، ومداخل المؤسسات والعمارات السكنية، وجدران المساجد والحسينيات، وبسطات الخضار. السكان والمارة والباعة والمتجولون وحتى العابرون يرتدون السواد. مكبرات الصوت تبث على مدى ساعات النهار والليل مجالس عزاء حسينية وندبيات خاصة بالمناسبة المذهبية السنوية، تزاحمها أصوات البكاء والنحيب، التي ترتفع من خيم العزاء المنصوبة في الشوارع والأحياء.

في الداخل، الحواجز الأمنية والعوائق الحديدية منتشرة عند كل زاوية ومفترق وناصية. شبان بثياب مدنية وعيون تترصد كل حركة ووجوه لا يخطئها الحدس، يندسون بين الناس وخلال التجمعات، يراقبون الرائح والغادي، ومسلحون من عناصر “الانضباط” الحزبي، يقيمون حواجز متنقلة وثابتة، يحملون أجهزة لاسلكية ويستعينون في مهمة التفتيش بكلاب بوليسية مدربة.

تستقيل الضاحية من الحياة العادية في أيام “عاشوراء”، وتبدأ دورة حياة استثنائية، لها شعائرها وطقوسها وأنماطها الخاصة. بعضها، رغم أنه صار تقليداً سنوياً، لكنه ظل بعيداً عن معاني الفداء والتضحية والبطولة والدعوة إلى الإصلاح والثورة على الظلم والظالم، التي يجب أن تجسدها الذكرى، وإن كان بعض المتحمسين يضفي عليه هالة مقدسة ويعتبره شعيرة أساسية من شعائر عاشوراء، وبعضها الآخر جديد، أدخلته السياسات والإيديولوجيات الوافدة، يطرأ عليه تحديثات وابتكارات موسماً إثر موسم، وغالباً ما يلقى استحسانا في نفوس الجماهير.

أشهر هذه الشعائر هي “الهريسة”، وجبة القمح الدسمة مع الدجاج، تليها طبخة “القيمة” العراقية المكونة من اللحم والحمص المهروس، التي دخلت حديثاً إلى نمط الضيافة العاشورائية في الضاحية، إضافة إلى “البسكويت والراحة” و”كعك العباس” والماء، والضيافتين الأخيرتين هما الأكثر قدما.  

الضاحية الجنوبية، البقعة الجغرافية المقفلة، التي تؤوي في بنائها العشوائي نحو مليون بشري جلهم من فقراء الطائفة الشيعية، إضافة إلى لاجئين فلسطينيين ونازحين سوريين، في مساحة لا تتعدى 28 كيلومتر مكعب، وتفتقد معظم أحيائها لأدنى متطلبات الحياة الكريمة، من ماء وكهرباء وبنى تحتية ونظافة وقانون سير وتنظيم مدني، وتحتلها النفايات والعصابات والفانات والدراجات النارية، تبذل في “عاشوراء” كل ما في جيوبها لإعداد “الموائد الحسينية”.

ومن يتجول في الضاحية هذه الأيام، يمكنه أن يستشعر بسهولة أجواء التنافس بين الحزبين الشيعيين حركة “أمل” و”حزب الله” وجمهوريهما، على تحضير “الموائد الحسينية”، كتنافسهما على إقامة مجالس العزاء وإحياء الشعائر الخاصة بالمناسبة.

ويكاد الإقبال على “الهريسة” تحضيراً والتهاماً، والأحاديث عن جودتها عند هذا الطرف أو ذاك، تطغى على أي قيمة أخرى للمناسبة المقدسة. وقد اختصر مسؤول لبناني (ربما هو الرئيس نبيه بري) مشهد تدافع الناس على الهريسة في عاشوراء، بالقول: “البكاء في عاشوراء على الهريسة وليس على الحسين”.  

من محيط مبنى المجلس الشيعي الأعلى عند مدخل الضاحية، نزولاً صوب الشوارع المؤدية إلى مسجد القائم في عمق الضاحية، مرورا بمراكز الحزبين ومضافاتهما ومجلسيهما المركزيين في شارع معوض (حركة أمل) ومجمع سيد الشهداء (حزب الله)، تنتشر مواقد “الهريسة”، وتختلط روائح القمح المسلوق بروائح الدخان وأصوات المتحلقين حول القدور العملاقة وصراخ الأطفال وأبواق السيارات وحتى القاذورات. نساء ورجال يتنافسون على تحريك محتويات القدور طمعاً بالثواب وبحصة حرزانة من الطبخة المباركة.

فيما مضى، قبل أن تتأدلج المناسبة وطقوسها، كانت الغاية من طقس “الهريسة” هي إطعام الفقراء، الذين تفتقد موائدهم اللحوم طوال العام. أما اليوم. فقد تحول الطقس إلى منبر إضافي للتنافس السياسي واستقطاب المؤيدين، إضافة إلى التصعيد الطقوسي، الذي تغرق الطائفة الشيعية بإرادتها، في شكلياته.

ويكاد الإقبال على “الهريسة” تحضيراً والتهاماً، والأحاديث عن جودتها عند هذا الطرف أو ذاك، تطغى على أي قيمة أخرى للمناسبة المقدسة. وقد اختصر مسؤول لبناني (ربما هو الرئيس نبيه بري) مشهد تدافع الناس على الهريسة في عاشوراء، بالقول: “البكاء في عاشوراء على الهريسة وليس على الحسين”.  

إقرأ أيضاً:

عاشوراء لبنان: شيرازيون بين خيمتي “أمل” و”حزب الله”

أطوار العباءة الشيعية:”النجفية” قاومت “الفارسية” ولبنان ابتكر “الزينبية”

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.