fbpx

سوريا: “غرف الملح” آخر أسرار سجن صيدنايا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هل كان أحدٌ ليتخيل أن الملح جزءٌ أساسي من آلة الموت التي استخدمها نظام الأسد طوال هذه السنوات؟ وهل يدرك المعتقلون أن الملح، الذي يمنعه النظام عنهم بشكل كامل، موجود في غرف قريبة تغرق وسطه جثث أصدقائهم؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

غرفٌ مفروشة بالملح الصخريّ

عام 2017، حين اقتيد عبدو، وهو أحد المعتقلين في سجن صيدنايا إلى غرفة صغيرة، أدرك أنها مملوءة بالملح الصخري وسرعان ما التقط حفنة منه وبدأ بالتهامه، فمنذ زمن لم يذقه، لأن النظام يمنع الملح بشكل كامل عن السجناء، حتى تضعف أجسادهم، لكن المفاجأة كانت حين اكتشف أنه داس على جثة لأحد المعتقلين. لم تكن هذه هي القصة الوحيدة، فقصة مشابهة حدثت عام 2013 رواها معتقلٌ آخر، هكذا بدأت قصة غرف الملح والموت في صيدنايا تتكشف شيئاً فشيئاً.

غرف الملح هي أشبه بمستودعات بدائية، استخدمها نظام الأسد لحفظ الجثث من التحلل بعد اندلاع النزاع في عام 2011، وبخاصة مع ارتفاع عدد الموتى داخل السجون وغياب المشارح المبردة، هذا ما خلص إليه في تقرير جديد لرابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا نشرت جزء منه وكالة فرنس برس بعنوان “غرف الملح”.

وبناء على تقرير الرابطة ومقابلات أجرتها وكالة “فرانس برس” مع معتقلين سابقين، تبين أن في سجن صيدنايا العسكري “غرفتي ملح” على الأقل، تُوضع فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها، وبحسب وصف أحد المعتقلين، فالغرفة مفروشة بملح خشن، يبلغ سمكه ما بين 20 إلى 30 سم، وهو الملح الذي اعتاد السوريون رؤيته في شوالات على جوانب الطرق، وكانت حكومة النظام تفرشه بهدف إذابة الثلج والصقيع عن الطرق. إحدى الغرفتين كانت بعرض أربعة أمتار وطول خمسة أمتار، ولا حمام فيها، على عكس الغرفة الثانية، وأشار كلا السجينين في شهاداتهما إلى غياب أي روائح كريهة في الغرفتين ولم يتمكنا من تحديد سبب وضعهما لوقت قصير في الغرف، يعتقد أحدهما ويدعى معتصم أن ذلك كان بهدف إخافة المعتقلين.

ولا يُعْرف إن كانت الغرفتان استخدمتا معاً في الوقت ذاته أم أنه تم استبدال واحدة بأخرى، ولكن وبحسب الشهادات التي جمعتها “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، فإن أول “غرفة ملح” وجدت في النصف الثاني من عام 2013، مع اشتداد التعذيب وتردّي الأوضاع في السجن وكانت يتم الإبقاء على الجثث بين يومين وخمسة أيام داخل المهاجع الى جانب المعتقلين كأحد أساليب العقاب، قبل نقلها إلى غرف الملح لتأخير تحلّلها، ثم تُترك الجثث يومين داخل “غرف الملح” في انتظار تجميعها، قبل نقلها إلى مستشفى عسكري لتوثيق الوفاة قبل نقلها إلى مقابر جماعية، ولم يكن نقل الجثث في حينها متاحاً كل يوم، بخاصة مع اشتداد المعارك بين قوات النظام والفصائل المعارضة بين عامي 2013 و2017.

الملح المفقود كنزٌ في سجن صيدنايا

 “بداية، قلت لنفسي، الله لا يوفقهم، لديهم كل هذا الملح ولا يضعونه في طعامنا؟”. هذه أول عبارة رددها عبدو حين ادخلوه إحدى تلك الغرف، وشاهد كميات الملح الكبيرة، فالملح كان كنزاً ثميناً، تعمد النظام حرمان السجناء منه، ربما ليس بهدف إضعافهم وحسب، إنما لممارسة أبشع أنواع الحرمان عليهم، إذ أكد عدد من المعتقلين السابقين أن أسوأ تجاربهم، إضافة إلى التعذيب والضرب، هو “الجوع الدائم”، جراء النقص الكبير في الطعام الذي كان عبارة عن كمية قليلة من البرغل أو الأرز، أو حبة بطاطا أو بيضة مسلوقة يتشاركها أكثر من شخص من دون ملحٍ على الإطلاق. وروى معتقلون أنهم كانوا يشربون مياهاً يضعون فيها نواة الزيتون المالحة بعض الشيء. ووسط هذا الحرمان الشديد، قام أحد السجناء حين أُدخل غرفة الجثث بتعبئة جيوبه من الملح، يقول قيس وهو أحد المعتقلين السابقين: “أول مرة أكلنا فيها البطاطا المسلوقة مع هذا الملح، كان طعماً خيالياً”. وهكذا حرص السجناء على ارتداء بناطيل بجيوب كلما سنحت الفرصة للحصول على بعض الملح غير مدركين مصدره.

ويُعتقد أن الملح الصخري في صيدنايا يُستقدم من سبخات جبول في محافظة حلب، وهي الأكبر في سوريا، وفق ما ذكر دياب سرية رئيس “رابطة مفقودي ومعتقلي سجن صيدنايا”.

وذكر الأستاذ المساعد في علم التشريح في جامعة “بوينت لوما” في كاليفورنيا جوي بلطا لوكالة “فرانس بيرس”، أن للملح القدرة على تجفيف أي نسيج حي عبر امتصاص المياه، ما يقلّل من تكاثر الميكروبات، ويتيح فترات حفظ أطول حتى من الغرف المبردة على رغم أنه سيغير تشريح السطح الخارجي للجثث، وهو ما يراه السجناء السابقون مفارقة مقززة، أن يكون الملح الذي اشتهوه بشدة جزءاً لا يتجزأ من آلة الموت المروعة التي كانت تقضي عليهم!

ملح الموت

الصادم أن الملح حسب لوما هو أحد مكوّنات عمليات التحنيط التي اشتهر بها الفراعنة، وكأن النظام لا يتوقف عن استغلال كل ما حدث في التاريخ لخدمة مصالحه، والأكثر قسوةً أن المعتقلين تناولوا ملحاً امتصَّ مياه أنسجة أصدقائهم وكأن دائرة الموت تجبرهم على التهام أجساد رفاقهم من دون أن يدروا.

“غرف الملح” هو جزء من تقرير رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا، وهي الدراسة الأولى والأكثر تفصيلاً حتى الآن حول الهيكلية الإدارية للسجن وآليات عمله وعلاقاته التنظيمية التي ستصدر قريباً، وقال سرية لـ”فرانس بيرس”: “أراد النظام أن يكون هذا السجن ثقباً أسود، وألا يعرف أحد عنه شيئاً. هدف تقريرنا أن يقول العكس، ليس ثقباً أسود بل هو جهاز من أجهزة الدولة محكوم بقوانين وعلاقات تنظيمية”، وهو أيضاً “معسكر موت”. الكشف عن هيكلية السجن هو أمر شديد الأهمية، إذ إنه يُبعِد جزءاً من الغموض والأسئلة التي لطالما طُرحت حول بقعة الموت التي تدعى سجن صيدنايا ويجعل التعامل مع هذا المكان المرعب قابلاً للتحقق حتى لو بشكل تخيّلي.

وتقدّر رابطة مفقودي سجن صيدنايا أن 30 ألف شخص دخلوا سجن صيدنايا منذ عام 2011، بينما أفرج عن ستة آلاف منهم فقط، فيما يُعتبر معظم الباقين في حكم المفقودين ولقي ما يصل إلى 100 ألف شخص حتفهم في سجون النظام السوري منذ عام 2011، أي خمس إجمالي عدد قتلى الحرب، بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.

في يوم ما سيتمكن العالم من رؤية ما يحتويه سجن صيدنايا، أحد أكثر الأماكن رعباً في العالم، وكما يقول دياب سرية لـ”فرانس برس”: “إذا حدث انتقال سياسي في سوريا، فنحن نريد تحويل صيدنايا إلى متحف، مثل أوشفيتز”. ومتحف أشوفيتز هو معسكر للإبادة كانت تستخدمه ألمانيا النازية في بولندا والذي حوّل لاحقاً إلى متحف واعتبرته اليونسكو موقعاً تراثياً عالمياً.

هل ستمشي الأجيال السورية اللاحقة يوماً في سجن صيدنايا، بعد أن يصبح متحفاً، هل سيشرح لهم دليل سياحي أن في هذه الغرف كان النظام يضع الملح ويدفن جثث أجدادهم قبل عقود؟ هل ستسنح الفرصة للسوريين أن يتحدثوا عن أبشع أساليب التعذيب كذكرى قديمة؟ 

إقرأوا أيضاً: