fbpx

حين علقَ الثلج على كتف السجّان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في الليلة الأولى لم أنم. كنت جائعا للحديث مع آخر: أي آخر. كنت أخاف أن أفقد ملكة الكلام. وكنت أخاف أن أُترَك في المنفردة عاماً كاملا مثل الكائن الذي كان في الزنزانة قبالتي. لم أكن وقتها أتخيل أن رياض الترك سيُترَك في زنزانته سبع عشرة سنة، مع طشت الماء وحبات العدس التي يجففها ليرسم بها لوحات على أرض زنزانته. منيف كان الحل السحري لكلا الخوفين. لم أنسَ ملكة الكلام وها هو آخر يشاركني عزلتي. لم نكن منيف وأنا مغرمين واحدنا بالآخر قبل السجن، ولا بعده. كنا مختلفين في كلّ شيء، سياسيا وتنظيميا واجتماعيا. كان من أقلية يسارية داخل التنظيم، وكان يراني ليبراليا زيادة عن الحدّ المقبول في تنظيم ماركسي. وباعتباره المسؤول التنظيمي، كان غير معجب بانفلاتي التنظيمي وعلاقاتي الواسعة. كان لكلّ مزاجه وذوقه في كلّ شيء تقريبا. ومع ذلك، وحّدت أشهر الزنزانة المشتركة بين المزاجين والذائقتين والثقافتين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من خلال تجربته الخاصة مع اليسار ومع الاعتقال في سجون نظام حزب البعث، يستعيد الكاتب السوري وائل السواح بعضاً من وقائع تلك الحقبة

أول تواصل بعد أشهر المنفردة كان حين انتقلتُ إلى زنزانة كان يقيم فيها منيف ملحم، رفيقي في لجنة العمل في الحزب. جاء العقيد كمال إلى زنزانتي وسألني إن كنت أرغب في مشاركة الزنزانة مع معتقل آخر. أجبت بحماس: نعم. حملتُ عوازلي وبطانياتي وقصعاتي وعلبة الحلاوة والسجائر والجرائد التي كنت قرأتها مائة مرة، ومضيت إلى عالم من البهجة والسرور. حين دخلت زنزانة منيف، قلت له:
“لا أبالي الآن أن أظل ثلاث سنوات.”
كنت أتخيل السنوات الثلاث أطول مدة يمكن أن أقضيها في السجن أسوة برفاقنا من الحملات السابقة. لم يخطر ببالي وقتها أنني سأعدّ عشراً من السنوات قبل أن أصبح خارجا. بيد أن سنواتي العشر تصبح لعبة بالمقارنة بمن قضى خمس عشرة أو عشرين أو ثلاثين، كصديقي فارس مراد الذي قضى بعد إطلاقه بفترة، وعماد شيحة الذي لا يزال يجترح معجزة الحياة كلّ يوم.
انكببنا منيف وأنا على الحديث كالجائعين إلى الطعام. تحدثنا عن الاعتقال والخارج والتوجّه الجديد للحزب. دخنّا. أخبرته عن اختراع إضافة الزيت إلى البرغل، وأطلعني على علبة كبريت حصل عليها من أحد السجانين. أكلنا حلاوة وشربنا الشاي العكر البارد والمرفوع منذ الصباح بمتعة عند المساء، مع سيجارة الحمراء القصيرة. تحدثنا بحنين عن حنان. تذكرنا أدق التفاصيل عنها بمتعة فائقة وشبق أحيانا. لعبنا لعبة ضمر الأسماء وتبادلنا النكات مع السجانين.
في الليلة الأولى لم أنم. كنت جائعا للحديث مع آخر: أي آخر. كنت أخاف أن أفقد ملكة الكلام. وكنت أخاف أن أُترَك في المنفردة عاماً كاملا مثل الكائن الذي كان في الزنزانة قبالتي. لم أكن وقتها أتخيل أن رياض الترك سيُترَك في زنزانته سبع عشرة سنة، مع طشت الماء وحبات العدس التي يجففها ليرسم بها لوحات على أرض زنزانته.
منيف كان الحل السحري لكلا الخوفين. لم أنسَ ملكة الكلام وها هو آخر يشاركني عزلتي. لم نكن منيف وأنا مغرمين واحدنا بالآخر قبل السجن، ولا بعده. كنا مختلفين في كلّ شيء، سياسيا وتنظيميا واجتماعيا. كان من أقلية يسارية داخل التنظيم، وكان يراني ليبراليا زيادة عن الحدّ المقبول في تنظيم ماركسي. وباعتباره المسؤول التنظيمي، كان غير معجب بانفلاتي التنظيمي وعلاقاتي الواسعة. كان لكلّ مزاجه وذوقه في كلّ شيء تقريبا. ومع ذلك، وحّدت أشهر الزنزانة المشتركة بين المزاجين والذائقتين والثقافتين.
بيد أن لكل جديد نهاية، وها هو الحكْيُ يقلّ والصوت يخفت والضحكة تتلاشى. وها هو الملل يتسلل إلى القلب مثل لصٍ يتلطّى في ظلام ليل كالح. بعد شهرين، فتح باب الزنزانة، وقال السجان: ” ضبّوا أغراضكم.”
” إلى أين؟”
” بعدين بتعرف.”
جمعنا أشياءنا. احتاج الأمر إلى دقيقتين لجمع علب الحلاوة والدخان وكيس السكاكر وقنينة الزيت. حملنا كل شيء ومشينا وراء السجان. خرجنا من رواق الزنازين الانفرادية إلى بهو الحمام، الذي يضم أيضا زنازين جماعية. فتح السجان باب المهجع رقم 2 وأدخلنا إلى عالم مختلف تماما عن كل عالم آخر. كانت مساحة المهجع لا تزيد عن اثني عشر مترا مربعا ويضم حوالي الثلاثين سجينا. نفذت إلى أنفي أول ما نفذ رائحة حامضة واخزة، هي مزيج من العرق ورائحة الرجولة المخمرة. شخصت إلينا الأبصار. ستون عيناً راحت تغسلنا بالفضول والتساؤل، حتى بدرت مني عبارة تحية:
” السلام عليكم.”
“وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.”
ثم راح شخص يعطي تعليماته للآخرين فبدأت الأجساد تزمزم بعضها وتلزّ من أجل مساحة للجسدين الوافدين. ذلك الشخص كان رئيس المهجع، ويحلو للسجانين أن ينادونه “شاويش.” وهو رجل اكتشفت فيما بعد أنه يمتلك سلطة حقيقية على المسجونين في مهجعه. بعض الشاويشية كانوا يحولون حياة السجناء داخل المهجع إلى كابوس دائم. آخرون كانوا يكتفون بميزاتهم ويساعدون الآخرين إذا استطاعوا. من ميزات الشاويش أنه يأخذ المكان الذي يحلو له، وهو غالبا قرب الباب، وهو يأخذ مساحة مضاعفة مرة أو مرتين عن أي سجين آخر في المهجع، ويتمتع بوجبة وافرة. بيد أن الأهم هو أنه لا يقف في الرتل بانتظار الدخول إلى الحمام. وهذه وحدها ميزة في غاية الأهمية، إذا علمنا أن الدور يمكن أن يأخذ ساعة أو اثنتين قبل أن تصل إلى غايتك وهي إفراغ المثانة أو الأمعاء، ولا نتحدث هنا عن ترف غسل اليدين قبل الطعام أو بعده، فهذه أشياء لا طاقة للسجين بها.
في أحد المهاجع، كان ثمة مساعدون للشاويش وأحدهم كان مساعد الشاويش لتنظيم دخول الحمام. كان هذا الشرف من نصيب معتقل فلسطيني من لبنان، نشأ وتربى على ثقافة البارودة والمليشيا والحرس الشخصي. وله كنية عجيبة: أبو عجقة. كان أبو عجقة تمثيلاً ممتازاً لكل المسؤولين الكبار والصغار في البلدان العربية. وكما أن المسؤولين يفرضون الضرائب على الكماليات، كان أبو عجقة يفرض الضرائب على دخول الحمام. فإذا كنت تريد دخول إلى الحمام مرة ثانية، أو أن تتجاوز دورك أو أن تبقى دقيقة إضافية في الداخل، ثمة إتاوة تدفعها فيتم لك ذلك. والإتاوة كانت سيجارة حمراء قصيرة.
لا تضحك رجاء! فلم يكن تأمين ذلك بميسور على الكثير من السجناء، ولذلك كان الدخول استثنائياً إلى الحمام، ترفاً يتمتع به الشاويش ومساعدوه والمقتدرون على دفع الإتاوة وواحد أو اثنان من وجهاء المهجع. الآخرون كانوا يستطيعون ذلك فقط إذا أجادوا التذلل للشاويش أو لأبي عجقة. بعد ذلك بسنوات، حين نقلنا إلى سجن صيدنايا، ولم يعد لرؤساء المهاجع أو أبي العجقات سلطة تذكر، حشر أبو عجقة بيننا لبضعة عشر شهرا، ووعدني أن يشكّل مليشيا خاصة بحمايتي لحظة خروجي من السجن!!
شاويش المهجع 2 لم يكن بهذا السوء، ولم يكن في مهجعنا حمام، فكان حل المسألة مثله مثل المنفردات. يفتح السجان الباب ويتمتع الشاويش بميزة الوقوف عند باب الحمام المقابل للمهجع ويبدأ بالنداء: واحد إذا كان أحدُ المرحاضين شاغرا أو اثنان إذا كان الاثنان شاغرين. كانت فسحة الحمام فسحة من الحرية: الباب مفتوح على مصراعه والسجناء يدخلون ويخرجون، يفرغون مثاناتهم ويعودون والماء البارد المنعش يقطر من وجوههم وأيديهم. لا فرق إذا كان الوقت صيفا أو شتاء، ففي المهجع كل الفصول صيف. مرة فتح البابَ صباحا سجانٌ كان وصل لتوه إلى الفرع، وكان على حذائه وفوق كتفيه آثار ندف الثلج. نحن في الداخل كنا بالسراويل القصيرة والغيارات الداخلية من شدة الحر. ومنصور المنصور الذي يعشق الثلج ويكره الحرَ اقترب من السجّان وراح يغب رائحة البرودة المنعشة القادمة من الندفات العالقة بكتفيه.
كما أن كثافة البشر في المتر المربع الواحد لم تكن عالية كما كان الحال عندما نقلنا إلى المهجع رقم 4، حين كان ثمانين شخصا يسكنون أربعة وعشرين مترا مربعا. وذلك كان حسنا إذ أن العدد وصل قبل ذلك بعام إلى مائة وستين. ويبدو أن قاطني المهجع 2 كانوا يتمتعون بدعم ما، ففي داخل المهجع أقيمت الصلاة وعقدت حلقات حفظ القرآن. وكان نصيبي جزء من سورة البقرة وبعض السور المتوسطة الطول كالواقعة والكهف.
على أن المقام لم يطل في المهجع 2. فقد قررت الإدارة نقلنا إلى المهجع 13 في القسم الغربي من الفرع. كان القسم الغربي مخصصا للسجناء المرفهين، فأعداد سكان المهجع الواحد لا يتجاوز العشرين مما يتيح للسجين فراشا بعرض 50 سنتيمترا، وهو ترف لا يحلم به سكان المهاجع الأخرى. والمتعة الأخرى في المهجع كانت معرفتي بمحمد عيسى. مارد ضخم بشعر أسودَ خشن كث وعينين سوداوين عملاقتين وكفين كل منهما كرحى الطاحون، ولكن أيضا بقلب نبيل لا يقدر على إيذاء أحد وثقافة شافّة وشخصية ماتعة لا تنسى. سألته، حين حاذيته، متظاهرا بالخبرة: “شو دعوتك؟” ودعوتك في هذا المقام تعني بأي تهمة أتيت. نظر إلي بعينين باسمتين وقال: ” ذبحت دجاجة.” واحتجت إلى ثلاثين ثانية لأدرك أنه كان يداعبني. بعدها علمت أنه من رفاقنا أيضا. ولكن محمد أيضا كان ممن حرروا مرصد جبل الشيخ سنة 1973. وهو في كل مرة يروي فيها قصة الانتصار الكبير تدمع عيناه ويبيّن التناقض الغريب بين حجمه ودموعه. ولكي يبدد جو الحزن يبدأ يروي قصصا عن إقامته في المغرب وعن النساء هناك اللواتي يبادرن هن إلى دعوتك إلى فنجان من القهوة. في السجن، تحوّل محمد من مقاتل عنيد في الوحدات الخاصة إلى شاعر رقيق ومثقف جميل. كتب قصائد فاتنة، فيها عمق وسحر وموسيقى. ونشرها بعد إطلاقه في دواوين جميلة:
طاحونة الحب أوقفت رحاها
ما عادت الوديان تسكب الماء
لتدور
حتى الأشجار المحيطة
تضامنت حد اليباس
كل ما بقي
بضعة حصى
يدل بياضها
على إن الماء كان هنا.
استقبلنا في المهجع 13 الشاويش. وهو واحد من أسوأ الرجال الذين عرفتهم في السجن: كان قصير القامة قوي البنية بلحية سوداء جعداء، يأكل كالفيل ويدخن كالمدخنة. كان شبيحا في عصابات جميل الأسد، على أنه تجاوز الحد عندما قتل رجلا من رجال مكافحة التهريب، وقد تخلى عنه معلمه فانهار وأظهر أسوأ ما لديه من خصال. ولكنه حين يكون في مزاج جيد فإنه غالبا ما يسمح للسجناء بالحوار في المهجع. وكان يحب خاصة الاستماع إلى إمام مسجد كان موقوفا في المهجع، ومنه سمعت لأول مرة جدلا عنيف حول ما إذا كان الموتى يبعثون يوم القيامة بأجسادهم أم بأرواحهم. كان ينام إلى جانبه خادم المسجد الذي كان يصر على أن القيامة بالجسد لا بالروح فقط، بينما كان الإمام يعيد بهدوء شرح مقولته عن قيام الروح. ولكن الحوارات كلها كانت تتوقف عندما يقع الشاويش صريع نوبة يأس، فيبدأ بالصراخ والشباب والضرب، ويتوقف المصلون عن صلاتهم، فهم إن فعلوا لم يأمنوا أن يخلع الشاويش سرواله ويقف أمامهم متلفظا بأقذع الألفاظ وأكثرها سوقية.
بيد أن الشاويش لم يسئ لأي منا نحن الثلاثة، محمد، منيف وأنا. فلقد حاول مرة فتصدى له العملاق وأفهمه أن يبتعد عنا، ويبدو أن إدارة السجن أيضا أفهمته ذلك، فكان لا يتعرض لنا مهما بلغ من نوبات جنونه. على أن المهجع لم يكن أفضل المهاجع في السجن، ولم نندم عندما فتح الباب يوما وقال لنا السجان أن نلملم أشياءنا. فعلنا، وبدأت ملحمة المهجع الخامس.
[video_player link=””][/video_player]