عن أمي التي تعيش في دمشق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أتى كلامها أقوى من أصوات القصف،” البيت عم يرج كل ماتطلع قذيفة من الشام غير الهاون يلي عم ينزل يمين شمال٬ وهالمرة قلقانة شوي”. توقفتٌ لبرهة في حالة شلل غريب، إذ أن تعبيرها عن القلق لم يكن أمراً اعتيادياً، أربكني فكتبتُ لها رداً غبياً” لا تخافي..”٬ لم يكن لدي أي فكرة عن ما يتوجب علي قوله٬ ردّت “مش خايفة، بس ادعيلنا..”. تعيش أمي وأختي في دمشق، في الجهة الأخرى من الحدث الأكثر دموية في الآونة الأخيرة، لكنهم في الواقع يقطنون في الجهة نفسها، منزل العائلة ليس بالبعيد عن جبل قاسيون، حيث ترتكز المدفعيات التي تطلق صواريخها باتجاه الغوطة الشرقية في ريف العاصمة. سكان الشام يشعرون بارتجاج الأرض تحتهم فور خروج الصاروخ من فوهة المدفعية، يبصرون تصاعد الدخان من المنطقة الملاصقة لهم، الأحياء الأكثر قرباً تغزوها رائحة الشظايا وكذلك رائحة الدماء، دماء جثث لا يبصروها.

 
كان نومي قلقاً، متقلباً، كما جسدي على السرير، لكني أخذت قراراً حاسماً في متابعة المحاولة، كنت أنظرُ إلى هاتفي بين الحين والآخر، رافضة إمساكه، رغبة مني في النوم ولو لساعة واحدة، لكني لم أنجح في ذلك، إلى أن دخل الضوء إلى غرفتي، حينها اعتبرته إعلاناً للاستيقاظ.
دفعت بيدي نحو الموبايل، وضعته أمام وجهي، دخلت إلى الواتس آب، حيث رسالة من والدتي تسأل عن الأحوال. لم أر عائلتي منذ زمن، حتى وصلت إلى مرحلة تغييب لوجودهم في حياتي. تطرقي لهذا، هو تبرير لأجوبتي وأحاديثي المختصرة جداً معهم. رددّت بجواب مقتضب، يتبعه سؤال عن الأحوال، أجابتني “ما نِمنا يا بنتي مبارح من أصوات القصف”، فكان جوابي، ” طبيعي النظام نازل “دك” بالغوطة”٬ في محاولة لتجاهل الشخصي في الحديث، إخفاءً لمشاعر العجز من قدرتي على مساعدتها، لكني فشلت في هذا أيضاً، إذ أتى كلامها أقوى من أصوات القصف٬” البيت عم يرج كل ماتطلع قذيفة من الشام غير الهاون يلي عم ينزل يمين شمال٬ وهالمرة قلقانة شوي”.
توقفت لبرهة في حالة شلل غريب، إذ أن تعبيرها عن القلق لم يكن أمراً اعتيادياً، أربكني فكتبتُ لها رداً غبياً” لا تخافي..”٬ لم يكن لدي أي فكرة عن ما يتوجب علي قوله٬ ردّت “مش خايفة، بس ادعيلنا..”.
تعيش أمي وأختي في دمشق، في الجهة الأخرى من الحدث الأكثر دموية في الآونة الأخيرة، لكنهم في الواقع يقطنون في الجهة نفسها، منزل العائلة ليس بالبعيد عن جبل قاسيون، حيث ترتكز المدفعيات التي تطلق صواريخها باتجاه الغوطة الشرقية في ريف العاصمة. سكان الشام يشعرون بارتجاج الأرض تحتهم فور خروج الصاروخ من فوهة المدفعية، يبصرون تصاعد الدخان من المنطقة الملاصقة لهم، الأحياء الأكثر قرباً تغزوها رائحة الشظايا وكذلك رائحة الدماء، دماء جثث لا يبصروها، بينما تتساقط عليهم قذائف هاون تائهة من قبل جيش الإسلام الذي سيطر على الغوطة  في السنوات الماضية ، فيلق الرحمن ، هيئة تحرير الشام وأحرار الشام.
يثير هجوم الهاون العشوائي الخوف لدى قاطني العاصمة من موت بمحض الصدفة في سجنهم الكبير، المحكوم بقبضة النظام الوحشية، هم يعيشون خوفاً مختلفاً، وحاضراً موازياً لحاضر أهالي الغوطة، لكن هناك لا مكان للموت صدفة، بل النجاة منه هو محض صدفة بحتة، وفي كلا المنطقتين (المنطقة ذاتها) لا مهرب فيهما من الخوف على اختلاف ظرفيهما.
“قتل النظام السوري ومرافقه الروسي 106 مدنياً على الأقل في قصف كثيف على الغوطة الشرقية لليوم الرابع على التوالي، لترتفع الحصيلة الإجمالية إلى 250 قتيلاً على الأقل منذ الأحد الماضي. تعرضت الغوطة الشرقية في ريف دمشق منذ عام 2012 لحصار محكم فرضته قوات النظام، ارتكب خلالها في 21 أغسطس/آب 2013 مجزرة وحشية استخدم المواد الكيماوية، مما أسفر عن مقتل 1600، أغلبهم من الأطفال، إضافة إلى مئات من الجرحى.”
قبل الأحد الماضي كان الخبر السوري هامشياً إلى حدّ ما في تصدره لوسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي، إذ تحول وعلى الرغم من استمراريته خلال السنوات السبع إلى جثة حية، لم يتوصل أحد إلى علاج لها، ما أدخلها في غيبوبة٬ لتأتي أحداث الغوطة كما الصعقة الكهربائية فأنعشتها، إذ أعادت الشأن السوري ليتصدر الواجهة. أطلقت وسائل التواصل الاجتماعي حملات كثيرة تحت عناوين مختلفة، كما تصدرت أخبار الغوطة وسائل الإعلام العربية والعالمية، ليس هذا فقط بل اجتمع أصحاب النفوذ والقوى العربية والدولية بشكل طارئ لمناقشة الوضع هناك في مؤتمرات و لقاءات و اجتماعات في دول عدة.
الآن الشاهد/ المراقب في حالة انفعال قصوى، لكن توقفوا للحظة، ألم نشهد تكراراً لكل ما سبق ذكره في كل حدث وحشي تعرض له السوريين من فعل وردة فعل، أم أنه وهم سبق الرؤية أي ما “تم رؤيته سابقاً” ما”تم الشعور به سابقاً”، الشعور الذي يشعر به الفرد بأنه رأى أو عاش الموقف الحاضر من قبل٬ Déjà vu.
في مكان بعيد عن الحدث، الساعة ٦ مساءً، البرد في أشده، ارتديت كنزة صيفية، فوقها كنزة شتوية، سترة خفيفة، ومن ثم بنطال قطني أسود، فوقه بنطال جينز وسترة شتوية ثقيلة، كل تلك الطبقات المتناقضة، من أجل شراء علبة سجائر، وفي الطريق حملت هاتفي لأتابع أحداث الغوطة الشرقية، وإذا بصورة شاب تغزوا كل صفحات الأصدقاء الشخصية على الفيس بوك، توقفوا لحظة، لقد كتبت هذا المقطع سابقاً، لا بل رأيت هذه الصورة سابقاً!.
الصورة لشاب يسند طرف جسده على حائط مدمر، لا نرى من ملامحه شيئاً، رأسه مطأطئ نحو الأسفل، هل هو نائم؟، ملابسه غطاها الرمادي، كما شعره الذي علقت عليه فوضى ما حوله، انظر جيداً، الدماء قابعة على ثيابه، تحت قدميه وحوله، اقترب أكثر من الصورة، حفر واضحة على ساعديه وكفيه، يبدو أن طلقات الرصاص استقرت فيها، ابتعد قليلاً، نرى شاباً مطأطئ الرأس، يجلس في زواية حائط مدمر، ساكن سكوناً مفرطاً، كما لو أنه تعب، مرهق للغاية، لا ينظر إلى العدسة، هل هو نائم؟ هل هو ميت؟.
أنظر إلى تاريخ الصورة، تاريخ النشر إنه اليوم، هي صورة لحدث آني، شعرت بدوار شديد كاد يفقدني الوعي، حدقت في الشاشة مطولاً، نظرت حولي، تسارعت دقات قلبي، شعرت به ينكمش على نفسه حد الاختناق، التاريخ هو الحاضر، لكن عندي يقين بأن ما أشهده الآن، هو الماضي، دفعت بأصبعي المرتجف نحو الشاشة من جديد صورة أخرى.
الصورة- داخل الكادر ٤ أجساد صغيرة مستلقية على ظهرها، فوق طاولة حديدية في مشفى ميداني ما، الدماء تغطي الوجوه الصغيرة، في حين ترى القليل منها متناثرة على باقي الأجساد بشكل مبعثر، الأطفال الثلاثة ممدين بجانب بعضهم البعض، أما الأصغر حجماً وضعت بين قدمي الطفلة في المنتصف، عيونهم مفتوحة، ماعدا واحد منهم، أو هذا ما ظننته، إذ أن وجهه متوجه نحو اليمين بشكل مغاير للآخرين، وجوههم عيونهم متجهة نحو الأعلى، لا أحد منهم ينظر إلى العدسة، هل هم أحياء أم أموات؟
لقد رأيت هذه الصورة من قبل، لكن التاريخ، هو الحاضر كذلك، قفز أمامي بيان الأمم المتحدة و الصليب الأحمر (الأمم المتحدة تدعو إلى وقف “الإبادة الوحشية” في الغوطة)٬(الصليب الأحمر يطالب بدخول الغوطة فورا ويتوقع الأسوأ)، لقد قرأتهما سابقاً أيضاً، لكن تاريخ إصدارهما هو الزمن الحالي. ارتفعت حرارة جسدي، وخلال ثوان، رأيتني أخرج من نفسي، أقف خلفي، أشاهدني كما لو أني شخصية ما في فيلم يبدو أني شاهدته مسبقاً، عدت مسرعة إلى مكان إقامتي فتحت كمبيوتري دخلت إلى الأرشيف الخاص بي، الأرشيف الذي لم أنشره بعد، وقرأت التالي: (على كرسي برتقالي اللون، يجلس طفل صغير يبلغ من العمر الخمس سنوات، ترى ملامحه بوضوح إلى حد ما، يشوشها الرمادي، والأحمر الذي ارتمى على نصف وجهه، الفوضى حوله جلية فيه، الجسد الصغير ساكن سكوناً مفرطاً أيضاً، لا يبكي، لا يصرخ، ينظر نحو العدسة بعين مفتوحة بشكل واسع، بينما تدلى جفن الأخرى إلى منتصف الحدقة، هل هو حي، هل هو ميت؟)انتشرت صورة الطفل من مقطع فيديو صُور في أعقاب قصف لأحد المباني في مدينة حلب في شهر آب ٢٠١٦، أي قبل عام و٧ أشهر من الآن، شهدت المدينة حينها قصفا شديدا على الأحياء الشرقية منها من قبل الطائرات الحربية السورية والروسية، تلك المدينة التي سقطت لاحقاً، حينها علق المصور محمود رسلان الذي التقط الصورة لوكالة الصحافة الفرنسية”في العادة يفقدون وعيهم أو يصرخون، لكن عمران كان يجلس صامتا، يحدق مذهولا كما لو أنه لم يفهم أبدا ما حل به”.
وفي النص ذاته قرأت التالي: عدد لا يحصى من الأجساد الصغيرة الممدة بشكل متلاصق على الأرض، لا تبصر في هذه الصورة نقطة دم واحدة، بل أطفال مغمضو الأعين، يرتدي معظهم ثياب النوم، لا أحد منهم ينظر إلى الكاميرا، هل هم نيام أم موتى؟
أربعة صور، من الماضي ومن الحاضر. يبدو أن الأحداث نسخة عن نسخة عن نسخة، الصور ذاتها، كلها في بلد واحد، كما لو أن الزمن لا يسير في سيرورة زمنية متتالية، بل مطبق على بعضه إلى حد الضياع، أصبح الوقت فيه سريع سرعة الضوء لا يتأثر بحركة المصدر أو حركة الراصد مهما كان الاتجاه والأحداث، حينها فقط يتوه منك الوجود.
هذه الصور ليست بالغريبة، لا تثير الصدمة مطلقاً لمن شهد الأحداث في سوريا خلال الأعوام الأخيرة السابقة، ما يبعث في نفسك الحيرة، الحيرة جراء ردة فعلك الانسانية تجاهها، كما خروجها عن النطاق الزمني في استيعابك لها، لكنها تثير فيك شعوراً أليفاً، سلبياً في هذه الحالة، لكنه شعور تم اعادة استثارته، يبدو أن الشعور لم يتلاشى بل تم كفه عن الإدراك اليومي، أي أن الصور والمشاعر الخاصة التي رافقتها آنذاك لم تختف كلياً بل العكس تماماً إذ أن تطور مشاعرنا وردات فعلنا هو نتاج تداعياتها الذي ومع مرور الوقت تحول إلى مصدر ضبابي لما نحن عليه اليوم. يكفي أن تقفز صورة مماثلة أمامنا لينتفض معها كل ذاك المخزون معاً دفعة واحدة، آنية الحدث، إبصارنا له، ينقله من العدم الوهمي إلى الوجود الواقعي، ومنها إلى الإدراك الذي يثير معه الشعور، امتزاج تجلي وحدة الوجود الماضي والحاضر معاً في الوقت نفسه.
قالت لي والدتي يوماً أنها “معي” على الرغم من استحالة ذلك فيزيائياً بسبب البعد المكاني، لكني في هذه الأيام ولأول مرة أشعر أن جزءً مني “معها”، حاضري لا يشبه حاضرها بشيء، لكننا نعيش في الزمن نفسه، وبينما كنت أغرق في أفكاري تلك، وصلتني رسالة أخرى منها، ها أنا أكتب النص ولم أقرأ ما أرسلته بعد، فلا كلمات لدي، سوى عجز سخيف، الخضوع له مبرر لصمت طويل..
[video_player link=””][/video_player]

لتصلكم نشرة درج الى بريدكم الالكتروني