fbpx

أذربيجان تغزو أرمينيا:
فرضية العجز الروسي ودور إيران وتركيا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يكن الهجوم الأخير هو الأول من نوعه على أرمينيا: فبعد ستة أشهر من اتفاق وقف إطلاق النار الذي أُبرم في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، اختارت أذربيجان اللجوء إلى العنف مجدداً واجتاحت أرمينيا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 12 سبتمبر/أيلول الجاري، شنَّت أذربيجان هجوماً مكثفاً على طول الحدود الشرقية الأرمينية. غيّر هذا الهجوم الخارطة الجيوسياسية لجنوب القوقاز، وهو ما سيؤدي إلى زيادة حدة المنافسة بين القوى العظمى. 

شمل الاعتداء الأذربيجاني منطقة كبيرة تمتد من شرق بحيرة سيڤان إلى مدينة كابان في الجنوب، قرب الحدود مع إيران. وقد بدأ الهجوم بقصف مدفعي مكثف تبعه هجمات برية على محاور عدة. وتوغل الأذربيجانيون في الأراضي الأرمينية لمسافة بلغت 4 كيلومتراً إلى الشرق من بلدة جرموك السياحية. 

كانت تكلفة هذا الهجوم باهظةً: فوفقاً للتقديرات الرسمية، أسفر عن مقتل 135 أرمينياً و77 أذربيجانياً حتى تاريخ كتابة هذا المقال. لم يصمد اتفاق أولي بوساطة روسية لوقف إطلاق النار. لكن يبدو أن ترتيبات وقف إطلاق النيران الأخرى التي توصل إليها الأميركيون لا تزال سارية في الوقت الحالي. هذا إلى أن تشن أذربيجان هجومها التالي على أرمينيا، إن لم يكن على سائر مناطق إقليم ناغورنو كاراباخ.

لم يأتِ هذا التصعيد العسكري غير المسبوق نتيجة بعض “الحوادث” الحدودية، إذ يستلزم هجوم بهذا الحجم إعدادات طويلة مسبقة. ففي أبريل/نيسان الماضي حذرت مصادر أرمينية من حدوث اعتداء كهذا، لكنه أُحبط بفضل الضغوط السياسية الخارجية على باكو.

وإذا أخذنا السياق السياسي في الاعتبار، يبدو هذا العنف مفاجئاً أيضاً:  فقبل أسبوعين فقط-أيّ في 26 أغسطس/آب- أخلى الجانب الأرميني مدينة لاتشين الاستراتيجية، وكذلك قريتي زابوخ وسوس، ودخلت القوات الأذربيجانية إلى هذه البلدات دون قتال… دون التضحية بجنود شبان.

أعربت أرمينيا عن استعدادها لتوقيع اتفاق سلام لكنها طالبت أيضاً بمناقشة مصير إقليم كاراباخ ومواطنيها الذين يسكنون فيه.

وقبل عامين من ذلك، خلال حرب كاراباخ الثانية، التي شنتها أذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ، حققت أذربيجان مكاسب أكثر مما كانت تطالب به خلال 26 عاماً من المفاوضات: الاستحواذ على كافة الأراضي المحيطة بِأقليم  ناغورنو كاراباخ خلال حقبة الاتحاد السوفيتي التي كانت تخضع لسيطرة الأميركيين خلال حرب كاراباخ الأولى، إضافة إلى احتلال مدينتي شوشة وهادروت التابعتين لإقليم ناغورنو كاراباخ.

لم يكن الهجوم الأخير هو الأول من نوعه على أرمينيا: فبعد ستة أشهر من اتفاق وقف إطلاق النار الذي أُبرم في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، اختارت أذربيجان اللجوء إلى العنف مجدداً واجتاحت أرمينيا. لكن تلك النجاحات التي كانت أكثر بكثير مما طالب به الزعيم الأذربيجاني إلهام علييف قبل سبتمبر/أيلول 2020، لم تكن كافية لإنهاء الصراع المستمر منذ 30 عاماً. إذ تطلب أذربيجان من أرمينيا أن تقبل “السلامة الإقليمية” لأذربيجان دون ضمان حقوق وسلامة الأرمينيين في إقليم ناغورنو كاراباخ.

تطالب أذربيجان أيضاً بوجود “ممر” في جنوب أرمينيا يربط ما بين الأراضي الأذربيجانية وجمهورية نخجوان الذاتية (التابعة لها). في المقابل، أعربت أرمينيا عن استعدادها لتوقيع اتفاق سلام لكنها طالبت أيضاً بمناقشة مصير إقليم كاراباخ ومواطنيها الذين يسكنون فيه. علاوة على ذلك، طلبت أرمينيا فتح كافة طرق النقل المؤدية إلى أذربيجان وتركيا، الدولتان اللتان تفرضان حصاراً كاملاً على أرمينيا منذ تسعينيات القرن الماضي.

يعزز العدوان الأذربيجاني المستمر على أرمينيا، رغم تلبية كافة المطالب الأذربيجانية قبل الحرب، تلك الحجج التشاؤمية بأن النزاع لا يقتصر على الوضع في إقليم ناغورنو كاراباخ -ذو الغالبية الإثنية الأرمينية لكنه كان يخضع للحكم الأذربيجاني خلال الحقبة السوفيتية- وإنما هو صراع أزلي بين مجموعتين عرقيتين. 

التغيّرات الجيوسياسية

لعبت روسيا -التي تمتلك قاعدتين عسكريتين في أرمينيا، وقوات منتشرة على الحدود الأذربيجانية الأرمينية- دور الوسيط بين الطرفين المتنازعين، دون إحراز نجاح يذكر. صحيح أن إخفاق روسيا الأخير في أوكرانيا أدى إلى تراجع مكانتها، مع ذلك، فإن المحللين الذين يعزون العدوان الأذربيجاني الأخير إلى الضعف الذي تشهده روسيا يفتقدون الموضوعية. فقد غزت أذربيجان أرمينيا في مايو/أيّار 2020، أيّ قبل 8 أشهر من اندلاع الحرب في أوكرانيا. علاوة على ذلك، خلال حرب 2020 عندما شنت أذربيجان هجومها العسكري الواسع على إقليم كاراباخ وأرمينيا، اضطلعت روسيا وقتها أيضاً بدور الوسيط بدلاً من دعم حليفتها أرمينيا.

يمكن مقارنة هذا العجز الروسي بعجز الاتحاد الأوروبي. ففي حين وقَّع الاتحاد الأوروبي بكل سرور اتفاقية غاز جديدة مع أذربيجان في يوليو/تموز من هذا العام، التزمت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين الصمت إزاء العدوان الأذربيجاني. على الرغم من صمت الاتحاد الأوروبي، فإن من الجلي أن العدوان الأذربيجاني المتواصل سيجعل من الصعب استيراد النفط والغاز من أذربيجان، بينما يقاطع الاتحاد الأوروبي مصادر الطاقة الروسية بسبب الغزو الأوكراني.

تعد إيران واحدة من الدول التي تبدو معنية بالأمر لكنها عاجزة أيضاً. مثَّلت الحرب في عام 2020 صدمةً للقادة الإيرانيين، الذين عولوا على روسيا لإبقاء الوضع على ما هو عليه في منطقة القوقاز. لكن الحرب زادت من قوة أذربيجان التي تمتلك أطماع توسعية في شمال إيران، وعززت أيضاً الوجود العسكري التركي والإسرائيلي كذلك على الحدود الإيرانية الشمالية. يهدد القتال الأخير بقطع الطريق الواصل بين إيران والعاصمة الأرمينية. لكن وعلى الرغم من هذه التغييرات الخطيرة، يبدو أن الحكام الإيرانيين عاجزين عن اتخاذ رد مناسب.

على الجانب الآخر، منحت تركيا مجدداً دعمها الكامل لأذربيجان. فقد جرت مناورات عسكرية بين القوات التركية والأذربيجانية في الفترة ما بين 5-9 سبتمبر/أيلول، قبل أيامٍ معدودة من شن أذربيجان هجومها الأخير، كما هو الحال تماماً قبل هجوم سبتمبر/أيلول من عام 2020 على كاراباخ. سيشكك الموقف التركي المتشدد في جدوى المفاوضات الجارية بين أنقرة ويريفان التي من المفترض أنها تهدف إلى تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

حدثت المفاجأة الكبرى في الأسبوع الماضي عندما شاركت الولايات المتحدة بفاعلية في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار، والذي أدى خلاله وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن دوراً بارزاً. جاءت زيارة وفد أميركي إلى أرمينيا برئاسة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي مع وعدٍ جديدٍ بدعم أرمينيا وأمنها. تُظهر الولايات المتحدة اهتماماً جيوسياسياً جديداً بمنطقة جنوب القوقاز، في الوقت الذي يمر فيه النفوذ الروسي بحالة من السقوط الحر، مع مواصلة تركيا دعمها لأذربيجان، ومراقبة إيران للتطورات بحذر. 

على المدى المتوسط، يبقى لنا أن نرى كيف ستتعامل هذه القوى الكبرى مع التطورات في منطقة القوقاز الصغيرة لكن المشحونة جيوسياسياً في الوقت ذاته.