fbpx

أعرفُ المُهرّب والهاربين: عن “تابوت أرواد البحري”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أنا واحدٌ من السوريين الذين استغلّهم مهرّبو البشر، وقد وُضعت في قاربٍ متهالك وبائس حتّى إنّه كان أشدّ بؤساً من حياتي عندما قرّرت الرحيل، وبسبب هذه التجربة، صرت أعرف المهرّبين جيداً، أعرفهم حين يكذبون، ولكن لم أختبرهم حين يصدقون، أعرف كيف يخدعون اليائسين أشباهي في التوابيت البحرية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل أن أحكي ما لديَّ من معلومات ووقائع وشهادات حصلتُ عليها لهذا التقرير، أريد أن أقول إنّني أعرفهم جميعاً، أعرف المهرّب جيداً كما أعرف الهارب.

أنا واحدٌ من السوريين الذين استغلّهم مهرّبو البشر، وقد وُضعت في قاربٍ متهالك وبائس حتّى إنّه كان أشدّ بؤساً من حياتي عندما قرّرت الرحيل، وبسبب هذه التجربة، صرت أعرف المهرّبين جيداً، أعرفهم حين يكذبون، ولكن لم أختبرهم حين يصدقون، أعرف كيف يخدعون اليائسين أشباهي في التوابيت البحرية.

 آخر هذه التوابيت كان القارب الذي انطلق من شمال لبنان، وغرق قرب جزيرة أرواد السورية وهو في طريقه إلى الشواطئ الإيطالية وراح ضحيّته أكثر من 100 غريق في حصيلة غير نهائية، لقد أعادهم المهرّب ليموتوا على شواطئ البلاد التي هربوا منها.

كما أنّني أعرف المصطلحات الفضفاضة التي يستخدمها المهرّبون عند إقناع اللاجئين بدفع الأموال واعتماد الرحلة، سمعتُ الكثير عن جملة “الطريق دهب” و”ما بطالعك حتّى أتأكد أنو البحر متل قالب الزبدة” في إشارة إلى تأكّد المهرّب من ارتفاع الموج وسرعة الرياح واتجاهها، لكنّه لا يفعل أي شيء من هذا القبيل، ولا يرافق اللاجئين في رحلتهم فهو غير مضطر لوضع نفسه في المخاطرة ذاتها، جل ما في الأمر أنّه يدرّب أحد اللاجئين على قيادة القارب مقابل إيصاله إلى الضفاف الأخرى مجاناً.

وبالحديث عن الضفاف الأخرى، أنا أعرف الهاربين الذين تأكّد غرقهم في فاجعة السفينة الغارقة قرب جزيرة أرواد، والبالغ عددهم أكثر من 100 شخص في إحصاء غير نهائي، وأعرف الذين ما زال مصيرهم مجهولاً، لأن خفر السواحل السوري الباحث عنهم متهالك، وأعرف الذين نجوا ويخضعون للعلاج في المستشفيات حالياً، لذلك فإنني أعرف الـ160 شخصاً الذين كانوا على متن القارب المكلوم، سواء كانوا سوريين أو لبنانيين أو فلسطينيين.

على أقل تقدير، أنا متأكّد من أنّني شاركتُ السوريين منهم المشاعر ذاتها عندما نجوت من غارة جوّية أو برميل متفجّر أو قذيفة هاون، وتحمّلت معهم ملل ساعات الانقطاع الطويل للكهرباء، أكلت معهم من خبز المخابز الاحتياطية، ووقفت وشاركتهم الأحاديث المملّة على طابور الخبز.

لديَّ يقين بأنّني رقصت معهم على الأغنية ذاتها في أحد الأعراس الشعبية، وطأطأت رأسي لثلاث ليالٍ في عزاء سوريٍ تقليدي، معهم، وأكاد أجزم أنّني حيّيت “حزب البعث” الذي كان سبباً في هروبي وهروبهم إلى عُباب البحر، وذلك خلال الوقوف على تحيّة العلم الصباحية في المدرسة الابتدائية السورية، وربما نكون جميعنا قد انتظرنا معاً على مضض حلقة المسلسل الإذاعي السوري الأسبوعي “حكم العدالة” التي تنتهي دائماً بانتصار الضحية وندم الجاني على ما اقترفته يداه.

أعرف اللبنانيين منهم، ومعظمهم من طرابلس وعكار، ومنهم سائق التاكسي الطرابلسي الذي نقلني من ساحة النور إلى طريق الضنّية، أعرف حي القبّة وساكنيه وأصحاب متاجره البسيطة، هناك حظيت باللقاء الأول بمن أحببت، وفي باب الحديد اشتريت الخاتم الذهبي!

المعلومات التي توفّرت حتّى الآن، وتمكّنا من جمعها من أقرباء لثلاثة أشخاص سوريين كانوا على متن المركب المنكوب أكّدت بشكلٍ متطابق أن القارب انطلق من نقطة قريبة من ميناء طرابلس، لكن الانطلاق لم يكن بالسفينة المنكوبة مباشرةً لأن اقترابها من الشاطئ كان من شأنه أن يُفشل الرحلة، ويجعل المهاجرين يمتنعون عن الصعود، لذلك سعت شبكة التهريب إلى نقلهم بسفن سريعة وصغيرة على دفعات نحو القارب المنكوب الذي كان ينتظرهم بعيداً من الشاطئ. كان الانطلاق بحدود الساعة الخامسة والنصف من فجر يوم الثلاثاء (20 أيلول/ سبتمبر)، وكان الاتفاق يقضي بأن المهرّب جهّز باخرة متينة وضخمة، عرض صورها عليهم، على أن يضع على متنها 70 شخصاً لتنطلق إلى إيطاليا، ولكن عند تجمّع المهاجرين، اكتشفوا أنَّ عددهم يزيد عن 160 شخصاً ووجدوا أنفسهم داخل مركب متوسّط الحجم ومتهالك ومصنوع من الخشب، لقد كان أشبه بتابوت بحري.

في تلك اللحظة عند الوصول إلى نقطة التهريب يختلف الاتفاق، وتتغيّر كل وعود المهرّب، وليس أمام الشخص سوى الصعود طوعاً أو كرهاً، لا يمكن التراجع بعد اكتشاف نقطة التحميل. 

حصل المهرّب المدعو “أبو علي” بحسب دعوات من كانوا يغرقون، على نحو ستة آلاف دولار أميركي من كل شخص، أي أنّه كان يخطّط لربح يصل إلى مليون دولار أميركي من هذه الرحلة، كانت كل المعطيات تشير إلى أن القارب سيغرق، بما في ذلك ارتفاع موج البحر وسرعة الرياح، وصغر حجم القارب وتهالكه، إضافةً إلى عدد الركاب الكبير.

سار القارب باتجاه الشمال الغربي في عمق البحر بعيداً من أي شواطئ أو جزر قريبة من أجل تسهيل مهمّته وجعلها مختصرة، ولو كان ذلك على حساب إمكانية إنقاذ الأرواح عليه من شواطئ قريبة في حال غرقه، وبعد نحو ثلاث ساعات من المسير، أدرك الركّاب أن القارب غير جاهز لهذه المهمّة، حاولوا التواصل مع المهرّب لإعادتهم إلى طرابلس، بعضهم تنازل عن المبلغ مقابل العودة فقط ولكن المهرّب لم يتجاوب معهم وقرّر متابعة الرحلة.

بعد بضع ساعات أخرى من المسير، وتحديداً عند ظهر يوم الثلاثاء، تجمّعت المياه على المحرّك بسبب عدد الركاب الكبير الذي سبب ضغطاً على القارب، فتوقّف المحرّك عن العمل، وتوقّف القارب وسط البحر، فيما الأمواج مرتفعة جداً ولا نقطة إنقاذ قريبة. بدأ الركّاب يحاولون تفريغ المحرّك من المياه ولكن بسبب وقوف القارب وعدم تحرّكه بين الأمواج، تمايل يميناً ويساراً لبضع دقائق قبل أن يميل الميلة الأخيرة وينقلب مبعثراً معه العشرات.

المعلومات المُتوفرة، إضافة إلى تحليل بحّار قابله “درج” تؤكّد أن المركب غارق لا محال، فلو افترضنا أن وزن كل شخص وسطياً هو 70 كيلو غراماً، فسيكون وزن 160 شخصاً على متن القارب نحو 11 طناً، تضاف إليه أمتعة وأطعمة ومياه شرب تكفي لأسبوع في البحر.

 ولا ننسى أن القارب كان يحمل مادة مازوت تكفي للإبحار لأكثر من 1800 كيلومتر حتّى الوصول إلى إيطاليا، وهو ما يُعادل نحو 3 أطنان من المازوت، استناداً إلى تقدير حجم القطعة الخشبية التي كانت تبحر، والتي تحتاج إلى ما لا يقل عن 8 ليترات من المازوت في كل ساعة مسير، هكذا، حملت تلك القطعة الخشبية المهترئة نحو 15 طناً. المركب كان غارقاً لا محال!

من يقرأ هذا المقال ليس بحاجةٍ إلى سؤال عن سبب تحميل الناس بهذه الطريقة لأن الإجابة بدهية، العرف العام بالمهرّبين يقوم على لغة الأرقام لا الأرواح، فعلى سبيل المثال يدرك المهرّب جيداً أن القارب لن يعود، سواء تم الإمساك بالقارب في المياه اللبنانية أو اليونانية أو القبرصية أو حتّى في حال نجحت الرحلة ووصلت إلى إيطاليا، في جميع الحالات لن يعود القارب، لذلك فإن المهرّب ليس بصدد شراء قارب حديث ومتين بمبلغ يصل إلى 300 ألف دولار في رحلة رأسمالها مليون دولار، إنّها خاسرة في عرف المهرّبين.

حتّى الآن لا رواية كاملة تشرح بالتفصيل ما حدث خلال ساعات الليل والنهار الطويلة التي أمضاها الركاب حتّى بدأت الجثث تتدفّق قرابة جزيرة أرواد السورية، لكن الأكيد أن أكثر من مئة شخص حتى الآن دفعوا ثمن القهر والفقر وجشع المهرّبين، وخسروا حياتهم، فيما تستعدّ قوارب موت جديدة للانطلاق… وكأنّ شيئاً لم يكن!

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.