fbpx

إيطاليا القلقة وغير المستقرة توصل “الفاشيين الجدد” إلى السلطة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سيكون للإيطاليين حكومة جديدة، كما ستكون هناك إيطاليا جديدة يصعب التكهن بالخطوط العامة لشكلها وعلاقاتها الدولية، لكن يسهل التنبؤ بأنها ستكون إيطاليا قلقة وغير مستقرة، كما كانت دائماً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أُعلنت نتائج الانتخابات التشريعية الإيطالية، وبنتائج قريبة جداً من المتوقع ومما كانت تشير إليه استطلاعات الرأي في الأسابيع الأخيرة. حقق تحالف “يمين الوسط” فوزاً كبيراً على خصومه السياسيين ممثلين بـ “الجبهة التقدمية” التي يقودها الحزب الديمقراطي (يسار الوسط)، وحصل على 43 في المئة من أصوات الناخبين الإيطاليين في داخل البلاد وخارجها.

إلا أن انتصاراً من نوع آخر اخترق تحالف اليمين نفسه، عبر هبوط وتراجع نسبة التصويت لصالح سيلفيو بيرلسكوني (فورزا إيطاليا) وماتيو سالفيني (حزب الرابطة)، بالتزامن مع نسبة كبيرة جداً لحليفتهما جورجيا ميلوني، زعيمة حزب “أخوة إيطاليا” ما بعد الفاشي أو “حزب الفاشيين الجدد” بحسب تسمية إيطالية، وهو الحزب الذي كانت الأنظار مشدودة إليه إيطالياً وأوروبياً وأميركياً، منذ انطلاق الحملة الانتخابية.

احتفالات وابتسامات وضحك وصور “سيلفي” وتغريدات على “تويتر” شهدتها أوروبا، احتفالاً بصعود السيدة ميلوني واستعدادها لقيادة البلاد كرئيسة للوزراء، مع ملاحظة أن أوروبا التي تحتفل بميلوني ليست أوروبا الديمقراطية الليبرالية التي قامت من بين ركام الحرب العالمية الثانية. إنها أوروبا إريك زمور ومارين لوبان وحزب “فوكس” اليميني المتطرف في إسبانيا، و”حزب البديل” الألماني والمحافظين في السويد، من دون أن ننسى التوجه شرقاً باتجاه بولندا وهنغاريا فيكتور أوربان، و”التشريق” أكثر نحو الحلم القيصري الذي يحتضر تحت ضربات الأوكران، حيث الفرحة الأكبر لموسكو فلاديمير بوتين، الداعم الأكبر لليمين المتطرف في أوروبا والمعادي لهذه الأخيرة.

ثمة مقدمات كثيرة لانتصار حزب ما بعد الفاشية المتحالف مع يمنيين آخرين أقل تطرفاً منه، ليس على مستوى استطلاعات الرأي فقط، بل ومنذ انتخابات 2018 التي كانت أول جرس إنذار حقيقي يقرع مع “الانتصار” النسبي لهذا التحالف وتراجع اليسار الديمقراطي والديمقراطيين الليبراليين. تقدُّم اليمين المتطرف ليس حدثاً إيطالياً محضاً، لكن إيطاليا قد تكون الأكثر تأثراً به من غيرها في المدى القريب، نظراً لموقعها في منطقة اليورو ولكونها ثالث اقتصادٍ فيه، ولعلاقتها المركزية مع بروكسيل. ثمة أيضاً الأزمة الاقتصادية والتضخم والغلاء وارتفاع أسعار الطاقة والحرب الخارجية (الأوكرانية الروسية)، وهذه كلها مياه عذبة تسبح فيها أسماك اليمين المتطرف وتنمو، وتعبر الحدود لتصل إلى الحكم بالانتخابات وتتحول إلى جائحة تهدد الاتحاد الأوروبي بديمقراطيات غير ليبرالية.

غير أن هذه الأزمات والأوضاع السياسية والحربية غير المستقرة والتي ساعدت اليمين المتطرف في الوصول إلى السلطة، قد تكون، هي أيضاً، سبباً في عدم نجاحه بسهولة في إدارة البلاد بالاستناد إلى برنامجه الانتخابي. فإيطاليا المعزولة عن محيطها الأوروبي وعن العالم ليست في مصلحة عموم الإيطاليين بمن فيهم من صوتوا لليمين المتطرف، والذين يعانون البطالة والغلاء وتبعات التضخم، ولا حتى في مصلحة حكومة التحالف السيادي المنتصر، مع دفعات مالية إنقاذية منتظرة من أوروبا تحت بند “خطة إعادة التعافي” من الوباء PNRR وتُقدّر بنحو 200 مليار يورو، تم إقرارها عام 2021 في ظل حكومة جوزيبي كونتي المستقيلة.

احتفالات وابتسامات وضحك وصور “سيلفي” وتغريدات على “تويتر” شهدتها أوروبا، احتفالاً بصعود السيدة ميلوني واستعدادها لقيادة البلاد كرئيسة للوزراء،

هناك أيضاً الموقف من الحرب الأوكرانية وهو موقف أساسي وحاسم اليوم، ومختلَف عليه بين الحلفاء الثلاثة. فماتيو سالفيني معادٍ للاتحاد الأوروبي وصديق شخصي لبوتين، وقد برزت في الفترة الأخيرة اتهامات طاولته وحزبه بتلقي أموال من الكرملين، بينما يؤيد سليفيو بيرلسكوني الاتحاد و”الدفاع عن الهوية الكاثوليكية” لإيطاليا وأوروبا معاً، ويعارض رفع العقوبات عن بوتين على عكس سالفيني، كما صرّح بعد الانتخابات قائلاً “إن العلاقة الجيدة مع حلفائنا التاريخيين كالولايات المتحدة والدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي ضرورية لمستقبل إيطاليا”. أما جورجيا ميلوني، حليفة الاثنين وزعيمة التحالف معهما والتي حصلت لوحدها على 26 في المئة من أصوات الإيطاليين، فلا تزال سياساتها ومواقفها “غير واضحة” حتى اللحظة، ويعود عدم الوضوح هذا إلى سببين:

الأول أنها كانت، وإلى ما قبل الحملة الانتخابية لحزبها، من أكثر أقطاب اليمين الإيطالي تطرفاً ومعاداة لأوروبا ولنهج بروكسل، وللحكومات الإيطالية ذات التوجه الأوروبي، وحتى لرئيس الجمهورية سيرجيو ماتاريلا، إذ كان حزبها هو الحزب الوحيد في البرلمان الذي رفض التصويت له في انتخابات الرئاسة 2021. والثاني، أنها بدت في الشهرين الأخيرين شخصاً آخر وسياسية مختلفة عن ميلوني المعروفة للإيطاليين والعالم، خصوصاً أن استطلاعات الرأي كانت ترجح فوزها وهو ما حصل فعلاً. قدّمَت ميلوني قبل شهر تقريباً “تطمينات” إلى أوروبا والولايات المتحدة بحكومة إيطالية ذات توجه أوروبي، رغم انتقادها “بيروقراطية بروكسل”، وتعهدت باستمرار دعم أوكرانيا بالسلاح والسياسة في مواجهة بوتين، ووعوداً وتطمينات كثيرة أخرى.

هذه الوعود هي، في الغالب، ليست إلا وعوداً مرحلية خلال الحملة فقط، وهو ما قد تؤكده الأيام القادمة، بعد بدء المشاورات والتداول وانتخاب رؤساء مجلسي الشيوخ والنواب، واللقاءات مع رئيس الجمهورية الذي يبقى القرار الأخير بيده فيما يتعلق بالتكليف. هذه من الصلاحيات الدستورية للرئيس، وميلوني تدرك هذا جيداً، وهو ما دفعها قبل أسابيع إلى إرسال رسالة غير مباشرة عبر الصحافة إلى ماتاريلا، بدت فيها قلقة على هذا الصعيد، ومفادها أن “الرئيس لن يستطيع التغاضي عن تسميتي وتكليفي بتشكيل الحكومة في حال فوزي بالانتخابات”.  

هذا ما سيحصل غالباً، وسيقوم ماتاريلا بتكليف ميلوني لتشكيل الحكومة بالشراكة مع حلفائها في التحالف اليميني الثلاثي، في ظل غياب تحالف آخر وقريب من وزن الكتلة اليمينية، لكنه تكليف لن يكون بلا ثمن بحسب خبراء ومحللين إيطاليين. فالرئيس هو الضامن لتحالفات إيطاليا الدولية وخصوصاً التحالف العسكري في حلف شمال الأطلسي “ناتو”، وسيتعيّن على ميلوني أن تقدم تطمينات وتعهدات للرئيس باستمرار دعم موقع إيطاليا الأوروبي والدولي والعلاقة مع الناتو، خصوصاً أن الحليفين بيرلسكوني وسالفيني مختلفان حول هذه المسائل، ومختلفان مع ميلوني في بعضها، ولأن التحالف بين الثلاثة كان تحالفاً انتخابياً وتكتيكياً بهدف الوصول إلى الحكم، وليس تحالفاً برنامجياً، ما يجعله معرضاً للاهتزاز عند أية رضّة محتملة، كالمواجهة الاقتصادية مع أوروبا أو تصاعد زخم الحرب الروسية الأوكرانية بشكل أكبر، على سبيل المثال.  

هذا كله يبقى في خانة الافتراض، لكنه افتراض لا يفتقد إلى سند حقيقي بحكم واقع التحالف الثلاثي وموقع رئيس الجمهورية منه. أما عملياً، فمن المفترض أن تنعقد الجلسة الأولى للبرلمان الجديد في 13 تشرين الأول/ أكتوبر القادم، ثم تبدأ المشاورات يوم 24 من الشهر ذاته ومن الممكن أن تستمر لثلاثة أيام أو لثلاثة أشهر، بحسب تجارب إيطالية سابقة.

بعد ذلك، سيكون للإيطاليين حكومة جديدة، كما ستكون هناك إيطاليا جديدة يصعب التكهن بالخطوط العامة لشكلها وعلاقاتها الدولية، لكن يسهل التنبؤ بأنها ستكون إيطاليا قلقة وغير مستقرة، كما كانت دائماً.