fbpx

تركة القرضاوي الثقيلة:
كيف تحول الفقيه المجدد إلى داعية القتل؟ 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

القرضاوي “الفقيه” الوسطي انتهى في حياته قبل رحيله الجسدي، والقرضاوي “السياسي” سيرتاح الجميع من فتاويه التي ألهبت آلاف المتحمسين ورمت بهم في ساحات الإرهاب والحروب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تثر وفاة شخص فاعل في الحياة المصرية طوال السنوات الماضية جدلاً، كما فعلت وفاة الداعية يوسف القرضاوي، الذي يتمتّع إلى جانب جنسيته المصرية بالجنسية القطرية، التي ساهمت في صياغة وتشكيل مراحل متنوعة من حياته، وحياة جماعة الإخوان المسلمين.

الشيخ يوسف القرضاوي

كان للقرضاوي وساطة معروفة بين جماعة الإخوان وبين القصر الأميري القطري، خلال مراحل فاصلة في التاريخ المصري، انتهت بتولي الجماعة حكم مصر ثم الإطاحة بها على يد جنرال عسكري عيّنته قائداً للجيش. 

كان القرضاوي لاعباً أساسياً في وصول الإخوان إلى الكثير مما حققته، فلم يكن عضواً عادياً فيها، إنما كان قيادياً شهيراً ومؤثراً، عرض عليه مراراً أن يكون المرشد العام للجماعة، إلا أنه رفض وفضّل أن يسلك طريقه كـ”زعيم روحي للإخوان”، ومنظر الجماعة الأول، وعضو بالتنظيم العالمي لها، كان يحضر اجتماعاتها ويضع سياساتها العابرة للحدود، ويخطّط لمستقبلها حتى تقاعد عن العمل التنظيمي.

أزهري متمرد صاغ مشروع قطر الديني

في بداياته كان الداعية، الذي درس في جامعة الأزهر، مؤمناً بمنهج جماعة الإخوان، ينظّر للفكرة ويطوّرها ويدعو إليها ويؤصّلها دينياً، ولا يبحث عن مجد سياسي كما الكثير من القيادات الدينية التي تنضم إلى جماعات وائتلافات سياسية، ودفع ثمناً باهظاً لإيمانه، فتعرض للسجن مرات عدة لانتمائه للجماعة. 

دخل السجن عام 1949 في العهد الملكي، حين اكتسبت الجماعة عداءً حكومياً لتنفيذها عمليات تستهدف وزراء وشخصيات سياسية، ثم اعتقل ثلاث مرات في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، واستمر اعتقاله في إحدى المرات نحو عامين. 

عام 1961، وصل إلى قطر للمرة الأولى، وآثر البقاء فيها هرباً من السجن والبطش الذي تعرَّض له في مصر، فسمحت له الإمارة الخليجية الصغيرة بتعليم الدين، وتأسيس مدارس ومعاهد وكليات دينية، أبرزها كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر، التي تولّى عمادتها أيضاً، قبل أن يصبحَ مديراً لمركز بحوث السنة والسيرة النبوية بالجامعة ذاتها.

كانت الإمارة تبحث عن أزهري متأثّر بثقافة الجهاد والصحراء، ليؤسّس مشروعها الديني، الذي يلائم هواها السلفيّ المتشدّد وطموحها المنفتح، فوجدته أخيراً. 

ذهب القرضاوي ولم يعد، كانت مرات عودته القصيرة محفوفة بالمخاطر، كالخميني العائد من المنفى، وهو المظهر الذي بدا به، وأخرجته جماعة الإخوان ببراعة لحظة وصوله إلى القاهرة قادماً من الدوحة خلال أحداث ثورة 25 يناير، فهبط من الطائرة، ليجد نفسه في الميدان، محمولاً على الأكتاف، ومحاطاً بالأنصار، يخطب خطبة الثورة

كانت فكرته عن الثورة التي يريدها إسلامية حتى النخاع، وبرر عودته وتفاعله مع الأحداث، في حوار مع فضائية “الجزيرة” عام 2017، بأن “العالم المسلم جزء من أمته ولا يجوز أن يكون العالم في واد والأمة في واد آخر.. فمهمة العالم أن يبعث الأمة ولا يتركها فريسة للذئاب والحكام المستبدين، لذلك كان لا بد أن نتجاوب مع الأمة عندما بدأت ثورات الربيع العربي”.  

اعتقد القرضاوي أنه، بعودته إلى القاهرة لقيادة الثورة في 2011، يلبي نداءً إلهياً يتلخّص في إنقاذ الأمة من الضلال أو الانحراف إلى طريق “العلمانيين”، وفق القول السائد في ذلك الوقت. 

ظلّ، طوال السنوات التي أعقبت ثورة يناير، في نظر مريديه وداعميه مجدداً، وإماماً ثائراً في نظر أنصاره. لكن كثراً كانوا يستشعرون الخطر من صعود خطابه المحرض على القتل والداعم للإرهاب والرجعية.

القرضاوي… الوجه والقناع

خلال عام 2011، دعا شيخ سعودي بالموت على من تقود السيارة، وكانت قيادة السيارات محرّمة على النساء في المملكة، ومحرّمة أيضاً بفتاوى دينية. لم تكن السعودية، في ذلك الوقت، قد طرقت أبواب “الانفتاح”، ودخلت عصر المنتجعات السياحية والحفلات الفنية كما هي حالها اليوم، فبعث “القرضاوي” برسالة إلى العاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز، يطالبه بالسماح للمرأة بقيادة السيارة كوجه من أوجه الحضارة، والتجديد الديني الذي يرى، وفق اجتهاداته، أن النصوص الدينية لا تمنع المرأة من قيادة السيارة ما دامت ملتزمة بالضوابط الشرعية. 

اعتنق القرضاوي أفكاراً سمحت له بأن يكون “مجدّداً”، متطوراً عن مشايخ السعودية الأشدّاء، ومشايخ السلفية المصريين، ربما كان ذلك سبباً لانتمائه إلى جماعة الإخوان، فهو يسير مع الموجة، يساير العصر، ييسّر على الناس حتى يصبح فقيههم الأول، يؤمن بمقتضيات الواقع والوقت الراهن، يتجاوز المذاهب ولا يجعل الفتاوى التي يصدرها وفقاً لمذهب محدّد. 

كان يرى أنه لا مذهبي، يغيّر الأحكام الدينية بحسب الواقع، ففي إحدى دول شرق آسيا، كان في زيارة، ورأى مزارعي المطّاط (غالي الثمن) لا يدفعون الزكاة اعتقادا منهم بأنهم غير ملزمين لعدم وجود نص ديني، بينما مزارعون آخرون يربحون أقل، يلتزمون بدفع الزكاة، فوجد خللاً، الفقير يمنح، بينما الغني يمنع. أفتى بوجوب الزكاة على مزارعي المطاط حتى لا يفسد المجتمع، أو يشعر المزارعين الفقراء بعدم العدالة فيتوقّفون عن دفع الزكاة. 

خلص بحث وتفكير الداعية المصري إلى فتاوى ومواقف اعتبرها البعض خارجة عن الدين، من شدّة انفتاحها، بينما كان في قضايا أخرى شديد الانغلاق، لكن ذلك كان نتيجة للطريقة التي يفكر بها. أسّس لنفسه منهاجاً مستوحى من حالة العالم الإسلامي وظروفه الراهنة، يقوم على أن الإسلام يجبّ أن يقدّم حلاً لكل قضية، مهما كانت حديثة أو غير واردة نصاً في القرآن والسنة، فمهمة الدعاة والمشايخ هي البحث عن قياس، وطالما أن الجديد ييسّر على الناس حياتهم، لم يكن القرضاوي يميل إلى تحريمه أو منعه، كما أن القرضاوي آمن بالوسطية، فكان متمسكاً بالأصول الدينية، ومستجيباً للزمن الذي يعيش فيه، ومن هنا، التقط عنوان البرنامج الذي قدمه على شاشة “الجزيرة”، وكان سبباً في شهرته عربياً وخليجياً ومصرياً أيضاً، “الشريعة والحياة“.

كان القرضاوي متابعاً للأحداث طوال الوقت، ومُسيَّساً، يتابع ما يجري ويعلق عليه ويصدر بيانات، تجمع بين الدين والسياسة، أو تتناول الأحداث السياسية من منظور ديني، فأكسبه ذلك انتشاراً وجعل اسمه ورأيه يتردّدان بقوة، وهضم نقطة قوة أسلافه وأقرانه من الدعاة والمشايخ المؤثرين والمنتشرين كالشيخين كشك والشعراوي: الخطاب السهل المعبّر، الذي يدمج بين الفصحى والعاميّة والجمل الخطابية المباشرة والحكايات، فاحترفها هي الأخرى، وصار يجري مقارنات بين التراثي والمعاصر، والوجداني والغرائزي، وما هو ظاهر أمام المشاهد وما يمكنه تخيّله، وخلط الدين بالسياسة بالتاريخ، وكأنه يصيغ خطاب الإسلام السياسي ككل، وليس خطابه الشخصي وحده. صنع خلطته الخاصة وأسلوبه، فكان بوابته لصناعة التأثير، الذي استخدمه لاحقاً في صناعة أسطورته.

وإلى جانب ذلك، وجدت أفكاره و”تخريجاته” الدينية قبولاً لدى فصيل واسع من جماعة الإخوان، كما أن الجماعة تتبناها على مستويات رسمية، لأن تيسير الحياة وقبول الجديد مع وضع ضوابط شرعية، سبيل لتقريبها إلى عامة الناس، بعدما كانت تكفر المجتمع وتحرم التقدم. وهي الأمور الفقهية التي ساعدتها في مسارها خلال عصري السادات ومبارك، وتخفيف حدّة تعاملاتها مع الجمهور، حتى الوصول إلى كرسي الرئاسة. والكثير من ذلك بفضل أفكار القرضاوي كأداة لإعادة رسم صورتها لدى القطاعات الجماهيرية التي تملك أصواتاً انتخابية، وكذلك صورتها أمام الغرب كجماعة منفتحة وليست متشدّدة. 

ويقول الشيخ أحمد كريمة، الأستاذة بجامعة الأزهر، لـ”درج”، إن “من يقرأ اجتهادات القرضاوي في البداية، لا يتخيل أبداً آرائه السياسية”. ويضيف: “كان جريئاً في الفتاوى ويراعي شؤون الناس وحياتهم وكان هذا منهجه لسنوات، وهذا ما نتعلمه في الأزهر، ولا أعرف كيف تغيرت توجهاته”. 

الفقيه المتجدد… مع الحرية ضد التكفير!

بفضل التجديد، حصل القرضاوي على ألقاب منحها له أصدقاؤه وتلاميذه من الدعاة كـ”فقيه العصر ومجتهده الأول”، و”داعية العصر وفقيهه بلا منازع”، فآمن بحق المواطنة لغير المسلمين، ومن بين اجتهاداته إعادة تفسير آية “الرجال قوامون على النساء”، التي قال عنها إن “كل شيء في الزواج يجب أن يكون بالتوافق والتراضي، وإلا لم تعد هناك رابطة زوجية، ولازم يتفاهم بعضهم مع بعض”، كما أنه لم يهاجم الديمقراطية ولم يعتبرها كفراً كما أقرانه، بل اعتبرها إحدى وسائل تغيير الأنظمة السياسية وتغيير الأوضاع الخاطئة عبر تعديل القوانين بقوة البرلمانات.

انشغاله بتطوير الثقافة الإسلامية وتنقيحها وجعلها أكثر انفتاحاً على العالم وما يحصل فيه، وهدمه نظريات وفتاوى “تحريم الخروج على الحاكم” بدعمه ثورات الربيع العربي وقضايا التحرر، أكسبته زخماً حتى اعتبر البعض اجتهاداته محاولات سبّاقة لتجديد الخطاب الديني، وبرغم هجومه المستمر على الغرب، الذي كان يرى أنه يحتل العرب “فكرياً”، أدان هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، ودعا المسلمين الأميركيين إلى التبرع بالدم للجرحى، وعارض تفجيرات بالي، وانتقد تكسير حركة طالبان تماثيل بوذا في أفغانستان. 

وقبل ذلك، عندما ضربت المجتمع المصري فتنة التكفير في السبعينات، أصدر كتابه “ظاهرة الغلو في التفكير“، ليوضح أن التكفير يخالف المنهج الإسلامي الذي يقوم على عدم تكفير الناس، وكذلك اختطاف الطائرات المدنية والتهديد باحتجاز ركابها رهائن للضغط على دول وحكومات، كان سلوكاً مرفوضاً بالنسبة إليه واعتبره غير جائز شرعاً، بينما كان يعتبره دعاة آخرون، في ذلك الوقت، “جهاداً”، يحرّضون على اغتيال الأجانب، حتى استجابت لهم مجموعة وارتكبت مذبحة الأقصر الشهيرة في مصر (عام 1997)، حين اعتدت بالقتل على فوج سياحي، وهو ما رفضه القرضاوي في إحدى خطبه في الدوحة، وقال إنه “يخالف منهج الإسلام”.

قبل موجات الثورة والسياسة، التي أعقبت ثورات الربيع العربي وانجرافه مع التيار إلى مناطق سياسية وإنسانية لا يمكن التسامح معها من قبل البعض، كان يمكن تصنيف القرضاوي بمعايير الوسطية الدينية، فقيهاً مجدداً وهو أمر تراجع بقوة مع بروز وجهه الآخر. 

الوجه الآخر: مفتي القتل والجهاد المسلح!

يفرّق الباحثون في الشؤون الدينية بين القرضاوي “الفقيه” والقرضاوي “السياسي”، فالأول كان وسطياً يحمل رؤية أقل تشدداً للدين، حتى إنه أسَّس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ليكون صوتاً دولياً- عابراً للحدود- ينافس رابطة العالم الإسلامي غير المُسيّسة.

لكن كان الجزء الثاني من الوصف بوابة القرضاوي إلى السياسة.

شعار مناصرة المظلومين حول العالم أحاله إلى داعية يتلاعب بالدين لخدمة مصالح سياسية تخصّ التيار التاريخي الذي ينتمي إليه، ويحمل أفكاره وإرثه “العنيف”، وبعدما كان يثير الجدل بآرائه الدينية المتقدمة نسبياً التي تيسّر على الناس حياتهم، أصبح يثيره بفتاوى القتل والدماء.

الرجل الذي هاجم “11 سبتمبر”، صار مدمناً على فتاوى القتل والجهاد والتحريض، ودخل ساحات السياسة كقائد حاضر دائماً على الساحة، وجد نفسه مضطراً للدفاع عن أحلام جماعته القديمة والحشد لها، وكما قالت “رويترز“، في تقرير سابق، “القرضاوي واحد من أكثر رجال الدين المسلمين السنة نفوذاً بفضل حضوره الدائم على القنوات الإعلامية القطرية، وبرغم أنه ترك عضوية جماعة الإخوان المسلمين، ظل محتفظاً بعلاقات وثيقة معها”.

ما حصل في مصر، بسرعته وتتابعه وقوته، من سقوط مبارك والمجلس العسكري الذي تولى الحكم ووصول الإخوان إلى كرسي الرئاسة، أغلق أبواب التردّد والفراق والاعتزال لدى التنظيميين القدامى، وصار واجباً عليهم أن يجتمعوا معاً لتحقيق حلم جماعة الإخوان الذي بدا أنه يدنو، فعاد القرضاوي إلى المشهد أكثر شراسة… غاب فقهه وحضرت أحلامه للتنظيم تحت تأثير حالة الثورة والتمرّد والفوضى التي ضربت الشارع العربي، فتحوّل إلى “قائد فكري للإخوان المسلمين”، كما وصفته صحيفة “واشنطن بوست“.

وبعدما كان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وسطياً، غلبت عليه الصبغة الإخوانية وصار لاعباً سياسياً هو الآخر، يحاول أن يؤدي دوراً بعيداً من الدين والفقه خلال “الربيع العربي”، بسبب انتماء معظم قياداته لجماعة الإخوان كرئيسه السابق، أحمد الريسوني، وراشد الغنوشي، رئيس “حركة النهضة في تونس”، ومحي الدين القرة داغي، الأمين العام للاتحاد، وُصف بأنه “ذراع الإخوان لاحتكار الخطاب الديني” حتى صار يصدر بيانات رسمية دفاعاً عن الإخوان والتنظيمات المسلحة. 

برّر القرضاوي ذلك، في تصريح سابق، بأن الاتحاد “مع الشعوب التي تناضل من أجل حريتها. نحن مع سوريا والعراق وفلسطين وتونس وليبيا واليمن وكل من ينادون من أجل الحرية”، حسب قوله.

كانت تلك المظلة كافية، بالنسبة له، ليطلق دعوات إهدار دم بشار الأسد ومعمر القذافي “من استطاع أن يتقرب إلى الله بقتله، فليفعل، ودمه في رقبتي”، وتوجيه الدعوة – في بيان رسمي – “إلى كل قادر على الجهاد والقتال للتوجه إلى سوريا”، وهي الدعوة التي أجّجت الحرب السورية، واتّخذت ذريعة من جانب تنظيمات إرهابية عدة للعب على الأراضي السورية وتصدير الإرهاب إلى دول مجاورة. 

ويرى محمد بشير، أستاذ السياسة بجامعة القاهرة، أن ما كان يفعله القرضاوي كان له مردود مباشر، ويفسر ذلك بأنه “كان قادراً على تحريك الجماهير لأنه يملك ملايين الأتباع، وهؤلاء لم يكونوا من الإخوان المسلمين فقط، إنما ممن شاهدوا برنامجه وتأثروا به أيضاً، فهو كان يملك قدرة على الحشد بسبب طريقته الخطابية الجامعة بين مهارات تسجيل شرائط الكاسيت والظهور التلفزيوني”.

ويؤكد: “لولا فتاوى القرضاوي، لكانت الأمور في الشرق الأوسط هدأت، أو سارت بوتيرة أهدأ، بخاصة في تعامل التنظيمات الإرهابية في سوريا، لولاه لما نجحت في جمع هذا العدد الهائل من الجهاديين”.

تناقضات القرضاوي في الفن والدين والسياسة

يحمل القرضاوي في جعبته بعض التناقضات، التي تظلّ علامات استفهام حتى بعد رحيله، فكثيراً ما كان يتراجع عن أفكاره المستنيرة تحت ضغوط من الجماعات المتطرفة، أو تغير الأوضاع السياسية المتغيرة.

وفي كتابه “الحلال والحرام في الإسلام“، أجرى مصالحة بين الفقه والفن، بحيث لم يصبح الفن حراماً طالما أنه يراعي أشياءً معينة، ثم تراجع وحصر آراءه فيما أسماه “الفنون الراقية”، ومنح المسلمين في المجتمعات غير المسلمة تسهيلات كبيرة لإدارة أمور حياتهم، لتسهيل اندماجهم، وهاجم فكرة “الجهاد” ثم عاد في سنواته العشر الأخيرة ليميلَ بالفعل والقول إلى الجهاد مرة أخرى، ويتعاطف مع ما تفعله ميليشيات سلفية جهادية، على رأسها داعش.

ورغم أنه كان مصاباً بـ”عقدة التدخل الغربي” وهي العقدة التي تصيب أغلب المنتمين لجماعات وتنظيمات دينية مهما تفاوتت درجات عصبيتها وتشدّدها لإيمانهم بـ”أستاذية العالم” واعتقادهم أن الغرب هو الذي يقف حائلاً دون ذلك متآمراً على المسلمين… لم يتحدث يوماً عن القواعد العسكرية الأميركية في قطر، أو الأموال التي تدفعها دول الخليج إلى الولايات المتحدة مقابل التأمين والحماية. 

مثّلت العلاقات بين القرضاوي وقطر لغزاً كبيراً، فهو مدين لها بالكثير من شهرته ونفوذه وأمواله.

فمنذ انتقاله الى الدوحة مطلع الستينات نسج علاقات قوية بالأسرة الحاكمة القطرية، ولم يتحدث عنها يوماً بسوء أو ينتقدها، وظلّ يؤيدها تأييداً تاماً، ودعم انقلاب الأمير حمد بن خليفة على والده، وأفتى بأن “الشرع يجيز ذلك طالما أن فيه مصلحة الأمة”.

وكان والد الأمير حمد يفكّر في طرد القرضاوي من قطر بعدما أثار فتناً بسبب آرائه والفتاوى التي أطلقها، والتي لم تكن متّسقة مع توجّهات قصر الحكم القطري في السبعينيات، التي شهدت نهايتها تناقضاً آخر للداعية مؤلف كتاب “ظاهرة الغلو في التفكير”، حين استعانت قطر بالكاتب المصري رجاء النقاش لرئاسة تحرير مجلة الدوحة التنويرية، لرغبة قطر في الانفتاح المبكر والتقدم وتحجيم النزعة المتشدّدة لدى شعبها، ونجحت المجلة نجاحاً ملفتاً أفزع القرضاوي من موضوعاتها الجريئة في الدين والحياة والفن والثقافة، فأفتى بتكفير النقاش وتكفير المجلة، واضطر أمير قطر، خليفة بن حمد آل ثاني، لإلغاء المجلة، التي كانت جزءاً من مخططاته لرفع الوعي الشعبي، وذلك لدرء الفتنة واحتواء الغضب المشتعل نصرةً للإسلام. 

تشابهت الكثير من فتاواه مع الموقف القطري، وبعضها أصدره بعد إعلان قطر موقفها مباشرةً، حين كانت الدوحة على وفاق مع بشار الأسد و”حزب الله”، وصف الأول بـ”صاحب العقل المتفتح والقلب المفتوح”، وحياه على مواقفه ضد أميركا، وأثنى على الثاني بسبب “حرب تموز” 2006 وحياه هو ومن أيّده، وأصدر فتوى تبرر موقف قطر من حرب العراق، مجيزاً للمسلمين الأميركيين القتال مع الجيش الأميركي في العراق وأفغانستان.

 أفتى القرضاوي بعدم جواز تصويت المسلم السوداني لصالح انفصال جنوب السودان، متبنياً موقف قطر، ووصف زين العابدين بن علي، خلال فترة رئاسته تونس، بـ”راعي الثقافة“، وعقب اندلاع الثورة، نعته بـ”الغبي” تماشياً مع الموقف القطري الذي أيّد سقوطه وحشد ضده، وفي الشأن المصري، أفتى بضرورة خروج الشباب للثورة على نظام مبارك وعدم حرمانية الخروج على الحاكم، بوصول جماعة الإخوان للحكم، أفتى بعدم الخروج على الحاكم، ووصف من تظاهروا ضد محمد مرسي بـ”الخوارج“.

نسخة الخميني المصرية

خلع القرضاوي رداء الفقيه – لاحقاً – وغادر محرابه ليصبح “زعيماً ثورياً” يغويه الهتاف في المظاهرات وعلى الشاشات، وانقلبت لهجته الهادئة التي أثّرت في كثيرين وألهمتهم دينياً وأعادتهم إلى مربعات التسامح بعد الغلو، إلى لهجة حادّة ابتعدت من الدين والسياسة.

استسلم للجموع التي هتفت باسمه وكانت تنتظر توجيهاته، فجعل ولاءهم الذي اكتسبه من الأحاديث الدينية سلاحاً موجهاً بوجه أعدائه السياسيين، ومثلت فتوى الجهاد في سوريا “ضوءاً أخضر” لأئمة ورجال دين آخرين شرّعوا الجهاد في سوريا، ودفعوا الآلاف من الشباب العربي إلى آتون الحرب، وتحوّلوا إلى وقود ساعد في استمرار الجماعات المتطرفة التي تشكلت خلال تلك الفترة، وارتبطت بتنظيم القاعدة وداعش. 

نتيجة لاتباعه منهج فتاوى إهدار الدم والقتل والجهاد، حمّله كثر مسؤولية الحروب الأهلية والخراب الذي شهدته المنطقة العربية خلال السنوات الماضية، إذ كان يصبّ زيت الفتاوى على نار الحروب بينما يستمر القتال في مدن عربية، وشُبّهت دعوات الجهاد بـ”الهدية الكبرى” للتنظيمات الإرهابية لاستقطاب آلاف الشباب وتجنيدهم، الذين تحوّلوا إلى قتلى وجرحى وإرهابيين، بينما تفتّتت أراضيهم، ولا تزال تعاني الفتن المذهبية والطائفية.

حمل اسم “مفتي الناتو” لأنه- وإن لم يتعمّد- كان ينفّذ أجندة دول الأطلسي بالشرق الأوسط عبر فتاوى ودعاوى، وأبرزها فتاويه بشرعية هجوم الناتو على ليبيا التي ادّعى خلالها أن “النبي محمد لو عاد سيضع يده في يد الناتو”، وجواز تفجير شخص نفسه في عمليات انتحارية وتفجير التجمعات المدنية، ودعوته المجاهدين والإرهابيين- على الهواء- للهجرة من بلادهم إلى مصر لقتال الجنود المصريين

بينما كانت القوات التركية تغزو مناطق في سوريا، وتستولي عليها، قال إن “الله وجبريل والملائكة يدعمون أردوغان”، داعياً الشعب التركي لانتخابه والخنوع له، وطبقاً لقول القرضاوي لتلاميذه، في ختام أحد الملتقيات، إن الولايات المتحدة كانت- بالفعل- ستدرج اسمه على قوائم الشخصيات الداعمة للإرهاب، لكن كما قال في إحدى خطبه “لولا الشيخ حمد بن خليفة أمير البلاد يحفظه الله لكنت في قائمة الإرهابيين، وقف الأمير بقوة وشجاعة وإصرار ضد إصرارهم، وأصبحت بعيداً من تهمة الإرهاب”، إلا أن دول الرباعي العربي “الإمارات والسعودية ومصر والبحرين” فعلتها ووضعته على قوائم الإرهاب الخاصة بها، وكان أحد أسباب القطيعة بينها وبين الدوحة، وطالبتها بوقف تمويله وتسليمه إلى بلده الأصلي بحجة كونه “يروج للإرهاب باستخدامه الخطاب الإسلامي كغطاء لتسهيل نشاطات إرهابية”.

بوفاة القرضاوي، ينتهي الفصل الأخير من تاريخ داعية شغل العالم العربي بفتاويه وآرائه وتصريحاته، وتفقد جماعة الإخوان مفتيها الأول، وتخسر الأنظمة السياسية لـ”الرباعي العربي” عدوها الأهم بين الدعاة والمعارضين… 

القرضاوي “الفقيه” الوسطي انتهى في حياته قبل رحيله الجسدي، والقرضاوي “السياسي” سيرتاح الجميع من فتاويه التي ألهبت آلاف المتحمسين ورمت بهم في ساحات الإرهاب والحروب.