fbpx

شباب العراق والدولة الفاشلة:
انعدام الثقة بالإصلاح ويأس من التغيير

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على ضوء هذه الخلفية، يُشكل الشباب العراقي “مجتمعاً من انعدام الثقة” بكل ما تعنيه الكلمة. فقد تقوّضت ثقتهم بجميع المؤسسات العراقية، بغض النظر عن مواقعهم الجغرافية أو خلفيّتهم العِرقية والطائفية. فالمشاعر العابرة للطائفية تنتشر الآن في جميع أنحاء البلاد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الأول من أيار/ مايو 2003، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش انتصار الحلفاء على حكم صدام حسين في العراق. وبعد الحرب مباشرة دخل العراق في تشكيل سياسي جديد. وكان لزاماً على النُخب الجديدة في بغداد أن تتصدى للتحديات الرئيسية التي تتمثل في: إعادة بناء الدولة ونظام حكمها الذي دمره الاحتلال؛ وإرساء الأمن والاستقرار في البلاد؛ والتوزيع الفعال للسلع والخدمات العامة الأساسية. إذ لا يمكن النجاح في الانتقال بين العراق في ظل حكم صدام حسين والعراق في ظل الاحتلال الأميركي إلا من خلال التفاعل المستمر بين هذه الضرورات الثلاث؛ بيد أن سجل الدولة العراقية بين عامي 2003 و2021 بشأن هذه المسائل مُروّع حقاً.

في ورقة بحثية طويلة نشرتها مبادرة الإصلاح العربي تحت عنوان “الشباب العراقي في سياقات الصراع: التحزّب والاستراتيجيات الاقنسامية واستحالة لمّ الشمل”، يقرأ عادل باكوان العقم السياسي العراقي في محاولة استيلاد دولة عادلة وآمنة ومستقرة بعد سقوط نظام صدام حسين.

ابتليت الدولة العراقية بأوجه الضعف منذ أول حكومة في عهد إياد علاوي (2004-2005) إلى آخر حكومة في عهد مصطفى الكاظمي (2020). إذ إنها غير قادرة على توفير الحد الأدنى من الأمن للمواطنين. فقد نشر مشروع “ضحايا حرب العراق”، وهي مجموعة من الباحثين والمحللين في المملكة المتحدة، إحصاءات مرعبة للغاية. فبين عامي 2003 و2020، وقعت خسائر بشرية بين المدنيين وصلت إلى 208486 شخصاً (في المقابل، أسفر العام الأول من الاحتلال الأميركي عن مقتل 12133). وفي ظل حكومة إياد علاوي (2004-2005)، ارتفع عدد الضحايا المدنيين إلى 28319. وأثناء حكومة نوري المالكي (2006-2014)، وصل انعدام الأمن إلى مستويات قياسية غير مسبوقة حيث بلغ مجموع الضحايا إلى 114263. فقد باتت البلاد في حالة فشل تام. وأصبح الموت حقيقة “طبيعية” للحياة من المنظور الدوركايمي. وعلاوة على ذلك، لم يؤثر وصول المعتدلين إلى السلطة مع مصطفى الكاظمي في الوضع، وقد انتهى عهده مع الانتخابات إلى انسداد سياسي وصل إلى حدّ التصادم الأهلي بين الميليشيات في الشارع.

“في بلادي لا يُطبَّق القانون إلا على الضعيف، أما القوي فهو فوق القانون. نحن نعيش في غابة. القانون الذي يُطبَّق هو قانون الغابة؛ والقوي يأكل الضعيف”.

 تفتقر الدولة العراقية أيضاً إلى استراتيجية واضحة لإدارة الخدمات العامة، مما أدى إلى تعميق الفجوة بين توقعات الشباب ومدى جودة الخدمات المقدمة كمياً ونوعياً. ففي المناطق الكبيرة مثل البصرة، حيث ترتفع درجات الحرارة إلى أكثر من 50 درجة مئوية في أشهر الصيف، لا توفر الدولة العراقية سوى ساعات قليلة من الكهرباء يومياً، وبشكل غير منتظم. وينعكس هذا الوضع العام الذي يتسم بعدم الكفاءة أيضاً في عجز بغداد عن تلبية الاحتياجات من مياه الشرب، مما يجعلها “واحدة من المحافظات الأكثر تضرراً بالأمراض المنقولة عن طريق المياه”. وفي هذا السياق، استثمر البنك الدولي، في أوائل عام 2018، 210 ملايين دولار لتمويل مشروع لتحسين إمدادات المياه والصرف الصحي. ووفقاً لمنظمة “اليونيسيف”، يعيش 25 في المئة من العراقيين بأقلّ من دولارين أميركيين في اليوم. وبحسب صندوق النقد الدولي، تجاوزت ديون العراق الخط الأحمر، فقد وصلت بحلول نهاية عام 2020 إلى 120 مليار دولار. وعلى رغم العجز الشديد، فإن حالة النقل العام والطرق والمدارس والجامعات والإسكان وحتى النظام الصحي، تُظهر بوضوح خضوع البلاد تماماً تحت وطأة أوجه الضعف التي ابتليت بها.

إضافة إلى أوجه القصور هذه في تقديم الخدمات، أثبتت الدولة العراقية أيضاً أنها غير قادرة على حماية مواطنيها من “داعش”. فعام 2014، وفي غضون ساعات قليلة، تمكن تنظيم “داعش” من الاستيلاء على مدن رئيسية مثل الموصل وتكريت دون مقاومة تذكر من الجيش العراقي. وبرغم أن رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي أعلن أثناء زيارة قام بها إلى باريس في كانون الأول/ ديسمبر 2017 القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، فقد عاود التنظيم الظهور بقوة هائلة بحلول كانون الأول 2021. فضلاً عن أن الهجمات ضد القوات العراقية (الجيش، وقوات الحشد الشعبي، وقوات البيشمركة، والشرطة، وغيرها)، واحتجاز الرهائن، وعمليات الاختطاف، والهجمات الانتحارية آخذة في الازدياد. ويعتقد التحالف الدولي ضد “داعش” أنه لا يزال هناك تهديد حقيقي، كما يتجلى من زيارات وزراء الدفاع من الاتحاد الأوروبي والمنطقة إلى بغداد وأربيل.

على ضوء هذه الخلفية، يُشكل الشباب العراقي “مجتمعاً من انعدام الثقة” بكل ما تعنيه الكلمة. فقد تقوّضت ثقتهم بجميع المؤسسات العراقية، بغض النظر عن مواقعهم الجغرافية (سواء في الجنوب أم الوسط أم الشمال) أو خلفيّتهم العِرقية والطائفية (سواء شيعية أم سنية أم كردية). فالمشاعر العابرة للطائفية تنتشر الآن في جميع أنحاء البلاد.

تقول زهراء- وهي خرّيجة جامعية من البصرة، تبلغ من العمر 26 سنة- إنها فقدت تماماً ثقتها في الدولة التي “لا تستطيع إيقاف المجرمين الذين يقتلون نشطاء المجتمع المدني، لأن هؤلاء المجرمين أنفسهم جزء من هذه السلطة”، مضيفةً أنّه “طالما لم يتم تنظيف الدولة من هؤلاء الناس، فلا يمكن أن نأمل في مستقبل أفضل”. وقد حاولت تسليط الضوء على انهيار مؤسسات الدولة، بدءاً بالمؤسسة القضائية، قائلة: “في بلادي لا يُطبَّق القانون إلا على الضعيف، أما القوي فهو فوق القانون. نحن نعيش في غابة. القانون الذي يُطبَّق هو قانون الغابة؛ والقوي يأكل الضعيف”. ويؤكد عمَر- وهو سني من الموصل، حاصل على شهادة الثانوية، ويبلغ من العمر 25 سنة- هذا الرأيَ، قائلاً: “منذ عام 2003 إلى يومنا هذا وجميع الحكومات العراقية تسوقنا إلى الفشل والدمار؛ فليسوا في تلك المناصب من أجلنا، وإنما من أجل أنفسهم”. أما حيدر- وهو مقيم في البصرة يبلغ من العمر 24 سنة، وليست لديه أي شهادة ومنخرط في “سرايا السلام”، وهي ميليشيا تابعة لمقتدى الصدر- فيبدو أكثر راديكالية، إذ يقول: “أي دولة تتحدثون عنها؟! ليست هناك دولة. حتى حكومة الكاظمي ليست إلا دمية. وكلنا نعرف مَن يدير البلاد. الكاظمي نفسه دمية”.

وقد فشلت النخبة الجديدة في الدولة، التي تولت السلطة بعد سقوط صدام حسين، في إعادة بناء المؤسسات الوظيفية لخدمة المواطنين. وبالنسبة إلى سردار -وهو شاب يزيدي من الموصل، يبلغ من العمر 24 سنة، ليست لديه أي شهادة- فإن الأسوأ من كل ذلك هو أن المرحلة الجارية بعد الحرب هي “حقبةٌ من الخيانات والأكاذيب والنفاق”، يغذيها السياسيون في السلطة، الذين “يجب ألا نصدقهم على الإطلاق”. ويردّد عبد الله، وهو طالب جامعي من الموصل، سني أعزب يبلغ من العمر 25 سنة، أصداءَ زميله اليزيدي، قائلاً: “ليست لدي أي ثقة في الحكومة، فجميع حكوماتنا لم تقُد البلاد سوى إلى الانهيار”. أما سلوى، المحاسبة الموصلية المسيحية العزباء التي تبلغ من العمر 23 سنة، وتعتبر أن السياسة ملعونة، بكل بساطة، “لأنها تُصيبني بالرعب؛ وهي من عمل الشيطان!”.

في الواقع، ليست هذه حالات منفردة، بل خطاب تبنّاه وتشرّبه واعتنقه شبابٌ كانت لديهم يوماً ما رؤية أخرى للسياسة؛ مثل سَكِينة، وهي طالبة كاكانية من الموصل في مرحلة الدراسات العليا، إذ تقول: “كنت أعتقد أن بإمكاننا أن نُحدِث تغييراً من خلال العمل السياسي؛ ولكن اليوم تساورني شكوك عميقة تجاه نخبتنا السياسية. لقد فقدت ثقتي وإيماني بالسياسة. وفي أي حال، لقد خسرنا كل شيء… لقد سرقوا منا كل شيء، حتى أحلامنا”.