fbpx

لبنان: سُجِن ظلماً بسبب إضراب القضاة وحيوانات تسرح في قصور عدل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يكن ليتخيّل أحد نهاية إجازته في بلدٍ ما بالسجن ثلاث أشهر بسبب حقيبة شبيهة بحقيبته، حملها من طريق الخطأ من على شريط الأحزمة في المطار. لكن ذلك قد يحصل في بلدٍ انهارت مؤسساته تدريجياً كقطع الدومينو. لقد حصل ذلك بالفعل في لبنان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان وليد (اسم مستعار)، واحداً من آلاف المغتربين الذين زاروا لبنان هذا الصيف، لكن زيارته لم تكن سوى دحض لشعار “أهلا بهالطلة”، إذ سُجن وليد لأشهرٍ من دون سببٍ، لأن إضراب القضاة أخّر الإفراج عنه.

القصة بدأت عندما وصل وليد إلى المطار وأخذ حقيبة شخص آخر ظنها له، عندما وصل إلى المنزل اكتشف أنها ليست خاصته، فاتصل بإدارة المطار وبشركة الطيران وأخبراه بأن يعود ليستلم حقيبته الأصلية وأن يحتفظ بتلك التي أخذها من طريق الخطأ لأن صاحبها لا يزال مجهولاً. أمضى وليد أسبوعاً في لبنان من دون أن تتواصل معه أي جهة، ولما استعدّ للمغادرة، سلّم الحقيبة المجهولة إلى إدارة المطار، ليفاجأ بأن صاحبة الحقيبة هي سيدة سويدية قدّمت شكوى سرقة بحقّه. سُجن وليد 3 أشهر، في أسوأ أيامٍ يعيشها لبنان وسجونه من حرّ إلى انقطاع المياه والتيار الكهربائي، فقط لأن لا قضاة في قصور العدل للبتّ في قضيته.

إنها واحدة من قصص موت العدالة في لبنان. قصص كثيرة غيرها تنتظر على أبواب قصور العدل يومياً من دون جدوى.

بزيارةٍ سريعةٍ إلى هناك، وجدنا عشرات اللبنانيين ينتظرون، منهم من أتى للمرة الأولى، ومنهم من اعتاد الانتظار اليومي على أمل أن يأتي أحد القضاة ويُنهي انتظاره.

“ابني موقوف منذ 3 سنوات ونصف السنة… منذ أسابيع آتي إلى هنا يومياً لعلّني أحظى بلقاء مع القاضي، ابني مريض وأحتاج لتوقيع ملف إخلاء سبيله… خطر موته يزداد في كل يوم إضراب إضافي…”، تقول ليلى لـ”درج” وهي تقف منهكة قرب بوابة قصر العدل في بيروت.

هناك يجتمع العشرات ممن يُحاولون إقناع رجال الأمن بالدخول، فيما يؤكّد الأخيرون أن لا قضاة في المبنى، و”الموظّف الوحيد في الداخل مُصاب بكورونا وغادر لأنه مُتعب”.

نجاة هي امرأة أُخرى صادفناها هناك. توقّف زوجها في المطار منذ أيام بسبب تشابه أسماء، ولا يزال موقوفاً على رغم توكيلها محامياً، إلا أن لا قضاة في المحاكم لتسيير الملف. “لا أعرف ما العمل، ما بيدي حيلة سوى الانتظار”، تُخبرنا نجاة.  

مئات القضايا العالقة وضحايا العنف أبرز المُتضررين…

منذ شهرين تقريباً، أعلن قضاة لبنان إضرابهم عن العمل احتجاجاً على الظروف المادية والمعنوية التي يمرّون بها، محمّلين الطبقة الحاكمة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في بلدهم. كبقية المواطنين، يعاني القضاة من الأزمات التي تعصف بلبنان، وعلى رأسها ارتفاع سعر صرف الدولار وانهيار قيمة رواتبهم. إذ تتراوح رواتب القضاة بين مليون و600 ألف للمتخرجين، ومليونين و500 ألف ليرة للقضاة الأصيلين، و8 ملايين ليرة للقضاة من ذوي الدرجات العُليا. ذلك عدا “الزودة” التي منحها إياهم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والتي تُعتبر “رشوة”، وفق تعبير أحد المحامين. إذ يُحتسب راتب كل قاضٍ وفق سعر صرف 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد، ثم يُضرب بـ8000 ليرة. إلا أن قضاة لبنان مصرّون على تصحيح “جذري” لرواتبهم، وتحسين ظروف عملهم اللوجستية، مع أصوات تُطالب بتعزيز استقلاليتهم عن السلطة السياسية، لا سيما أن زيادة أجور القطاع العام ضمن موازنة 2022 لا تشمل القضاة، على اعتبار أنهم “سلطة وليسوا موظفين”.  

بدأت تداعيات اعتكاف ما يزيد عن 450 قاضياً من أصل 560، تنعكس على حياة اللبنانيين وتفاصيلهم اليومية. إذ هناك مئات الملفات العالقة وعشرات الموقوفين في النظارات بانتظار البتّ بقضاياهم. 

على رأس المتضررين، النساء والأطفال ضحايا العنف الأسري. فخلال أسبوعٍ واحد لجأت 15 امرأة من ضحايا العنف الأسري بحالة طارئة إلى منظمة “كفى”، ولم يستطعن التقّدم بشكوى جزائية، أو الحصول على قرار حماية، ومنهنّ من خسرن أطفالهن الرضّع، نتيجة اعتكاف القضاة. وفي الأسبوع التالي، لجأت إلى المنظمة، بحسب ما ذكرت عبر صفحتها على “فيسبوك” 20 امرأة، 12 منهن بحالة طارئة، وكنّ بحاجة لاتخاذ إجراء قانوني يؤمن لهن الحماية، إلا أن ذلك لم يتحقّق. هذا عدا تزامن الإضراب مع فوضى تعصف بسجون لبنان، والتي تشكو إلى جانب أزمتي الغذاء والطبابة، من اكتظاظ كبير، إذ إن 79 في المئة من النزلاء غير محكومين، باعتراف وزير الداخلية بسام المولوي.

هذا الاعتكاف، عطّل العدالة في لبنان. في هذا السياق، اعتبرت المحامية ديالا شحادة أن “توقف القضاة عن العمل يمس بالحقوق الأساسية الدستورية للمواطنين لجهة حقّ التقاضي تحصيلاً للحقوق كافة و/أو حماية لها، لكن السياسات المنهجية للسلطة التنفيذية التي منعت القضاء من استكمال مقومات السلطة الدستورية عبر التحكم بالتعيينات والترقيات والتشكيلات القضائية، قد جرّد القضاء من طبيعته الدستورية كـ”سلطة” ثالثة إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية”.

“ابني موقوف منذ 3 سنوات ونصف السنة… منذ أسابيع آتي إلى هنا يومياً لعلّني أحظى بلقاء مع القاضي، ابني مريض وأحتاج لتوقيع ملف إخلاء سبيله… خطر موته يزداد في كل يوم إضراب إضافي…”

إفلاس وترهّل وحيوانات… في قصور العدل

“سوء تنظيم، غياب الموظفين، لا كهرباء ولا أوراق وأقلام في المكاتب، أكوام النفايات في كل زاوية… أنتظر هنا منذ الصباح لتسيير قضايا موكليّ من دون جدوى”، تقول إحدى المحاميات لـ”درج” من أمام مبنى قصر العدل في بيروت، شارحةً أنها تضطر إلى البحث عن الملفات على “ضوء التلفون” في كثير من الأحيان، ما يفتح باباً واسعاً للرشى.

في قصور العدل، يبرز غياب أدنى المقوّمات التي تمكّن القضاة من أداء مهماتهم فيما لو عادوا إلى العمل بدءاً من الغد بسبب التداعي المريع في البنى التحتية هناك. برك مياه تتجمّع شتاءً في بعض قاعات المحاكم، لا وسائل للتدفئة شتاءً والحرّ قاتل صيفاً، أبواب مخلّعة وأثاث مُتداعٍ ومراحيض معطّلة وروائح كريهة تنبعث منها في غياب أبسط معايير النظافة. وبرغم أن هذه معاناة مزمنة، إلا أنها تفاقمت بعد الأزمة الاقتصادية، إذ غابت الصيانة كلياً عن معظم العدليات، بعدما فسخت وزارة العدل العقود مع شركات الصيانة، وكذلك مع شركات التنظيفات، ما دفع موظفي قصر عدل بيروت إلى التعاقد مع عاملة نظافة على حسابهم الخاص. هذا عدا وجود حيوانات داخل قصور العدل. قطط وجرذان وأفاعٍ ومواشٍ… وثّقها نادي القضاة ونشرها في مؤتمره الأخير في 22 أيلول/ سبتمبر، لشرح حجم الكارثة.

في بلادٍ غير تلك التي يُسجن فيها شخص تعسفاً بسبب حقيبة، يحصل القضاة على أفضل مقومّات الحياة تجنّباً للسطوة السياسية على العدالة. أما في لبنان، فتُصرّ السلطة على سحق القضاة، بهدف إخضاعهم لأوامرها ورغباتها.