fbpx

ليز تراس: محاولة باهتة لإحياء إرث “المرأة الحديدية”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أمسكت ليز تراس بقبضتها الحديدية الحرب بأوكرانيا وحولتها الى سلاح في حملتها الانتخابية، لتزعّم حزب المحافظين وفي الترويج لصورتها كخليفة لمارغريت تاتشر، وذلك عندما ظهرت فوق دبابة لجيش بلادها، لتحاكي صورة رئيسة الوزراء السابقة التي عُرفت بـ”المرأة الحديدية”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل أسابيع هددت تراس بأنها لن تتردد في استخدام السلاح النووي إذا تطلبت تطورات الأحداث في أوكرانيا ذلك، متناسية أنها كانت في بداياتها شاركت والدتها في مسيرات ضد السلاح النووي قادتها “حملة نزع السلاح النووي”، وهي منظمة عارضت بشدة قرار حكومة تاتشر بالسماح بنشر رؤوس حربية نووية أميركية في قاعدة سلاح الجو الملكي البريطاني في غرينهام كومون بغرب لندن.

عندما كانت مراهقة، شاركت ليز تراس في تظاهرة ضد سياسات رئيسة الحكومة البريطانية المحافظة مارغريت تاتشر. ولكنها وبعد بلوغها سن النضوج، أظهرت إعجاباً وانبهاراً غير محدودين بأول امرأة قائدة لبريطانيا العظمى. الآن وبعد كل هذه السنوات والتقلبات السياسية تجلس ليز على مكتب تاتشر في داوننغ ستريت-10، حاملة أفكاراً تاتشرية لتغيير المملكة التي لا تغيب عنها الشمس. يقول كاتب العمود الأميركي سيباستيان مالابي “لا يوجد حالياً من يمكنه تخمين ما ستفعله رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس”، مرجحاً أن “تفاجئ البريطانيين والعالم”. وفي مقالة له في صحيفة “واشنطن بوست”، أشار مالابي إلى أن “تراس التي يعجبها التشبه بالمرأة الحديدية، تدمج في شخصيتها بين قليل من صفات  تاتشر وتلك البراغمانية الألمانية أنجيلا ميركل، فهي تشبه تاتشر في شدة قراراتها وبراغماتيتها المتحررة من قوة المبادئ”. 

تراس البالغة من العمر 47 سنة تشبه تاتشر في أنها لا تنحدر من الجناح المميز لحزب المحافظين الحاكم، إذ التحقت بمدرسة حكومية، وتألقت أكاديمياً في دراستها في اوكسفورد. في مناظرة تلفزيونية في فترة الانتخابات الحزبية ارتدت ليز قميصاً أبيض عليه قوس مصوب إلى الأمام. وفي سؤال لأحد الصحافيين عما اذا كان هناك عيب في شخصيتها، اعترفت في إجابتها بأنها تتقمص المرأة الحديدية، ووصفت نفسها بأنها “مندفعة كثيراً”.

لم يكن طريق تراس إلى كرسي رئاسة “حزب المحافظين” وحكومته مفروشاً بالسجاد الأحمر، ولكنها استطاعت بفضل شخصيتها القوية ومواقفها الحادة التغلب على معارضيها داخل الحزب الذي تلقفوا ما نشرته صحف التابلويد من (تحقيقات) تحتوي على معلومات ملفقة تستهدف التشهير بها في محاولة للتحريض ضد اختيارها لزعامة الحزب وترأس الحكومة ،حيث  بددت وعرت الاتهامات التي ادعت أنها ترتبط بعلاقة غرامية  خارج مؤسسة الزواج مع نائب في البرلمان، وقدمت ما يكفي من الأدلة التي قوضت محاولات خصومها في الحزب ،وتمكنت من انتخابها للمنصب وإنقاذ عائلتها وعلاقتها الزوجية.  

 ولدت تراس لأبوين يؤمنان بأفكار اليسار، ودرست العلوم السياسية والفلسفة والاقتصاد في جامعة اوكسفورد، مثل سائر الأعضاء البارزين بحزب المحافظين، و تحت تأثير افكار والديها انخرطت في سنوات دراستها الجامعية في صفوف الحزب الليبرالي الديمقراطي، ولم تكن مؤيدة للمحافظين، ولكنها عام 1996 غيرت توجهاتها السياسية وانضمت إلى حزب المحافظين.

اطلق بعض الصحافيين لقب الحرباء على تراس لانها تختلف عن تاتشر التي كانت مؤمنة حتى العظم بالأفكار المحافظة، فهي تأرجحت بين مواقع الديمقراطيين الليبراليين والمحافظين، وتحولت من معارضة للبريكست الى مؤيدة له، ومعارضة بقوة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، وراحت تدافع بلا هوادة عن  تيار اليمين  في حزبها بزعامة  بوريس جونسون  الذي يدافع بشراسة عن الخروج من الاتحاد الأوروبي. هذه التقلبات السياسية والتنقل بين الأحزاب لم تثر أي حرج يدعوها الى وقف رفضها حتى الامتيازات الاقتصادية التي تحصل عليها بريطانيا من عضويتها في الاتحاد. الغريب أننا نجد انها لا تتحرج الان عن التعبير عن ندمها للخروج من الاتحاد، وهو ما صرحت به لإذاعة “بي بي سي” بقولها إنها “أخطأت في ما يخص “بريكست”.والآن تبدو  تراس تحاول المضي  على خطى تاتشر، بتبنيها سياسة خارجية متشددة، وتعهدها برفع الميزانية العسكرية، وكذا تشبثها على طريقة تاتشر بخفض الضرائب، وهو ما اعتبرته مجلة “فوغ” محاولة من جانبها لاستمالة أكبر عدد من أعضاء حزب المحافظين. فهل تكون الوريثة الجديدة للمرأة الحديدية تاتشر؟

من الليبرالية إلى اليمينية

 قبل حرب روسيا على أوكرانيا  بأيام معدودة زارت تراس روسيا لإقناع الكرملين بعدم غزو جارتها أوكرانيا، ولاحظ مراقبون أنها ارتدت آنذاك  قبعة مستديرة من الفرو تشبه التي  كانت ترتديها تاتشر في رحلة لها إلى معسكر تدريب لحلف الناتو عام 1986. في نهاية شباط/ فبراير 2022، دعت تراس دول مجموعة السبع إلى الحد من استيراد النفط والغاز الطبيعي من روسيا، وقالت إن الحرب الروسية الأوكرانية يمكن أن “تستمر سنوات”، ويمكن أن تمثل “بداية النهاية” لبوتين ونظامه. وفي تموز 2022، ألقت تراس باللوم على بوتين في أزمة الطاقة والغذاء العالمية.ورأى المعلق الليبيرالي مارك ليتلود الذي يعرف تراس منذ سنوات دراستها وعاصرها، وهي تقتحم قلاع المعترك السياسي أن “تراس التي اصبحت الان قائدة المحافظين البريطانيين، لا يمكن أن تكون من ذلك النوع المتشدد منهم، لانها ذات ميول ( راديكالية) أكثر مما هي محافظة. ولهذا فهي تسعى مثلما كانت  تاتشر” الى تقليص تدخل الدولة) في حياة الناس. وأضاف “أتوقع سيولا من السجالات النارية، وتسونامي من الخلافات السياسية والكثير من القرارات الصعبة”. ولا تخفي ليز افكارها بإلغاء دور الدولة  التنظيمي، وتناولت ذلك بوضوح بالغ في كتاب شاركت في تأليفه بعنوان “بريطانيا متحررة من القيود” يدعو إلى إلغاء الدور التنظيمي للدولة لتعزيز مكانة المملكة المتحدة في العالم.

أمسكت تراس بقبضتها الحديدية  الحرب بأوكرانيا وحولتها الى سلاح في حملتها الانتخابية لتزعم الحزب وفي الترويج لصورتها كخليفة لمارغريت تاتشر، عندما ظهرت فوق دبابة لجيش بلادها، لتحاكي صورة رئيسة الوزراء السابقة التي عُرفت بـ”المرأة الحديدية”. وقبل أسابيع هددت تراس بأنها لن تترد في استخدام السلاح النووي لو تطلبت تطورات الاحداث في اوكرانيا، متناسية أنها كانت في صباها شاركت والدتها في مسيرات ضد السلاح النووي قادتها “حملة نزع السلاح النووي”.

تبنت قيادة حزب المحافظين مشروع تراس المتفائل للخلاص من الأزمات التي تجتاح البلاد، وتحاول الزعيمة المحافظة الجديدة بعملية قيصرية لإصلاح الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة، وتحاول لتحقيق هذه المهمة المعقدة، العودة الى حقبة الرئيس الأميركي رونالد ريغان واستنساخ سياسته وقراراته التي أمنت له  ادارة الولايات المتحدة بنجاح نادر. يتوقع الكثير من المحللين أن تواجه تراس صعوبات في محاولاتها لكسب جمهور الناخبين الإنجليز لبرنامجها المثير للجدل حتى في أوساط حزبها. وفي الواقع ليس أمامها ما تفعله غير ماتنوي عمله على خلفية الاوضاع والامزجة المتغيرة في هذه الأوقات العصيبة التي تزداد فيها معدلات  التضخم وتؤدي إلى تفاقم تكلفة المعيشة في البلاد. 

تعيش بريطانيا على وقع ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء، ومن المتوقع أن تبلغ فاتورة الكهرباء  للمواطن أكثر من 4500 دولار، ما يهدد أكثر من 8.5 مليون أسرة بريطانية “بالفقر” بحلول شهر كانون الثاني/ يناير المقبل. وكانت تراس قد تعهدت لناخبيها باتخاذ عدد من الإجراءات لمواجهة هذه الأزمة، وفي مقدمتها تجميد الزيادة المستمرة في سقف أسعار الغاز التي ترتفع كل ثلاثة أشهر، ومن شأن هذا الإجراء أن يلجم جماح الأسعار التي ارتفعت بنسبة 90 في المئة، مقارنة بالعام الماضي. وهذه الخطوة ستكلف خزينة الدول عشرات المليارات من الدولارات، وحتى الآن من غير المعروف كيف ستوفرها الحكومة.المشكلة ان هذا هو الخيار الوحيد المتاح لمواجهة أزمة الطاقة. 

تواجه بريطانيا أكبر موجة تضخم منذ أكثر من 40 سنة، وبحسب خبراء الاقتصاد فإن معدل التضخم سيتجاوز 15 في المئة بحلول بداية العام المقبل، فضلاً عن وصول قطاع الرعاية الصحية الوطنية إلى عمق القاع فهناك قائمة انتظار طويلة من المرضى تصل إلى 6 ملايين مريض ينتظرون دورهم لتلقي العلاج، مع نفاذ القدرة الاستيعابية البالغة 13500 سرير مخصصة للمرضى الذين ينتظرون الرعاية الاجتماعية. 

ومع ذلك تبدي تراس عزماً وإصراراً على تطبيق خطة تقوم على خفض الاقتطاعات الضريبية من أجور الموظفين لمصلحة الخدمات الصحية، وتعليق “الضريبة الخضراء” وهي جزء من فاتورة الطاقة التي تدفع للمشاريع الاجتماعية والخضراء، والمساعدة على الاستدانة.

تراس مجددة وإصلاحية في حزب المحافظين

تميزت شخصية تراس طيلة السنوات الماضية من سيرتها السياسة ومسؤولياتها في السلطة بالتكيف أو بتعبير أدق التلون السياسي. ففي حوار مع “بي بي سي” قال رئيس تحرير موقع (ConservativeHome) بول غودمان إن “تراس وعلى رغم تمتعها بسمعة طيبة كمنظرة لها جذور أيديولوجية واضحة للغاية، إلا أنها افلحت في اجتذاب اعجاب وانبهار حتى الناخبين  الذين صوتوا للبقاء في الاتحاد الاوروبي. تراس الآن وفق غودمان “هي المفضلة لدى حزب المحافظين اليميني الذي يغض النظر عن كونها كانت ذات يوم ديمقراطية ليبرالية”. وأضاف: “تمتلك تراس جاذبية سياسية ساعدتها على تقديم قدمت نفسها في السباق على قيادة  حزب المحافظين العريق كوجه جديد إبان توليها حقائب وزارية مختلفة لفترة طويلة من العمر”.هذا يعكس برأيه “تمتعها بقوة خارقة لتسويق نفسها كمجددة وإصلاحية”. ووفقاً لوسائل الإعلام البريطانية “يسود الجدل الساخن في صفوف حزب المحافظين حول مدى دعم تراس البريسكت. تتباين الآراء حول الخطوات التالية لرئيس الوزراء تجاه الشركاء الأوروبيين. كتبت صحيفة (فاينانشيال تايمز) أن الحكومة الجديدة تشير إلى نهج أكثر واقعية تجاه الاتحاد الأوروبي. بينما يدعي تحليل سياسي أن الشعور السائد في باريس وبرلين هو أن الوضع مع لندن من المرجح أن يزداد سوءاً قبل أن يتحسن، و”سيتعين على القادة الأوروبيين انتظار مغادرة تراس، على أمل حدوث تحول بعد الانتخابات البريطانية المقبلة”. 

العواصف الهائجة والحرائق السياسية

ليس أمام تراس في الحالة الحرجة الراهنة، غير النجاح في مواجهة العواصف واخماد الحرائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإعادة اقتصاد الدولة الى سكته المتوقفة، لا سيما أن الانتخابات العامة تلوح في الأفق، والحزب الليبرالي المعارض يترصد الأخطاء والهفوات للانقضاض على فريسته الحرباء.

تراس في مهمتها المستحيلة هذه ستحتاج الى الاتحاد الاوروبي الذي عملت كل ما بوسعها للخروج منه بغية التخلص من سطوته كما كانت تقول. ووفقاً لوسائل الإعلام البريطانية “يسود جدل ساخن في صفوف حزب المحافظين حول مدى حقيقة موقف تراس من البريسكت. كما تتباين الآراء حول الخطوات التالية التي ينتظر أن تتخذها لمد الجسور مع الشركاء الأوروبيين. 

منذ بداية الحرب الروسية في أوكرانيا اتخذت بريطانيا موقفاً متشدداً ضد موسكو، وكانت من أشد المؤيدين لأوكرانيا، وقدمت لها الدعم الراسخ بالمال والسلاح وأيضاً استقبال اللاجئين الأوكرانيين واستضافتهم لدى الأسر البريطانية، لكن بعد ستة أشهر من الحرب، ودخولها الشهر السابع، تشير  صحيفة”صنداي تايمز” إلى أن أكثر من ربع الأسر التي تشارك في برنامج استضافة اللاجئين الأوكرانيين ترغب في الخروج منه.ومنذ بداية الحرب، وصل إلى بريطانيا 115 ألف لاجئ أوكراني، وما زالت البلاد تستقبل الأوكرانيين بمعدل نحو خمسة آلاف أسبوعياً. 

 يتعين على رئيسة الوزراء البريطانية أن تكافح  للحصول على التوافق داخل الحزب لاسيما وانها تحظى بأدنى مستويات الدعم بين نوابها مقارنة بأي زعيم محافظ منتخب في ظل النظام الحالي”.