على بعد مئة متر من منزلي في العاصمة الكوسوفية بريشتينا تقع “ساحة العلم” ، التي هي أول ساحة كبيرة تواجه الزائر القادم إلى بريشتينا عبر الطريق الدولي سكوبيه – بريشتينا . وقد سُمّيت الساحة بهذا الاسم نظرا إلى أنه بعد حرب 1999 وانسحاب القوات الصربية قام بعض الأشخاص بنصب سارية عالية ووضعوا في رأسها ” العلم القومي” ، الذي هو تعبير ملطف من علم دولة ألبانيا المجاورة . ومن ذلك الحين بقي هذا العلم خفاقا إلى أن اقتربت الذكرى العاشرة للاستقلال فقرّر رئيس الحكومة إنزال العلم ليلا (خوفا من اشتباك مع المعارضين) ووضع العلم الرسمي لـ”جمهورية كوسوفو” مكانه في 16 الجاري. ولكن في اليوم التالي قام بعض المعارضين ليلا بإنزاله ووضعه على جدار قريب وكتابة عبارة “عصابة برونتو” عليه ، إشارة إلى أن هذا العلم يمثل فقط المافيا الحاكمة . وفي نهار اليوم التالي أعادت الحكومة رفع العلم الرسمي على السارية وبقي هناك 48 ساعة فقط ، ليعود رئيس الحكومة راموش خير الدين ويصدر قرارا في 20 الجاري بإعادة “العلم القومي” إلى مكانه .
أما السبب في ذلك فهو أن وضع الرموز والأعلام في المجال العام (الشوارع والساحات) هو من اختصاص البلدية ، وبلدية بريشتينا بقيت في يد المعارضة ذات الاتجاه القومي (حركة تقرير المصير) بعد انتخابات 2017 ، ولذلك آثر رئيس الحكومة حفظا لكرامة الحكومة أن يعيد “العلم القومي” إلى “ساحة العلم” التي تتصدر مدخل بريشتينا العاصمة .
وفي الواقع لقد كشفت هذه المناسبة (الذكرى العاشرة للاستقلال)، ما ينقص هذا الاستقلال من خلال احتدام “معركة الأعلام” في الأيام الأخيرة ، فعندما كانت كوسوفو وحدة فدرالية مؤسسة للاتحاد اليوغسلافي كانت تُرفع في الشوارع خلال المناسبات الأعلام القومية (الألبانية) واليوغسلافية . وعندما انسحبت القوات الصربية في نهاية حرب 1999 ووضعت كوسوفو تحت الإدارة الدولية أصبحت الأعلام القومية (الألبانية) هي الوحيدة التي ترفع إلى جانب أعلام الولايات المتحدة وحلف الناتو ، بينما بقيت الأعلام الصربية ترفع فقط في شمال كوسوفو ذي الأغلبية الصربية . ومع فشل المفاوضات بين الألبان والصرب في 2007 وقيام الألبان بالإعلان عن استقلالهم عن صربيا في 17/2/2008 فوجىء الألبان بالعلم الذي اختير لدولتهم الجديدة ، وبقوا سنوات يشعرون أنه مجرد”خرقة” لا تمت لهم بشيء . ومع اقتراب الذكرى العاشرة للاستقلال فوجىء الألبان بأمور كثيرة كُشف عنها للمرة الأولى . فقد كشف رئيس البرلمان السابق يعقوب كراسنيتشي، أن إعلان الاستقلال كُتب في الخارج ، كما وكُشف أن العلم الرسمي للدولة الجديدة صُمم في الخارج ، وأن مبادىء الدستور الجديد وضعت في الخارج حسب “مبادىء أهتيساري” لـ “الاستقلال المشروط”. ويكشف الناشر والكاتب الكوسوفي المعروف فيتون سوروي ، الذي كان عضو “فريق التفاوض” مع بلغراد في 2007 ، أن فريق التفاوض اتفق على الإعلان عن مسابقة لتصميم العلم الجديد ، ولكن في يوم الإعلان عن الاستقلال فوجىء هو وغيره بالعلم الجديد للدولة الكوسوفية الوليدة . ويكشف سوروي في مقالة عشية الذكرى العاشرة للاستقلال (جريدة “كوها ديتوره” 16/2/2018)، أن هذا العلم غير دستوري وغير قانوني . فالبرلمان الكوسوفي الذي أعلن الاستقلال لم يناقش ويقرّ شكل العلم الجديد ، بينما أصدر بعد ثلاثة أيام (20/3/2008) “قانون استخدام رموز الدولة”، الذي يشمل العلم وشعار الدولة والنشيد الوطني ، أي قبل إقرار الدستور الجديد الذي تأخر حتى حزيران/ يونيو 2008 . وحتى في الدستور الجديد جاء في المادة 6/2 أن “شكل وطريقة استخدام وحماية العلم ورموز الدولة الأخرة تُنظم بقانون” ، وهو ما لم يحدث حتى الان ، أي أن البرلمان الكوسوفي لم يناقش ويقرّ شكل العلم الرسمي لـ “جمهورية كوسوفو” . وبسبب كل هذه الأمور بقيت الغالبية الألبانية في كوسوفو (95% من السكان) لا تشعر برابط يربطها بهذا العلم ، خاصة وأن هذه الغالبية الساحقة، احتلت في أعلى العلم، نجمة ضمن ست نجمات فوق خارطة كوسوفو، تمثل التنوع الاثني في هذه الدولة التي تقارب مساحتها مساحة لبنان، أي أن الألبان يماثلون الصرب والبشناق والأتراك والغجر الذين يمثلون كلهم 5% من السكان .
ومن ناحية أخرى ، مع إعادة التقسيم الاداري لكوسوفو بشكل يضمن وجود عشر محافظات بغالبية صربية تتمتع بلدياتها بسلطات كبيرة ، بقيت الأعلام الصربية ترفرف وحدها في الشوارع والدوائر الرسمية ، وخاصة في المحافظات الأربع المجاورة لصربيا ، حتى أن الزائر الذي يأتي لزيارة كوسوفو من الشمال لا يعرف أين هو : في صربيا أم في كوسوفو ؟ وإذا جاء الزائر من الجنوب (مقدونيا) فيحتار أكثر لأن الأعلام على طول الطريق الدولي توحي له أنه دخل إلى ألبانيا، لأن كل الأعلام باللون الأحمر التي تمثل “العلم القومي”، ويبقى الزائر محتارا إلى أن يصل إلى مدخل العاصمة بريشتينا ليرى أخير العلم الرسمي (الأزرق) في “ساحة العلم” ، حيث وضع العلم هناك فوق السارية بحماية الشرطة !
“حرب الأعلام” الدائرة بمناسبة الذكرى العاشرة للاستقلال تكشف عن نواقص الاستقلال ، إذ أن العلم الذي هو رمز السيادة لا يزال مرفوضا في عشر محافظات بغالبية صربية، ولا يزال غريبا على غالبية الألبان التي تفضل عليه العلم الأحمر الذي يتوسطه نسر برأسين، يمثل كل واحد منها دولة ألبانية حسب التفسير القومي الذي يعبر عن الأمر الواقع.[video_player link=””][/video_player]
في الذكرى العاشرة لاستقلال كوسوفو : “حرب الأعلام” تكشف عن نواقص الاستقلال
على بعد مئة متر من منزلي في العاصمة الكوسوفية بريشتينا تقع “ساحة العلم” ، التي هي أول ساحة كبيرة تواجه الزائر القادم إلى بريشتينا عبر الطريق الدولي سكوبيه – بريشتينا . وقد سُمّيت الساحة بهذا الاسم نظرا إلى أنه بعد حرب 1999 وانسحاب القوات الصربية قام بعض الأشخاص بنصب سارية عالية ووضعوا في رأسها ” العلم القومي”
الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
فاطمة بدري - صحافية تونسية
اغتيال التونسي شكري بلعيد… هل تغلق أحكام الإعدام القضيّة؟
22.04.2024
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية
الحشاشون في رواية إسماعيليي إيران (3): قلعة آلموت
22.04.2024
مروة صعب - صحافية لبنانية | 22.04.2024
التحريض ضد اللاجئين في لبنان…”عقاب جماعي” واستثمار سياسيّ
العنصرية تجاه اللاجئين السوريين في لبنان ليست ظاهرة جديدة، إذ تُستغلّ كل أزمة لتسليط الضوء على ورقة اللجوء السوري، سواء لتحقيق مكاسب سياسية وشعبوية أو لتحويل انتباه الجمهور عن القضايا الحقيقية.
الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
تروي الصحفية والناشطة السياسية المصرية، إيمان عوف، تجربتها كامرأة وأمّ في خوض غمار السياسة والعمل الصحفي والصعوبات التي واجهتها خلال مسيرتها والمتعلقة بشكل أساسي بأمومتها وبما هو متوقع منها مجتمعياً. "كيف يغدو الدور الرعائي عائقاً أمام حياتكِ السياسية؟"، هي الحلقة الثالثة ضمن مشروع "عوائق وصول النساء العربيات إلى طاولات صنع القرار"، الذي أُنجز بالشراكة بين…
17.04.2024
تكرر توقيف السلطات الألمانية ناشطين أو شخصيات معروفة بدعمها القضية الفلسطينيّة، بل حتى منعهم من دخول البلاد كما حصل مع الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستة، بحجة معاداة السامية، التي تُستخدم أيضاً لتفريق تظاهرات متضامنة مع الفلسطينيين وداعية الى وقف الإبادة في غزّة. آخر ضحايا هذا التضييق، وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس، الذي مُنع من…
17.04.2024