fbpx

الدول النفطية إذ تتمرّد على السياسة الأميركية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تمرد الدول النفطية العربية على السياسة الأميركية هو دليل على خواء كلام بوتين عن أن العالم أحادي القطب، ودليل على أن العالم متعدد الأقطاب، لكن التعددية القطبية لا تعني المساواة بين أطراف غير متساوين، إذ تبقى الولايات المتحدة هي الأكثر امتلاكاً للقوة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يكن قرار دول منظمة “أوبك +”، في شأن تخفيض إنتاجها من النفط بمقدار مليوني برميل يومياً، والذي أتى في ظل أزمة الطاقة العالمية، وعلى الضد من الرغبة، أو المصلحة، الأميركية، في تعزيز الضغط على روسيا، مجرد موقف طارئ أو عفوي. كانت للموقف سوابق، تتمثل في التوتر الذي يشوب علاقات بعض الأنظمة العربية، بخاصة النفطية الخليجية، ومصر، مع الولايات المتحدة الأميركية.

وكنا شهدنا أن زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المملكة السعودية، ولقاءه بقادة دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر والأردن والعراق الصيف الماضي، لم يستطعا تحقيق النتائج المرجوة، نحو إزالة عوامل التوتر في تلك العلاقات، وبالتالي دفع الدول النفطية للمساهمة الفعالة في إمداد الدول الأوربية بالنفط والغاز.

هكذا، شكل اللقاء المذكور فرصة للقادة العرب الحاضرين لطرح ملحوظاتهم الاعتراضية، أو تخوفاتهم، من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، التي يتمثل أهمها في الآتي: 

أولاً، لا مبالاة الولايات المتحدة بصعود النفوذ الإيراني في المنطقة، إن عبر ميلشياتها الطائفية المسلحة، أو عبر برنامجها النووي، أو عبر ترسانتها الصاروخية. 

ثانياً، رفض أي محاولة من الولايات المتحدة الأميركية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، تحت مسمى الدفاع عن حقوق الإنسان او نشر الديمقراطية، بدعوى أن لكل بلد ظروفه وخصوصيته وثقافته. 

ثالثاً، اعتبار أن الولايات المتحدة تخلت عن مسؤولياتها الدولية المتعلقة بالحفاظ على الأمن القومي العربي، إزاء الكثير من التحديات الأمنية (خاصة الحوثيين في اليمن ومداخلات تركيا في ليبيا)، ويأتي ضمن ذلك تحفظها إزاء صفقات التسلح مع بعض الأنظمة العربية.

بيد أن ما يفترض التذكير به هنا هو أن هذا التوتر لم يكن نتاج وجود إدارة أميركية ديمقراطية في البيت الأبيض الأميركي، أو نتاج وجود رئيس أميركي كجو بايدن، ذلك أن أساس هذا التوتر نشأ في ظل وجود الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، الذي تبنى في ولايته (2001ـ 2009) مشروع “نشر الديمقراطية” في العالم العربي، ومشروع “الشرق الأوسط الكبير”، وفقاً للتداعيات الناجمة عن الهجوم الإرهابي في نيويورك وواشنطن (11/9/2001)، وعلى أساس فكرة مفادها أن مشكلة العالم العربي تتأتى من الجمود السياسي، والظلم، والاستبداد، وأن الحل يكمن في التغيير السياسي وتعزيز الحرية والتنمية والديمقراطية فيه. 

ومعلوم أن تلك الفكرة كانت وراء غزو العراق، وإسقاط نظام صدام حسين (2003)، وفي حينه بدا وكأن الولايات المتحدة الأميركية تخلت عن ركن أساسي في استراتيجيتها التقليدية إزاء المنطقة العربية (أمن إسرائيل، أمن النفط، الحفاظ على الأنظمة الصديقة، الحؤول دون هيمنة قوة معادية في المنطقة/المقصود الاتحاد السوفييتي السابق). 

وعليه، فمنذ ذلك الوقت، بدأت الضغوط الأمريكية لدفع الأنظمة العربية نحو إدخال إصلاحات سياسية، وهو ما تم ترجمته في قرارات مؤتمرات القمة العربية منذ ذلك التاريخ (في العشرية الأولى من هذا القرن)، ولو أنها ظلت مجرد حبر على ورق. وقد عبر “تقرير التنمية الإنسانية العربية” عن ذلك (تقرير سنوي بدأ في الظهور في العام 2002)، في التأكيد على النواقص التي تعاني منها البلدان العربية، وهي نقص الحرية، ونقص المعرفة، ونقص تمكين المرأة، طبعاً إضافة إلى نقص التنمية.

في عهد الرئيس باراك أوباما، ومع انطلاق ثورات “الربيع العربي”، مع كل الوعود والآمال التي بشرت بها، بدا وكأن الولايات المتحدة بمثابة عامل إلهام أو تشجيع، حتى ولو كانت تلك الثورات لمصلحة تيار الإسلام السياسي، علماً أنه في ما بعد تبين أن تلك الإدارة غير معنية، عملياً، إلى الدرجة المناسبة بالتورط بدعم التغيير، بخاصة في المحطة السورية، ووفقاً لحسابات إسرائيلية خاصة؛ هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، بدت تلك الإدارة أكثر ميلاً لعقد صفقة مع إيران (بعد صفقة الكيماوي مع النظام السوري في تموز/ يوليو 2013)، بخصوص المقايضة على برنامجها النووي، لمصلحة إسرائيلية، مع غض النظر، بل والتسهيل، في ما يخص تزايد نفوذها الميليشياوي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بما يهدد مباشرة الأنظمة العربية في الخليج. 

وفي الواقع، فإن هاتين الخطوتين أدتا إلى تضعضع الثقة بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين في المنطقة العربية، ومع إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حاول ترميم تلك العلاقات بطريقته الفجة، والشخصانية، والوظيفية، إلا أن أغلب تركيزه كان يتعلق بالحفاظ على أمن إسرائيل، وإقامة منظومة إقليمية، سياسية واقتصادية وأمنية، تكون إسرائيل ضمنها، وفق ما اصطلح عليه باتفاقات “إبراهام”، بمعنى أن ترامب في عهده لم يخفف من مخاوف الأنظمة المعنية.

الآن، ومع مجيئ جو بايدن إلى البيت الأبيض، بخطاباته المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية (ولو نظريا)، فقد دق مجدداً ناقوس الخطر لدى عديد من الأنظمة العربية، التي وجدت ربما في الظرف الحالي، أي في ظرف الصراع الدولي، وفي ظل أزمة الطاقة (التي تتميز بامتلاكها)، بمثابة الفرصة السانحة لها لمعاقبة الولايات المتحدة، أو لتوجيه رسالة لها بأن تقف عند حدها، وأن عليها أن تأخذ في الاعتبار مصالح حلفائها التقليديين، وألا تستخدمهم عند الحاجة، وترميهم على قارعة الطريق عند انتفاء الحاجة إليهم.

مثل تلك الخطوة قد تعطي مبرراً للولايات المتحدة لمعاودة تفعيل مباحثاتها مع إيران بخصوص الملف النووي، بما يفيد إيران.

ما يفترض الانتباه إليه هنا هو أن الأنظمة العربية باتت متحررة من الولايات المتحدة الأميركية، فالعالم لم يعد كما كان بعد الحرب العالمية الثانية، في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات، والحرب الباردة انتهت منذ عقود، ولم يعد ثمة اتحاد سوفياتي، ولا حركة شيوعية، أي أن الصراع الدولي اليوم يدور بين قوى النظام الرأسمالي. 

في هذا الإطار، ربما تلك الأنظمة في مقارنتها بين روسيا بوتين، من جهة، وأميركا بايدن أو ألمانيا شولتز، من جهة أخرى، باتت تجد نفسها أقرب إلى روسيا بوتين، التي لا تتحدث عن الديمقراطية وتنبذ حقوق الإنسان، وهذه رؤية قاصرة، وضيقة طبعاً، فالمقارنة يفترض أن تكون بين أي من النموذجين أفضل، أو أكثر تقدماً، من الناحية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، والعسكرية.

هذا هو الإطار السياسي لقرار أوبك، فما حصل ليس محض عملية جدوى اقتصادية، إذ سبق أن قامت المملكة السعودية مراراً في مراحل سابقة بإغراق السوق بفائض من الإنتاج النفطي لكسر أطراف أخرين، خاصة روسيا وإيران، حدث ذلك في 2014 ما أدى إلى هبوط سعر البرميل إلى النصف، وحدث ذلك عام 2020 لإجبار روسيا على تخفيض حصتها من الإنتاج، وحينها تراوح سعر برميل النفط بين 65 و55 دولاراً.

في أي حال، ربما من المبكر التكهن بتداعيات هذه الخطوة، التي اعتبرت بمثابة طوق إنقاذ لروسيا- بوتين، وكمحاولة إضعاف لمساعي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إضعافها وعزلها، في الصراع الدائر الآن، سواء بخصوص العلاقات الدولية والإقليمية، أو بما يتعلق بمكانة الدول النفطية العربية في هذا الصراع.

طبعا لا أظن أن ما حصل هو أمر نهائي، أو أنه سينجم عنه قطيعة بين الدول العربية المعنية والغرب، ذلك أن العلاقات التي تجمع الطرفين، وطيدة وراسخة، في مختلف المجالات، لكن ما حصل لا بد سيترك بصمته على العلاقات بين الطرفين في تضعضع الثقة بينهما مستقبلاً، كما أن مثل تلك الخطوة قد تعطي مبرراً للولايات المتحدة لمعاودة تفعيل مباحثاتها مع إيران بخصوص الملف النووي، بما يفيد إيران، وهو بالتأكيد آخر ما تريده الأطراف العربية التي ساندت الموقف الروسي في هذه الظروف الدولية الحساسة.  

في أي حال، فإن تمرد الدول النفطية العربية على السياسة الأميركية هو دليل على خواء كلام بوتين عن أن العالم أحادي القطب، ودليل على أن العالم متعدد الأقطاب، لكن التعددية القطبية لا تعني المساواة بين أطراف غير متساوين، إذ تبقى الولايات المتحدة هي الأكثر امتلاكاً للقوة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والعسكرة، كما أن عظمة دولة ما لا تتأتى من عضلاتها العسكرية وحسب، ولا من امتلاكها ينابيع النفط أو الغاز، وإنما من مسائل أخرى أيضاً، وهو ما تفتقده روسيا.