fbpx

فرنسا وكأس العالم 2022:
خلاف على المقاطعة وإجماع على الدوافع

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

التشكيك بنزاهة الفيفا فتح الباب على سجال أوسع يرتبط بآلية عمل الاتحاد وتحوله إلى مؤسسة تلهث خلف المنفعة المادية، دون أن تقيم وزناً لأي اعتبار آخر، حتى تعالت أصوات مطالبة بثورة داخل الفيفا. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ليس مستغرباً أن يكون جزء من الرأي العام الفرنسي في طليعة الداعين إلى مقاطعة بطولة كأس العالم المقبلة، التي تستضيفها قطر لما تمثله فرنسا من “مرجع عالمي” في قضايا حقوق الإنسان. آخر فصول هذا الكباش إعلان بلديات فرنسية، من ضمنها باريس، رفضها تخصيص شاشات عملاقة في الساحات العامة لنقل المباريات.

الكثير من الشخصيات السياسية والفنية والرياضية تبنت بدورها هذا التوجه، وأطلق هؤلاء دعوات للمقاطعة على نحو فردي أو جماعي، حتى إن صحيفة Le Quotidien de la Réunion، قررت الامتناع عن تغطية الحدث الرياضي الأهم عالمياً، حتى في حال تتويج فرنسا بطلة للعالم.  

دوافعهم للمقاطعة متعددة وهي ليست حججاً تخص فرنسا وحدها، بل يرددها أيضاً أنصار المقاطعة في العالم أجمع، في طليعتها ملف حقوق الإنسان وتحديداً الانتهاكات التي يتعرض لها العمال الآسيويون المنكبون على تشييد المنشآت الرياضية والسياحية. في هذا الإطار، يحرص دعاة المقاطعة على التذكير بالرقم 6500 الذي كشفت عنه صحيفة “الغارديان”، قبل نحو عام، وهو يشير إلى العمال الذين لقوا حتفهم منذ كانون الأول/ ديسمبر 2010، تاريخ منح قطر حق استضافة كأس العالم، بسبب “ظروف العمل غير الإنسانية”. تناول هذا الملف ليست بالأمر الجديد في فرنسا، إذ لطالما اهتم الإعلام الفرنسي بتسليط الضوء على واقع العمال الآسيويين في دول الخليج، بمعنى آخر، لم يستفق الرأي العام الفرنسي على هذه القضية الإنسانية بين ليلة وضحاها. 

الفاتورة البيئية تحظى أيضاً بحصتها من الانتقادات بعدما بات التغير المناخي على سلم الأولويات الدولية خلال السنوات الـ12 المنصرمة. تشييد قطر ملاعب “مبردة” بغية تخفيف درجات الحرارة داخلها دفع بالمنظمات البيئية، وعلى رأسها “غرينبيس”، إلى السؤال عما إذا كانت تلك المنشآت صديقة للبيئة، مع التشكيك بصحة التصريحات الرسمية القطرية حيال “حيادية الكربون”. 

ولا تتردد الصحافة الفرنسية في التذكير بشبهات الفساد المحيطة بمنح قطر حق تنظيم البطولة الكروية، لا سيما أن فرنسا كانت مسرحاً لإبرام الصفقات. المقصود في هذا الإطار، العشاء الذي جمع في قصر الإليزيه، قبل تسعة أيام من تصويت الفيفا، نيكولا ساركوزي، ميشال بلاتيني، حمد بن جاسم وتميم بن حمد. التشكيك بنزاهة الفيفا فتح الباب على سجال أوسع يرتبط بآلية عمل الاتحاد وتحوله إلى مؤسسة تلهث خلف المنفعة المادية، دون أن تقيم وزناً لأي اعتبار آخر، حتى تعالت أصوات مطالبة بثورة داخل الفيفا. 

الفاتورة البيئية تحظى أيضاً بحصتها من الانتقادات بعدما بات التغير المناخي على سلم الأولويات الدولية خلال السنوات الـ12 المنصرمة.

من ضمن المؤشرات الدالة على مادية الفيفا، الموافقة على إقامة البطولة في فصل الشتاء، ما أدى إلى بلبلة تنظيمية. فكأس العالم سينطلق قبل اختتام البطولات المحلية ولن يكون أمام المنتخبات الوقت المعتاد للاستعداد. بعض اللاعبين لن يلتحق بمنتخبه إلا قبل أسبوع أو أسبوعين من مباراة الافتتاح، ما قد يؤثر في الأداء ويؤدي بالنهاية إلى تدني مستوى المباريات. 

الفاتورة البيئية من جهة و”تركيز الفيفا على الناحية المادية” من جهة أخرى، يفسران سبب تصدر أحزاب اليسار والبيئة الفرنسية، الحملة الداعية إلى مقاطعة البطولة الكروية، لكن أنصار الرئيس إيمانويل ماكرون شككوا في نيات هؤلاء الحقيقية معتبرين أنهم يستخدمون كأس العالم لتحقيق مكاسب سياسية داخلية. اللافت أن معارضي المقاطعة لم يدافعوا عن قطر أو عن الفيفا على نحو مباشر، هجومهم المضاد يتلخص في تسخيف دعوة المقاطعة وتحجيم حججها لوصم أصحابها باللاواقعية.  

تبدأ محاججتهم بطرح سؤال حول ماهية المقاطعة المنشودة: هل المطلوب مقاطعة ديبلوماسية (امتناع الرسميين عن حضور مباريات منتخبات بلادهم)؟ مقاطعة إعلامية (عدم تغطية مجريات البطولة)؟ مقاطعة رياضية (الضغط على اللاعبين لرفض اللعب على الأراضي القطرية أو حتى الطلب من الاتحادات الرياضية الوطنية الامتناع عن المشاركة)؟ أم المطلوب مقاطعة شعبية (حث عشاق كرة القدم على عدم متابعة المباريات)؟

في جعبة مناوئي المقاطعة، حجة مضادة للرد على كل نوع من أنواع المقاطعة: إزاء المقاطعة الديبلوماسية يتم التسويق لأهمية الإبقاء على التواصل مع الأنظمة غير الديمقراطية. فالإبقاء على التواصل المصحوب بضغط ديبلوماسي قد يؤتي ثماره بدليل إقدام الدوحة، نظرياً، على وقف العمل بنظام الكفالة. وشكل موقف منظمة العفو الدولية الرافض للمقاطعة رافداً لهم. 

من جانب آخر، تم التصويب على المقاطعة الرياضية من زاوية العواقب القانونية، فامتناع المنتخبات المتأهلة عن المشاركة يعرضها لعقوبات من الفيفا. أما الطلب من الرياضيين عدم الالتحاق بمنتخباتهم، فاعتبره البعض بمثابة تجنٍ عليهم كونهم من المحترفين والمشاركة في بطولة العالم تشكل فرصة لهم للتألق، وقيمة مضافة في مسيرتهم المهنية. 

وللرد على المقاطعة الشعبية، اتخذ موقف أكثر عدائية بمنطق أن من يطالب بالمقاطعة الشعبية ليس من عشاق كرة القدم، وبالتالي من السهل عليه المزايدة في هذه النقطة.

من جهة أخرى، لا يتردد أنصار المشاركة في اتهام خصومهم بالديماغوجية: من يؤمن حقيقة بضرورة المقاطعة، كان الأجدى به الضغط في هذا الاتجاه خلال السنوات الـ12 المنصرمة وليس على مسافة أسابيع من انطلاق البطولة. 

من الواضح أنهم وبغرض استمالة الرأي العام إلى صفهم، اختاروا ورقة البراغماتية والواقعية. ولهذه الغاية، لم يترددوا في الذهاب أبعد من ذلك عبر استحضار المستجدات الدولية: هل من العقلاني استعداء أحد أكبر منتجي الغاز فيما تداعيات أزمة الطاقة لم تنتهِ بعد؟ 

ومن زاوية البراغماتية أيضاً، تم تصوير المقاطعة مدخلاً للإضرار بالمصالح الفرنسية، على مسافة عامين من استضافة باريس دورة الألعاب الأولمبية. فخلال زيارة إيمانويل ماكرون الدوحة في كانون الأول 2021، تم توقيع بروتوكولات تعاون لتبادل الخبرات تسهل تنظيم الأحداث الرياضية. 

فهل تنسحب حملات المقاطعة إلى بطولة عام 2026 والتي تستضيفها الولايات المتحدة أكبر دولة ملوثة في العالم؟ وماذا عن المشاركة في بطولة الألعاب الأولمبية عام 2008؟ ألا تتربع الصين على قمة الدول المنتهكة لحقوق الإنسان؟ وإذا كانت قطر منبع “الشر العالمي”، لمَ لا تتم مقاطعتها على نحو دائم وفي كل المجالات: الدبلوماسية، الثقافية، التجارية، الاقتصادية…؟ 

وعاد البعض بالذاكرة إلى محطات سابقة للقول إن المشاركة الرياضية قد تكون مدخلاً لخدمة القضايا المحقة، كما حصل عام 1978 عند إقامة بطولة كأس العالم في الأرجنتين. في حينها استغل الصحافيون وجودهم هناك ليبادروا إلى تغطية التجمع الأسبوعي لحركة “أمهات ساحة مايو”. وبذلك ذاع صيت الحركة في أصقاع العالم، ما اعتبر من المسامير الرئيسية التي دقت في نعش الديكتاتورية العسكرية. 

بالمقابل، استغل معارضو المقاطعة خطأ وقع فيه بعض أنصار الرأي الآخر: من بين الحجج التي قدمت بغرض حشد الرأي العام العالمي ضد قطر، كان الحديث عن ثقافة هذا البلد التي تفرض قيوداً اجتماعية على المشجعين، إلى جانب السؤال عن سبب إسناد البطولة لدولة لا يمكن تصنيفها في خانة الأمم الكروية. 

مقاربة كانت  بمثابة الهدية التي أتت على طبق من فضة، ما سمح لهم بالتصويب على دعاة المقاطعة من زاوية تصديهم للكراهية، مسوقين لأنفسهم كدعاة تسامح وانفتاح: مثلما نطالب الآخرين باحترام ثقافتنا، من الطبيعي معاملتهم بالمثل، مذكرين في الوقت ذاته بلائحة الدول التي سبق أن استضافت كأس العالم من دون الانضمام لنادي الأمم الكروية كاليابان وكوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا.

الأمير تميم بن حمد اعتبر في أيلول/ سبتمبر الماضي، خلال مقابلة مع صحيفة Le Point الفرنسية، أن جانباً من الهجوم يكمن في استضافة بلد عربي ومسلم لهذه البطولة.

ما يمكن استنتاجه أن أنصار المشاركة لم ينكروا حجج الطرف الآخر. أسلوب دفاعهم يدل على اعتراف ضمني بصوابية ما أدلى به دعاة المقاطعة من ادعاءات وإن ظلوا متمسكين بخيار المشاركة. 

الجدل القائم حول استضافة قطر البطولة الكروية ليس إلا نموذجا جديدا على مدى الترابط بين الرياضة والسياسة. فالداعون إلى المقاطعة يدركون إمكانية استغلال الدولة المضيفة هذا الحدث الرياضي للظهور بلباس البلد المتحضر المواكب لركب التطور العالمي. ويأخذ الموضوع نكهة مختلفة عندما يرتبط الأمر بقطر: دولة صغيرة المساحة، غنية بمواردها الطبيعية، طامحة للتحول إلى قوة إقليمية ودولية. 

عدد من الباحثين في “جيوسياسية الرياضة” اعتبروا أن قطر أخطأت في حساباتها: تسليط الأضواء على البلد المضيف هو سلاح ذو حدين، مثلما يتيح التألق، فهو قد يؤدي في المقابل إلى كشف العيوب. وأضاف الباحثون أن الدافع وراء أي دعوة إلى مقاطعة بطولة رياضية ما، يكمن في تحول الرياضة إلى أداة سياسية تسمح بالتقاتل على نحو مختلف، أي دون اللجوء إلى الوسائل التقليدية والتي قد تفضي إلى أزمات دبلوماسية.