fbpx

حي بارباس الباريسي:
موئل الحرّاقة ومجد موسيقى المهاجرين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يكن بارباس مجرّد حي أو سوق شعبي، بل كان شاهدًا على ازدهار أوضاع الجزائريين في فرنسا وانحدارهم. هناك نجح عديد من المهاجرين فيما غرق آخرون في دوامة المخدرات والحزن.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الدائرة الثامنة عشر على تخوم باريس يقبع سوق بارباس، السوق الأشهر في صفوف المهاجرين العرب، والذي بات يمثل الوجهة الأولى للمهاجرين غير النظاميين ومصدر إزعاج السلطات الفرنسية في آن. 

السوق الذي تشكل على تخوم الحي الذي يحمل نفس الاسم، والذي بدوره كان ضاحية منبوذة للمهاجرين الجزائريين سنوات الستينات والسبعينات، بدأ في التوسع والاكتظاظ تدريجيا حتى أصبح هاجسًا يؤرق السلطات الفرنسية مع بداية الالفية ومصدر ازعاج وبيئة للتطرف والإرهاب في مرحلة ما.  

بارباس، كيف تشكل الهامش في المركز؟

يمثل حي بارباس الوجه الآخر لباريس، أكثرها بؤساًَ وخراباً، حيث ينهش الفقر الحي بالإضافة إلى انعدام التنمية، البنايات الآيلة للسقوط، وتصاعد معدل الجريمة، بالإضافة إلى عدم الاهتمام بالحي من قبل البلدية وتضاعف أعداد القاطنين به خلال العقود الماضية، كلها عوامل فاقمت الوضع المأساوي للحي. يتندّر عديد المهاجرين القاطنين في بارباس بأنه لا يختلف عن الأحياء التي ينحدرون منها في الجزائر.

تشكّل الحي سنة 1867 في إطار تجديد مدينة باريس من قبل المعماري جورج أوجين هوسمان، وقد تم إطلاق اسم الحي على السياسي الفرنسي أرماند بارباس، كان الهدف من تأسيسه سياسيًا في الأساس لمنع أي انتفاضات ممكنة من خلال هندسته بشكل معماري يمكن مراقبته والسيطرة عليه، إلّا أن المفارقة تكمن هنا تحديدًا، حيث بات الحيّ الذي تم تشييده لتسهيل تدفّق البضائع والسيطرة عليه أمنيًا، مركزًا للتجارة الموازية والجريمة.

بعد خمسين سنة من تشييده، شهد الحيّ أول موجة هجرة نحوه، حيث جنّدت فرنسا الآلاف من الجزائريين والمغاربة والأفارقة جنوب الصحراء ومن ساكني مستعمراتها للقتال ضدّ ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، بعد انتهاء الحرب، قررّ عدد كبير من الجزائريين الاستقرار في فرنسا. كان حي بارباس الخيار الأفضل للسلطات الفرنسية وللجزائريين أنفسهم، وجدت فرنسا في الحي القائم على أطراف المدينة خيارًا نحو إقصائهم من المجتمع، فيما وجد الجزائريون أن الحيّ نفسه يعزلهم عن الثقافة الفرنسية. 

كان بارباس، الحي، يسير بنسقين: التمجيد خاصة في أوساط المهاجرين ولدى طيف واسع من اليسار، والنبذ من قبل اليمين المتطرف والشرطة ومجتمع “النخبة”، وبينهم كان يتخبّط الحي، رغم أن الصورة التي رافقته خلال السبعينات كانت مشوّهة بفعل تنامي “رهاب الأجانب في فرنسا” والدعوة إلى إقصائهم، ترجم هذا في الأعمال التي تناولت الحيّ، حيث كانت أغلبها تسبح في فلك الوصم الاجتماعي، الإقصاء، السرقة والنشل، صورت عديد الأفلام بارباس على أنه “غيتو جزائري فرنسي” لبيع المخدرات أو الدعارة، ظلت الصورة المصاحبة للحي نمطية للغاية. حتى سنة 1982، عندما قررّ الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيران حينها السماح المقيمين الجزائريين بلم شملهم مع عائلاتهم في فرنسا، حي بارباس الذي كان يعرف بأنه للدعارة والحانات الرخيصة بات تدريجيًا حيًا عائليا بعد تدفق آلاف العائلات نحو فرنسا. 

في الدائرة الثامنة عشر على تخوم باريس يقبع سوق بارباس، السوق الأشهر في صفوف المهاجرين العرب، والذي بات يمثل الوجهة الأولى للمهاجرين غير النظاميين ومصدر إزعاج السلطات الفرنسية في آن. 

ساهم استقرار الجزائريين هناك وتكوينهم عائلات، بالإضافة إلى إلحاق فرنسا للجزائر خلال فترة الاستعمار سابقا أو سهولة التنقل نحو فرنسا بعد الاستقلال في نشوء روابط عائلية ساعدت على موجات الهجرة. تدريجيًا تقلّص عدد الفرنسيين القاطنين في الحي لصالح الجزائريين حتى بلغ ذروته خلال منتصف الثمانينات، بعد أن أصبح الحي حاضرًا في وجدان وثقافة الجزائريين المهاجرين، نسجت عديد القصص عنه وحضر بقوة في أغاني الراي والأفلام السينمائية وحتى الروايات، لم يعد بارباس مجرّد حي، بل بات مكوّنا ثقافيا للجزائريين المقيمين في فرنسا، ومرحلة ضرورية لأي مهاجر جديد قادم إلى فرنسا. عاش الحي مجده خلال السبعينات والثمانينات، خاصة بعد أن أصبح ثيمة يتغنى بها فنانو الراي الجزائري، وبلغ أوجّه خلال نهاية الثمانينات.

سنة 1989 نشر فنّان الراي الجزائري رشيد طه أول ألبوم منفرد له بعد انفصاله عن فرقة “كارط سيجور”، حمل الألبوم عنوان الحيّ الذي استقر فيه طه خلال سنواته الأولى في فرنسا وهو بارباس، ذهب طه لكتابة هذا الألبوم في وهران مسقط رأسه، وسجله في الولايات المتحدة وقام بتصوير أغلب المشاهد في حي بارباس. غنّى طه عن بارباس التي حضنته عندما انتقلت عائلته إلى باريس، نجح الألبوم وبات يبث في أغلب المحلات والمقاهي والحانات الجزائرية في فرنسا وأصبح نشيدًا رسميًا للحرّاقة (تسمية تطلق على المهاجرين غير الشرعيين من المغرب العربي). كانت بارباس تعني لهم نفس ما عنته لرشيد طه. لم تكن أغنية “بارباس” والتي حملت اسم الألبوم مجرّد أغنية، لقد كانت اعترافًا بالحيّ الذي ترعرع فيه، صوّر فيه رشيد طه حياة الأطفال والنساء والمسنين هناك، شباب يشربون البيرة ويلعبون الورق، النساء تغني، المسنون يرقصون. لقد نقل طه صورة مغايرة للحيّ الذي عانى من الوصم الاجتماعي والنبذ، و وثّق حياة الجزائريين هناك، كانت رسالة طمأنة لعوائل المهاجرين بأن الأوضاع جيدة هناك في الغربة. 

“لقد كانت بارباس في الثمانينات مركزًا ثقافيا” هكذا يتحدث ميلود، صاحب محل بيع أشرطة رّاي في بارباس. يواصل بنوستالجيا وشغف كبيرين؛ صنع بارباس مجدًا ثقافيًا، الجميع مروّا من هنا، الشاب مامي، رشيد طه، الشاب خالد، زهوانية. بعضهم عاش هنا، آخرون سجلوا وانتجوا أعمالهم في استوديوهات تسجيل في برباس، لقد بات برباس وجهة لأي مغني راي مبتدئ يودّ أن يجد موطئ قدم له في عالم الرّاي، فن الرّاي يدين بالكثير لحي برباس، هنا تطورت صناعته ومزج بالبلوز والروك. فكرة حفل “1، 2، 3 شموس” انطلقت من البارباس، الحيّ الموصوم الآن بالتطرف والجريمة كان في ما مضى مركزًا فنيًا. 

لم يكن بارباس مجرّد حي أو سوق شعبي، بل كان شاهدًا على ازدهار أوضاع الجزائريين في فرنسا وانحدارهم. هناك نجح عديد من المهاجرين فيما غرق آخرون في دوامة المخدرات والحزن. البعض بنى مجدًا وصنع ثروة، والبعض الآخر اختار درب التطرف.  في جميع الحقبات التاريخية، بعد استقلال الجزائر،  خلال العشرية السوداء، أو خلال بداية الألفية وانحدار الوضع الاقتصادي في الجزائر وتردي الأوضاع ظلّ بارباس يحضن عشرات المهاجرين والحرّاقة، رغم محاولات السلطة الفرنسية إحداث تغييرات فيه ودفع الجزائريين القاطنين فيه للخروج، بقى الحي صامدًا رغم التغيرات الكبيرة التي طرأت عليه.

عندما قدمت أول مرة إلى فرنسا كان بارباس أفضل خيار بالنسبة لي. كانت هنالك معادلة ضمنية، تغض السلطات الفرنسية النظر عن عدد المهاجرين غير النظاميين هناك وجميع أنشطتهم وما يمثلونه من يد عاملة رخيصة، في المقابل لا نغادر مجال الحيّ ولا نسبب المشاكل، ولكن الأمر يختلف الآن. أصبح هنالك الجيل الثاني والثالث، جيل ترعرع ونشأ في حي عربي ولكن في مدينة أوروبية، ممّا سبب له أزمة هوية وشرخ ثقافي كبير. “فشل في أن يكون عربياً وفشل مرة أخرى أن يكون فرنسياً”، يقول فوزي، جزائري مقيم في فرنسا منذ حوالي خمسين سنة، ويضيف: “تحاول السلطات باستمرار تهجير الأهالي وابعادهم وتفكيك الحيّ، رغم أنه فقد بريقه ولم يعد كما كان في السابق، بقي فقط اسم الحي الذي يحمل تاريخاً طويلًا من الصراع ضدّ السلطات الفرنسية، الشغب الذي يحدث خلال كأس العالم، أو عندما يخوض المنتخب الجزائري مباراة ضد فرنسا، وفي أحيانا أخرى مظاهرات من أجل القضية الفلسطينية”.

كل شيء يباع هنا

للوهلة الأولى، يبدو سوق بارباس كأغلب أسواق المهاجرين، سلع محلية وتقليدية من دول مختلفة، ولكنه يتجاوز المهام التقليدية للأسواق. خلافًا لأنه يلبي احتياجات آلاف المهاجرين العرب هناك بأسعار تنافسية، حيث يمثل سوقاً موازية للسلع الفرنسية الباهظة، من سجائر مهربة وملابس تركية رديئة ومواد غذائية لا يتجاوز سعرها ربع الأسعار الفرنسية، يوفّر بارباس خدمات أخرى: أوراق ثبوتية مزوّرة، رخص قيادة إيطالية ويونانية، اشتراكات نقل وعقود مزورة بالإضافة إلى الحشيش المغربي والمخدرات والأسلحة البيضاء.

عندما وصلت إلى باريس لم أكن أعرف أحدًا هناك، ذهبت في البداية إلى محطة مترو “بئر حكيمي” واتجهت من هناك إلى برج إيفل على أمل البحث عن عمل هناك. لم أفلح في توفير عمل طيلة أربعة أيام، حتى نصحني بعض الأصدقاء بالذهاب إلى بارباس، هناك وجدت بعض المهن المؤقتة، حتى في قلب الفوضى كان هنالك نظام،  قمت ببيع السجائر المهرّبة على الرصيف، أما المخدرات فتباع في آخر الحي. تدريجيًا جمعت مدّخرات وقمت بشراء أوراق ثبوتية مزوّرة حتى أستطيع توفير عمل دائم، هذا غير قانوني ولكنه أمر رائج. يفسّر نوفل، حرّاق جزائري حديث العهد في فرنسا: “لقد كانت بارباس حاضرة دومًا في حديث الجزائريين المقيمين في فرنسا، كانت أسطورة، أغلب القصص المنقولة عنها أن نهارها تجارة وليلها جريمة ولم تعد مثل السابق، لذلك تحاشيت الذهاب إليها في البداية، ولكن عندما ذهبت لم يكن الوضع كارثيًا للغاية، نحن في شد وجذب مع الشرطة، بتّ أعرف موعد مداهمتهم، أي الأماكن التي يجب تحاشيها، أنواع البضائع المسموح ببيعها، كان هناك نظام داخلي للسوق يتحتم على الجميع الالتزام به، ولكن رغم كل شيء هذه المنطقة تمثل بالنسبة لي  مرحلة انتقالية نحو ضاحية أفضل”.

 تجسيد لأزمة الهوية

الدّخول إلى بارباس يشبه الدّخول إلى «باب الوادي»(منطقة في الجزائر). وجوه جزائرية تطوف تحت لافتات فرنسية. جلبة صامتة كما لو أننا في ضاحية من ضواحي الجزائر العاصمة. من حين لآخر نسمع صفارات الشّرطة، عقب سرقة هاتف أو محفظة سيّدة مسنّة. “هل نحن في حيّ باريسي؟ نظرياً نعم، أما في الواقع فالأمر ليس كذلك”، يقول سعيد خطيبي، كاتب وصحفي جزائري مقيم في باريس ويواصل: “المحلات تحمل تسميات عربية: كسرة، محاجب، زلابية، إلخ. إن بارباس هو الوجه الشّمال الأفريقي للعاصمة الفرنسية، والذي يخجل منه الفرنسيون بينما يتفاخر به الجزائريون. هو ملجأ مهاجرين غير شرعيين، وموطن قدامى المهاجرين الذين عمّروا فرنسا عقب الحرب العالمية الثّانية، هو ملتقى ثلاثة أجيال من الـ “فرنكو-جزائريين”. 

في العام الماضي انتشر فيديو ساخر، يعبر عن حال بارباس. في ذلك الفيديو يتقدّم صحافي فرنسي من شاب يدعى علاوة، مهاجر غير نظامي، فيسأله إن كان يعرف إريك زمور! فيتحول الكلام بين الرّجلين إلى حوار سريالي. الأوّل يسأل بالفرنسية والثّاني يجيب بالعامية الجزائرية. هكذا هي لغة بارباس، لا هي فرنسية ولا عربية، بل هي “فرنسعربية”، مزيج من الممنوع والمسموح به، من لغة ابتكرها جيل جديد من المهاجرين، لا هم درسوا في فرنسا ولا في الجزائر، كما أنهم ولدوا بين الضفتين. هذه الفوضى هي شكل من أشكال التنوع الثّقافي التي يرفض اليمين أن ينظر إليها، وكلّما أراد شيطنة المهاجرين أشار بإصبعه إلى بارباس، بيئة خصبة للأمراض الاجتماعية. كما لو أن هذا الحي هو سبب مآسي الفرنسيين.

لا تنتهي أزمة الهوية في مستوى لغوي أو ثقافي فقط، تتعدى ذلك لترسم سياسة الدولة الفرنسية. الدائرة المفرغة التي خلقتها السلطات الفرنسية من قمع ونبذ وإقصاء  وتهميش باتت تنتهي بأزمة هويّة، خاصة أمام  ازدواجية المعايير التي تتعامل بها السلطات هناك بين الأحياء والضواحي وهو ما ينعكس ضرورة في طريقة التعامل مع المهاجرين واحيائهم. يشير الصحفي أحمد نظيف إلى أنّه يجب بدايةً التفريق بين الدوائر الباريسية ذات الحضور التاريخي للمهاجرين، لاسيما من المغرب العربي، خاصة وأنه منذ مطلع القرن الماضي، والضواحي العمالية التي ظهرت منذ ستينيات القرن العشرين، في سياق سياسات نقل القوة العاملة من المستعمرات القديمة للمدن الفرنسية الكبرى في خضم مشروع التصنيع وإعادة البناء الذي سار فيه الجنرال ديغول في تنامي. ينتمي حي بارباس إلى الصنف الأول من الدوائر الباريسية ذات الحضور المغاربي القديم، لاسيما من الجالية الجزائرية، شأنها شأن حي بيلفيل الذي يتميز بالحضور التونسي. حيث تختلف سياسات الدولة الفرنسية جذرياً تجاه الأحياء البارسية مقارنة بضواحي الطبقة العاملة شمال باريس أو في بقية المدن الكبرى وخاصة ليون. في الأحياء الباريسية تبدو ملامح التمييز والهامش ضبابية وليست بذلك الوضوح البادي في الضواحي مثل سان دوني. في الضواحي حيث المعمار وشكل المدينة والراهن الطبقي يحدد بشكل كبير علاقات الأمة مع سكانها من ذوي الأصول غير البيضاء، وكذلك العلاقات بين الدولة الفرنسية والأجيال الشابة المتعاقبة من أصول مهاجرة، “شخصية المهاجر العربي”و”الهويات الثقافية”. 

هكذا إذن بقيت هذه الضواحي مشتبهة الهوية أو كما يسميها حسن بلميسوس في كتابه “تاريخ سياسي قصير للضواحي الشعبية” بـ “الضواحي الملونة بالحنين إلى الماضي” حيث خضعت لعملية تقسيم اجتماعي واضحة سياساً وهندسياً، وهي عملية استمرت في النمو منذ أوائل الثمانينيات ثم تفاقمت الأوضاع مع تنامي التهديدات الأمنية وتركز الفقر حتى لم تعد ضواحي الطبقة العاملة “مشكلة” سياسية بل “قضية أجنبية”، يتربح منها السياسيون في الحملات الانتخابية بشكل كبير. في المقابل تبدو الأحياء الباريسية ذات الكثافة العربية أكثر اندماجاً على الأقل من حيث المرافق العامة والخدمات كونها تقع ضمن نطاق العاصمة التاريخية.

للوهلة الأولى، يبدو سوق بارباس كأغلب أسواق المهاجرين، سلع محلية وتقليدية من دول مختلفة، ولكنه يتجاوز المهام التقليدية للأسواق.

بارباس الآن؛ كان صرحًا فهوى

أي شخص يذهب إلى بارباس سيكتشف أن ما بقي من الحي فقط هو مجرد ذكريات ومحلات بيع أشرطة موسيقية أغلقت أبوابها منذ سنوات وسوق شعبي يخفت بريقه يوما بعد يوم خصوصاً مع انتشار ثقافة الشراء الالكتروني. طيلة الأيام التي قضيتها في باريس تجولت في سوق بارباس أكثر من مرّة، تحدثت مع العائلات التي قدمت إلى الحي منذ عقود وباتت تهجره الآن، يتحسّر الجميع على واقع الحيّ وتردي الخدمات فيه وانتشار الجريمة، قررت عديد العائلات مغادرة الحي نحو مناطق أخرى من أجل نمط حياة أفضل. تشبه هذه المغادرة مهاجرة الجزائر نحو أوروبا، فيما يتمسّك آخرون بالبقاء هنا لأنه رغم كل شيء ما تزال بارباس تمثل لهم صورة مصغّرة عن وطنهم الجزائر الذي سبق وهجروه.

بارباس هو الصّورة الأبرز عن احتجاج المهاجرين على الحكومة الفرنسية، مثلما كان أرمون بارباس الاحتجاج الألمع ضدّ الملكية في فرنسا. هذا الحيّ يحمل روح الشّخص الذي سميّ على اسمه بامتياز. في العام 1867، حين أنشأت بلدية باريس حي بارباس، وصل الكاردينال لافيجري إلى الجزائر، في حملة تبشيرية بقصد فرنسة الجزائر. بعد أكثر من قرن من ذلك التاريخ، أصبحت باريس جزائرية. هذه هي المفارقة التي تكمن في حي بارباس الذي لا يزال في مكانه شاهداً على ماضٍ استعماري ودليلاً على أن مستقبل باريس يكمن في تقبّلها الآخرين.

حتى هذه اللحظة لا يزال عديد المهاجرين من ذوي الأصول الجزائرية يصرّون على الذهاب إلى بارباس والتبضّع من هناك في نوع من التضامن مع الوافدين الجدد على الحيّ والالتقاء بالأقارب والأصدقاء.  

في الوقت الذي تزال فيه موجات الهجرة من الجزائر نحو الضفة الشمالية من المتوسط في تزايد، وخاصة إلى باريس، لا يزال حي بارباس يستقبل المهاجرين، من الذين هاجروا من أجل تحقيق أحلامهم، على الرغم من أن الوضع في أوروبا ليس كما يتخيله الجميع خاصة بعد وباء كوفيد والتضخم وتبعات الحرب الروسية على أوكرانيا، إلا أن أسوأ الاحتمالات في أوروبا يظل أفضل من الرخاء في الجزائر كما يردد الحرّاقة هنا.