fbpx

الحقيقة المنسيّة لـ”ملائكة سنجار” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يرصد الوثائقي بدقّة تفاصيلاً قد تبدو وكأنها من نسج الخيال لفظاعتها، الّا أنّها تشكل وثيقة نادرة لفهم يتخطى المادي إلى الإنساني للمأساة التي حلت بالشعب الأيزيدي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في العادة لا يستطيع المرء أن يتفوّه بكلّ شيء إزاء ما عايشه من معاناة، لهذا السبب يلجأ البشر إلى إيجاد مخارج أخرى للنطق بتلك المعاناة. لكن أيّ لغة تحديداً بإمكانها ترجمة مأساة بحجم إبادة جماعيّة؟

عام 2014، حاول تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، إبادة الأيزيديين، وهم جماعة عرقية دينية تعيش في منطقة سنجار شمال غربي العراق. وكان ذلك عملاً بسياسة تنظيم الدولة الإسلامية وفق نمط ممنهج من أعمال العنف الجسدي والعنف الجنسي ضد النساء والفتيات الايزيديات، وضمن سياق واسع النطاق لإبادة طائفة بأكملها برجالها ونسائها وأطفالها.

في الفيلم الوثائقي الطويل “ملائكة سنجار” (للمخرجة البولندية حنّا بولاك في عرضه الأول في لبنان) نسمع بلسان أيزيديّين وأيزيديّات مأساة لا يمكن ترجمتها بغير الصّورة. الكلام عن المأساة لا يمكن أن تكون أشدّ قسوة ممّا تمّ ارتكابه بالفعل. في واقع السينما بإمكان المشاهد غضّ بصره بسهولة عن رؤية مشهد ما، أو أيّ لقطة أخرى يختار عدم الاحتفاظ بها في مخيّلته الإنسانيّة.

تخيّل لو كان بإمكان الأيزيديّين فعل الشيء نفسه مع مأساتهم، أن يختار أيزيديُّ مثلاً، غضّ بصره عن وجه داعشيّ يأمره أن يختار ما بين إشهار إسلامه وما بين ملاقاة حتفه. أو أن تختار أيزيديّة مثلاً، الخروج من صالة العرض عندما لا يعجبها ما تفوّه به سجّانها أو مغتصبوها من عبارات بحقّها وبحقّ أخواتها.

تتبع المخرجة البولنديّة رحلة بحث حنيفة عن أخواتها اللواتي اختطفن من أمام ناظريها على يد تنظيم “داعش”، بعد أن تمّ الإتجار بهن وإخضاعهن لأفظع سبل التعذيب. يرصد الوثائقي بدقّة تفاصيلا قد تبدو وكأنها من نسج الخيال لفظاعتها، الّا أنّها تشكل وثيقة نادرة لفهم يتخطى المادي إلى الإنساني للمأساة التي حلت بالشعب الأيزيدي.

استطاعت المخرجة من خلال “ملائكة سنجار”، توثيق رحلة بحثها الخاصة بها لفهم آليات النفس الفردية في الواقع العراقي بالإضافة إلى تلك الجماعيّة المنسيّة للشعب الأيزيديّ. “الحقيقة لا يمكن إدراكها من الوقوف بعيداً” تقول بولاك. “دائماً ما نعاني من نقص في الحقائق، بحيث إنّ جميع السرديّات التي يعرفها الغرب عن العراق هي مغايرة تماماً لما هو مرئيّ على أرض الواقع”.

فكرة بولاك تلك كانت هي منبع إحدى جلسات الحوار المتعلّقة بـ”سرد واقع السجون في المشرق والمغرب من بيروت”، التي تلت الفيلم بعد عرضه في لبنان.

حينها ناقش مينا إبراهيم وهو مدير الحوار ما يحدث في واقع السجون المخفيّة تحت الأرض، معتبراً أنّه “في أيّ مكان في العالم تعتمد أنظمة السلطة آليّات الإخفاء القسري والتعذيب وسحب الاعترافات من الموقوفين بطريقة وحشية” أيّ بما معناه أنّ واقع السجون الذي نعرفه هو مغاير لتلك الحقيقة المكبوتة تحت الأرض. “خرج تنظيم داعش باطن الأرض إلى سطحها ليضع تلك الممارسات قيد العلن، ولهذا السبب أخذت جميع ممارسات هذا التنظيم طابعاً عشوائيّاً”.

قدّمت حنيفة وعداً لوالدها المحتضر بأنّها ستفكّ أسر شقيقاتها الثلاث. كان الحداد مقترناً بالأسر بالنّسبة إليها، بيد أنّه لن يطيب لها أو لوالدها المدفون في قبره أيّ خاطر إلى حين عودة آخر أخت لها من أسر تنظيم “داعش”. غياب العدالة يأسر الروح، هذا ما علّمتنا إيّاه القصص، تبقى روح الميّت قابضة على حجارة الضريح، إلى حين شفائها من نقمتها على ظالمها، وإلى حين حدوث ذلك، لا تترك الأرواح عالمنا الماديّ.

من بين الشخصيات الرئيسية الأخرى في الفيلم “سعيد” وهو أخ الناشطة الإيزيدية ناديا مراد الحائزة جائزة نوبل للسلام عام 2018 لجهودها في “مكافحة العنف الجنسي كسلاح في النزاعات والحروب”.

إنّ شخصيّة سعيد هي تجسيد لتلك الرّوح التي تأبى المغادرة. يعرف سعيد بأنّه ينبغي عليه حراسة الأضرحة والقرية بالإضافة إلى إنقاذ ما تبقّى من ذاكرة الأيزيديّين فيها. 

في إحدى لقطات الفيلم، يعدّ سعيد الرصاصات التي اخترقت جسده جرّاء الإبادة التي ارتكبها تنظيم “داعش” بحقّ رجال قريته “كوشو” التي تقع بالقرب من جبل سنجار. “قالوا الله أكبر وفتحوا النّار علينا” يقول سعيد. أصابته خمس طلقات حينها، امّا السادسة فقد أصيب بها لأنّه كان لا يزال على قيد الحياة. اقتربوا منه وأطلقوا النار على مكان قريب من جمجمته. “ظنّوا أنّهم قد قتلوني”.

لو أصيبت جمجمة سعيد برصاصة الداعشي، لفقد سعيد ذاكرته ربّما أو مات، بيد أنّها الطريقة الوحيدة التي بإمكان النسيان أن يحدث من خلالها. لكن أن يبقى سعيد على قيد الحياة، بذاكرة نشطة وبستّ رصاصات “إسلاميّة” إخترقت دمه الأيزيديّ فإن في ذلك لتجسيد واضح لمعاناة “ملائكة سنجار”. يعرف سعيد جيّداً كيف تكون النجاة من الإبادة أحياناً، أصعب بكثير من الموت فيها. 

خلال إحدى جلسات مناقشة الوثائقي في ألمانيا بحضور حنيفة، سألها ألمانيٌّ، “لماذا لا تعودون”؟

أجابته حنيفة، بأنّ “لا شيء هناك لكي نعود لأجله”. في الوثائقي نجد في قرية “كوشو”، بقايا عظام وصحراء هي الآن مسكن الأيزيديّين الوحيد الذين قرّروا البقاء. “التاريخ تغيّر”، قالت حنيفة للألمانيّ. “منذ 8 أعوام وحتى الآن، لم يتغيّر شيء سوى التاريخ، وبعض الذين يعيشون في كوشو اليوم، لا يزالون يعيشون هناك فقط لأجل حماية مدافنهم”. إنّ البقاء على قيد الحياة بعد مذبحة كهذه يعدّ نجاة بالنسبة إلى حنيفة، أمّا البقاء في المكان نفسه بعد النجاة منه، فهو بمثابة حداد بالنسبة إلى سعيد.

من خلال شهادات سعيد وحنيفة وغيرهما من الناجين والناجيات اللواتي خضعن للاسترقاق الجنسي على يد أفراد التنظيم من مختلف الجنسيات، نشهد كل فظائع الإبادة الجماعية المنسية، محنة شعب محروم من جميع حقوقه، فضلاً عن قوته وشجاعته في البقاء على قيد الوجود.

بإمكان العالم بأكمله أن يفعل تلك الأشياء بسهولة: الاعتراض، البكاء، النقد وإدارة حلقات للنقاش، وتسليم جوائز تعنى بالسلام العالمي ولنشطاء وناشطات يزيديّين. المتفرّج يتفرّج، والناجي ينجو والميّت يدفن أحياناً، هذه هي المعادلة دائماً على أرض الواقع، أمّا حين يتعلّق الأمر بحدوث المأساة، فينبغي للمرء أن يعثر على لغة أخرى غير البكاء لتعرية ما يحدث ما وراء الجبال.