fbpx

“أيُّها الراديو، يا مُهْجة الروح والذاكرة، خُذني للوِصال!”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ظل جهاز الراديو محل تقدير وإعجاب كبيرين عندي، وواصلت عادة الإنصات والاستماع إليه متى استطعت إلى ذلك سبيلاً. ومع اقتنائي لأول سيارة أصبحنا رفيقي دربٍ واحدة يُعينني على مشقّات القيادة في شوارع متهالكة ومحطمة وبين سائقين متهورين ونزقي الطباع. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عندما علمت بقرار إذاعة الهيئة البريطانية من لندن، إغلاق موجتها الناطقة باللغة العربية، تذكرت أُغنية هزلية استمعت إليها من الاذاعة ذاتها في ما مضى، عنوان الأغنية “الراديو” من تلحين ونظم المونولوجيست العراقي عزيز علي عام 1936 لمناسبة افتتاح اذاعة بغداد وفيها يقول: “الراديو نور الأفكار/ الراديو فتح الأبصار/ الراديو ينقل الاخبار/ الراديو يفضح الأسرار/ الراديو صوت الأحرار/ الراديو ما دام ينور الأفكار ما دام يفتح الأبصار ما دام يفضح الأسرار/  يعني يضر الاستعمار/ يحيا الراديو يحيا الراديو” .

قلما شهد العالم على اكتشاف جهاز تكنولوجي، طال وجوده بيننا وامتدَّ أمدُ استعماله الى يومنا هذا، كجهاز الراديو. صحيحٌ أننا نعيش اليوم في خضم إنجازات الثورة الرقمية إلا أنّ الراديو، بثاً واستقبالاً، يستمر جهازاً مطلوباً يستخدمه كثيرون في البيت وخارجه، وإن ليس كما كان قبلاً. فلا بُدَّ من الاعتراف بأن اختراع جهاز الراديو الذي انطلق مع بدايات القرن المنصرم كانت نقطة بداية تلك الثورة وكل ما آلت إليه من اختراعات لأجهزة متنوعة للبثِّ والارسال صوتاً وصورة.

لا تهدف السطور هنا لسرد معلومات في تاريخ اكتشاف جهاز الراديو والمراحل التي قطعها في تطور صناعته شكلاً ومضموناً. إنما يطيب لي أن استعرض، ولوْ بانتقائية وذاتية مُفرطة، لعلاقة الذاكرة بالراديو. أقصد ذاكرتي الشخصية والذاكرة الجَمَعية للمحيط الاجتماعي الذي نشأت فيه. فقدرة الراديو الهائلة في جعل الفرد يُنصت الى حديث أو أغنية يبثها في الأثير وباتجاه واحد فقط، يحمل في طيّاته احتمال تشكل حوار داخلي ومُرمَّز بين المُنصِت وذاته، يكون فيه الاحتمال كبيراً أن تنتج عنه تراكمات وصُور كثيرة في الذاكرة والوجدان.

أثير الرائحة والصوت في الذاكرة 

لا أذكر تفاصيل شكل الراديو الذي كان في بيت أهلي، عندما كنت طفلاً في السادسة. لكنني أذكر جيداً أنه كان متربعاً على سطح البراد في المطبخ ليكون بعيداً من أيدينا، اخوتي وأنا، وأكثر قُرباً من الوالدة التي كانت علاقتها بجهاز الراديو علاقة مُستجدّة يسودها جو من الإلفة والخصوصية. أُرجح أن يكون حجم هذا الراديو متوسطاً، إنكليزي المنشأ، ويعمل على أشباه الموصلات وليس على اللمبات الكبيرة الحجم كالراديو الموجود في بيت جدي ابو خليل.

وقد اقتنى والدي الراديو الأول وأهداه للوالدة أثناء عمله في التجارة العامة في سيراليون، وقبل أن يصير أستاذاً مُجازاً في الرياضيات، حاملاً اياه معه عندما عاد نهائياً ليستقر في بيروت.

صباح والدتي الباكر يبدأ مع الراديو الذي بعد بث النشيد الوطني، يعلن المذيع بصوته الجهوري “هنا إذاعة لبنان من بيروت والساعة فيها الآن السادسة من صباح كذا… نستهل البث بأغنيات منوعة من ألحان الأخوين الرحباني”. تحتسي الوالدة قهوتها سريعاً على وقع اغنية لفيروز، لتذهب بعدها إلى اسرّتنا في محاولة لإيقاظنا، نحن أولادها الذين ما زلنا في صفوف المدرسة الابتدائية. تقول لنا مُحذِّرة؛ “يلا يا ولاد فزّوا على إجريْكم أحسن ما تتأخروا عن الاوتوكار…”، ما تلبث أن تعود إلى المطبخ لتحضير الترويقة. 

تلك الدقائق المعدودات التي ما زالت عالقة في ذاكرتي، وأنا على سريري عالق بين نوم واستيقاظ غير أكيدين، إذ تصل إلى غرفة نومي غيمة أثيرية لرائحة البيض المقلي ممزوجة مع صوت الراديو لمذيعة الفترة الصباحية ناهدة فضلي الدجاني. صوت ناهدة الدافئ والعميق يقول من شِعر نزار قبّاني كلمات لا أفهمها : “سمراءُ/ صُبّي نهدك الاسمر في دنيا فمي/ نهداكِ نبعٌ/  لذَّةٌ حمراء تُشعِلُ لي دمي”. كلماتها كانت تدخل الأُذن كسِحرِ النعاس والحلم، في حين انّ رائحة البيض المقلي بالزبدة المحروقة، وكما تحبها أمي، تستفز الأنف لتبعث في جسدي اليقظة والنشاط. كانت أمي بحركة واحدة منها تُزيل الغطاء عن جسمي الصغير والمُتكور في السرير لإنهاء هذه اللذة المستقطعة. لذة أحلام شبِقة متأتية من الرائحة ممزوجة بصوت امرأة دافئة وساحرة اسمعها من دون ان اراها.

مين لِعِبْ بالراديو 

كان والدي قد حظي بالراديو خاصته هدية من جدي ابي خليل الذي عاد في اول السبعينات من هجرته الطويلة إلى افريقيا ليستقر في وطنه الأم. راديو والدي كان أكثر تطوراً من راديو والدتي وأصغر حجماً، إذْ كان يتمتع بخاصية العمل على الكهرباء والبطاريات الجافة معاً، عدا تمتعه بدقة الانتقال بين الموجات الراديوية القصيرة المدى والمتوسطة والطويلة على السواء. وازدان بدنه المعدن اللماع بالكثير من المفاتيح ورُسمت على شاشته الكبيرة خريطة مُنبسطة للعالَم بحيث تتحرك إبرة تغيير المحطات مُتنقّلة على خلفيّة هذه الخريطة موحية بالانتقال من بلد الى آخر. استقر راديو والدي الجديد على مكتبه المُرتب والأنيق محاطاً بكتب الرياضيات وأوراق تصحيح فروض تلاميذه الكُثر. كان لا يحب الاستماع إلى نشرات الأخبار في الإذاعات، بل يُثبِّت إبرتَهُ على محطة كانت تُكثر من بثْ الموسيقى الكلاسيكية. من المُرجح أن تكون اذاعة صوت اميركا او اذاعة الهيئة البريطانية من لندن. كان ممنوعاً علينا نحن الأولاد في البيت أن نلمس هذا الراديو. وعندما كُنّا نخاطر بفعلتنا كان يصيح بنا غاضباً؛ ” مين لعب بالراديو…”، حينها كانت الوالدة، وبقصد حمايتنا من القصاص ترد عليه؛ “يمكن انا مسّحت الغبرا عنو…”!

حرب اليومين بين إذاعتين

في 16 أيلول/ سبتمبر 1972، كنا نُقيم في بيت جدي الصيفيّ في قرية السُلطانية الجنوبية حدث هجوم إسرائيلي مُباغت على جنوب لبنان. استيقظ الجميع باكراً على صوت أزيز الطائرات المُغيرة. كان على الجميع النزول بسرعة إلى أسفل البيت للاحتماء. والدتي انزلت بمساعدة والدتها طنجرة الحليب مع الكعك للترويقة. افترش الجميع الارض. جلست انا بجانب والدي الذي جلب معه جهاز الراديو الجديد في محاولة لفهم ما يحصل في الخارج. أدار الراديو مُثبتاً إبرتَهُ على إذاعة لندن التي كانت لحظتها مشغولة ببث موسيقيّ ما لبث أن انقطع فجأة ليعلن المُذيع عن اشتباكات تحصل على الحدود الجنوبية من لبنان بين جيش الدفاع الإسرائيلي وبين مجموعة من المُخرّبين الفلسطينيين. نهَرَ الجدُّ صهره مطالباً بتغيير هذه المحطة الاذاعية فوراً قائلاً بغضب: “هدول الإنكليز أعداء العرب باعوا ارض فلسطين لليهود وشحّرونا كلنا سوا”…انصاع الوالد ليُعيد تثبيت جهازه على إذاعة صوت العرب من القاهرة التي كانت ايضاً تبث الأغنية الحماسية الأشهر وقتها “وطني حبيبي وطني الاكبر يوم ورا يوم أمجادهُ بتكبر”، ليأتي بعدها صوت المذيع صارخاً: “إنه يوم النصر يا عرب… فلول العدو الإسرائيلي الغاصب تتراجع وتنهزم أمام ثلة من الأبطال الفدائيين، هُبّوا الى ساحات القتال، فلسطين صارت على بُعْدِ أمتار” .

 بعد فترة وجيزة استعادت الوالدة زمام المبادرة مُطالبة زوجها بالإذاعة اللبنانية فلبّى الزوج طلبها، واضعاً جهاز الراديو على رُكبتيّ، ومُنهياً بذلك مسؤوليته عنه. بحذر شديد نقَّلْت الابرة يميناً ويساراً إلى أن عثرت على صوت يتكلم بلغة غير مفهومة، فصرخت خالة أُمي سُكنة: “يا مشحّرين شوها عبراني، سكِّرلو بوزو لهل المئزوع الرئبة”. تساعدني الوالدة لألتقط موجة إذاعة لبنان من بيروت وقد اختفى عن اثيرها الصباحي صوتي الثنائي ناهدة ونهاد، وحلّ محلهما موسيقى المارشات العسكرية يقطعه بين الفيْنة والاُخرى صوتاً حديدياً صدئاً يعلن عن البيانات العسكرية للجيش اللبناني: “يتصدى الجيش اللبناني ببسالة إلى اعتداءات الاسرائيلية في محاولة منه للدخول الى المخيمات الفلسطينية في منطقة الرشيدية والبرج الشمالي… تتقدم آليات العدو على خطين، الاول بين عين إبل وصفِّ الهوا، والثاني بين عيترون وبنت جبيل… في حين تتمركز قوى الجيش اللبناني على محوريّ تبنين- السلطانية وصفد البطيخ – السلطانية، وتشتبك مع العدو الذي قصفها بالطائرات فاصيبت احدى دباباتنا بقذيفة نابالم أحرقتها مع طاقمها المؤلّف من ثلاثة عسكريين استشهدوا في سبيل الدفاع عن ارض لبنان وهم: الرقيب طانيوس مرعي والعريف مهنّا سعسوع والجندي الأول فيليب سلوم…”. 

ما حدث في 16 أيلول 1972، دام يومين فقط، فكان أكثر من اشتباك وأقل من حرب. اعتقد أن قِلّة قد تتذكْر شيئاً من هذين اليومين وما حصل خلالهما من  تفاصيل الدمار والموت وهروب الناس خائفين من قراهم. امّا أنا، وقد تمنيت لو ان الحرب تطول لأيام، فأكثر ما أتذكره جهاز الراديو السحري وأنا أحضنه بشغف، مُنقِّلاً إبرته من محطة إلى أُخرى وكأنني أطير على بساط الريح من عالم الى آخر، غير عابئ بمواقف اذاعاته السياسة المتناقضة حول الحرب وانتصاراتها وهزائمها. أغنية وحيدة صدحت من محطة اذاعية مجهولة المصدر مازالت تذكرني بذاك النهار الطويل وتقول كلماتها: “وصلو الحلوين الحلوين وقعدو بالعلوي/ وشفنا لي كِنّا من سنين بعرفها حلوي/ شو كانت حلوي وشو بعدها حلوي/ تاري يا ألبي الحلوي بتضلها حلوي”. بعد سنوات طويلة عرفت ان هذه الاغنية من ألحان وكلمات الاخوين رحباني وغناء ايلي شويري.

حروب في الراديو

السنوات الخمس الأولى من السبعينات شهدت على أحداث كثيرة منها موت الجد عام 1973 الذي لم تُعلِن عنه أي إذاعة، في حين أنّ حرب أكتوبر بين العرب وبين إسرائيل ضجّت بها الإذاعات وتناقلت أخبارها كثيراً مع انتشار واسع للراديو الترانزستور والذي أصبح بمقدور الطبقة المتوسطة اقتناءه. البعض اعتبر حرب أكتوبر 73 انتصاراً تاريخياً للعرب على إسرائيل، أما البعض الآخر صنّفها في خانة المغامرة غير المحسوبة والتي أدت إلى هزيمة للعرب واحتلال اراض عربية جديدة من قبل إسرائيل.

في بيتنا أصبح لأخي الكبير راديو خاص به. أبي حافظ  على جهازه المتين، في حين أنّ أمي استبدلت الراديو الأول بآخر جديد، مُوَثقة علاقتها به لأقصى الحدود. صار كالصديق الوفي يتنقل معها أثناء أداء عملها المنزلي اليوميّ من غرفة إلى أُخرى، مُعلنة للجميع عن كونه من أسباب بهجتها الدائمة ومُهجة روحها للتغلب على قساوة العمل المنزلي وروتينه المُضْني. أمّا انا فورثت عنها الراديو الاول بعدما أصابه عطل مجهول أخرسه إلى الأبد، فعمدت إلى فرط أجزائه إلى قطع صغيرة مُحتفظاً بهم في صندوق كرتونيّ خاص، وواعداً بأنّ يوماً ما سأعيده إلى الحياة صادحاً.

بدأت الحرب الأهلية اللبنانية في ربيع 1975، وتبين أن لا أفق لتحقيق هذا الوعد الذي قطعته على نفسي، في وقت كان كل شيء قد بدأ بالتغيّر والتحول. جسدي بدأ ينمو والشَعر بدأ يغزو وجهي واطرافي، في حين أنّ الموت قد أدرك كثيرين، ومنهم جمال عبد الناصر وجدي ابو خليل وأم كلثوم والقومية العربية. الوطن دخل رسمياً في الحرب الأهلية وبدأ بالتفكك أكثر فأكثر بعد كل جولة معارك بين الميليشيات اللبنانية المسلحة. بيروت انقسمت، واحدة شرقية وأخرى غربية. الجيش الذي قاتل إسرائيل انقسم على نفسه مذيعاً بيانات رقم واحد من إذاعة انقسمت أيضاً

ناهدة فضلي الدجاني المذيعة الأشهر والشاعرة الفلسطينية الأصل هاجرت إلى خارج البلاد، بعد فقدانها الأمل في استعادة أرض فلسطين. فاختفى صوتها عن اثير الاذاعة اللبنانية، في حين ظهر بقوة صوت المذيع شريف الاخوي ليكون دليلاً موثوقاً لعبور المواطنين العُزّل الشوارع السالكة بين البيروتيْن، ومُنقذهم من مخاطر القصف والقنص المفاجئين على خطوط التماس. الفرقة الموسيقية الكبيرة للإذاعة اللبنانية تفككت أوصالها واختفت لجنتها الفنية المُشْرفة على الإنتاج الموسيقي في لبنان. وسرقت أجزاء مهمة من الأرشيف الموسيقي والغنائي للإذاعة اللبنانية.

وحْدُهُ جهاز الراديو واصل التطور والتحول والانتشار في طول البلاد وعرضها، موقّعاً أوراق ارتباطه بتكنولوجيا التسجيل والاستماع للشريط المغناطيسي (الكاسيت). في أواخر السبعينات أصبح جهازيّ التسجيل والراديو معاً روحيْن في جسد واحد.

في الحرب بدأت الإذاعات الخاصة بالنشوء. ففي النصف الثاني من السبعينات ظهرت إذاعة مليشيا المرابطون المُموّلة من المنظمات الفلسطينية وتحمل اسم “صوت لبنان العربي”، رافعة لواء الناصرية ومُرددة لأقوال قائدها عبد الناصر المتوفّى “ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة”… بيد انّ القاطنين من سكان منطقة المزرعة  في بيروت الغربية كانوا يعرفون أن قوة المرابطون كانت محصورة فقط بين شارعيّ التمليص وابو شاكر في المنطقة عينها. أما نشيدهم المُفعم بالحماسة القومية، وبه تبدأ الإذاعة بثّها الصباحي، فكان كُثُر منّا، وبهدف الحصول على جرعة من المرح، يستبدلون كلمة “مرابطون” في النشيد بأي كلمة أُخرى على وزن مُفعِّلون. 

في صيف 1978، ظهرت إذاعة لبنان الحر كمحطة مواجِهة ومنافِسة للأولى. كُنا في البيت نتقصى الخبر الدقيق من ملاحق أخبارها حين يشتد القصف العشوائي فنَلوذُ مُحتمين في ملجأنا الآمن. وأذكر جيداً أن معرفتي ازدادت كثيراً بالاغنية اللبنانية عبر الاستماع إليها. إلا أنّ الملفت في موضوع المنافسة بين الإذاعتين المواجهتين، أنه تخطى  اخبار المعارك والتحليلات السياسية، ليذهب الى الثقافة والاغنية تحديدًا،إنما بشكل هزَلي فولكلوري.

 فحين كانت المعارك العسكرية تجري على أشدها بين المُتحاربين، تبدأ الاذاعتين المذكورتين ببثّ متزامن لمقاطع من مسرحيات غنائية للأخوين الرحباني، وعلى وجه الخصوص مسرحية “جبال الصوان” أو “أيام فخر الدين”. كان ينتج عن ذلك الأمر فصام لشخوص المسرحية ذاتها، فيولد “فاتكان” بدل “فاتك” واحد و”غِربتان” بدل “غربة” واحدة . 

كانت الاذاعتين، ومن يقف خلفهما وجمهورهما من المُستمعين، يدعون امتلاك الحقيقة كاملة والحقَّ بلبنان.

 وقتذاك لم تكن فكرة اليوتوبيا اللبنانية كما تخيّلها الرحابنة واتكأ عليها أصحاب نظرية “الأصل الفينيقي”، قد نضج سقوطها في وسط الإنتلجنسيا المسيحية في حين أن النخبة الإسلامية كانت ما زالت تدغدغها أحلام الوحدة العربية برغم هزائمها المتتالية. أمْا اليسار اللبناني فكان قد بدأ يُبشّر بسقوط الحُلميْن، إلا أن البديل الممكن لم يكن من ضمن إمكانيات مُخيّلته على التصوّر، ولم يكن طوع يديه المُكبّلتين بشروط تحالفاته العربية والدولية.

عقد الثمانينات شهد انتشاراً واسع النطاق للمحطات الإذاعية. ظهرت إذاعة “صوت الشعب” بتمويل من الحزب الشيوعي اللبناني، وإذاعة “صوت الجبل” بتمويل من الحزب التقدمي الاشتراكي.  بعض الإذاعات التي حملت طابعاً دينياً أو ايديولوجياً في حين كان بعضها تجارياً بطابع ترفيهي. فكان هذا دليلاً قوياً على انتشار الراديو كجهاز شعبي بمقدور أي فرد، ومهما كان دخله المادي، أن يمتلكه. وكان ومؤشراً على أن الإعلام الإذاعي أصبح يلعب دوراً فاعلاً في مجمل نواحي الحياة.

تحول الجميع في البيت استماعًا الى اذاعة “صوت الشعب” التي يفتتح نشيد الأممية بثْها الصباحي في اشارة الى ان عهد “الأممية” قادم لا محالة، ومعه سيبزغ فجر جديد تسوده العدالة الاجتماعية وتتحقق المساواة بين البشر. لم يطل الأمر بنا لنكتشف انّ الانتظار قد يطول الى ما بعد ظهور المهدي و عودة غودو مترافقيّن في سيارة واحدة. وقد اتضح لنا فيما بعد بأن الرفيق رضا، الشخصية الافتراضية التي تُناجيه الإذاعة يومياً، هو الوحيد الذي ما زال منتظراً.

اقتنيْت أول راديو/ كاسيت في منتصف الثمانينات، عندما تقرر مشروع سفري الى الخارج بهدف الدراسة. كان مستطيل الشكل، أحمر اللون وماركته سوني الشهيرة. انقطعت صلتي بالراديو ومحطاته الإذاعية طوال فترة دراستي في كييڤ/ الاتحاد السوفياتي. لا اعتقد أن السبب في ذلك يعود الى اللغة، إنما لكون هذا البلد الموصوف بالتوتاليتارية لم يكن يُعبِّر في إعلامه، إلا عن وجهة نظر واحدة للامور والاحداث، فأمسى من لزوم ما لا يلزم. 

توقفت الحرب الاهلية في لبنان قبل عودتي إليه نهائياً بأربع سنوات. كان الراديو قد بدت عليه علامات الشيخوخة، على رغم إضافة مُشغِّل الاسطوانة المضغوطة كعنصر تكنولوجي جديد على بدنه، ليُضرب به المثل القائل “ثلاثة بواحد”. من المؤكد انّ جهاز التلفزيون قد أخذ شيئاً من وهجه وشعبيته او لربما يعود السبب في الناس وعلى اختلاف انتماءاتهم وسأمهم من الحروب العبثية والمدمرة التي أمسى المذياع رمزاً من رموزها، فتحولوا إلى التلفزيون.

الثورة الرقمية وتكنولوجيا الانترنت أعادتا شيئاً من الألق للراديو بعد فتور دام سنوات. فها هي اجهزتنا الخلَيوية تبث لتطبيقات حديثة للراديو وفيها تظهر برامج البث ومضامينه مُصنَّفة تحت عناوين كثيرة لانماط موسيقية متعددة ولحوارات واحاديث متنوعة. كما وصل حجم الراديو إلى حدود متناهية في الصغر.

ظل جهاز الراديو محل تقدير وإعجاب كبيرين عندي، وواصلت عادة الإنصات والاستماع إليه متى استطعت إلى ذلك سبيلاً. ومع اقتنائي لأول سيارة أصبحنا رفيقي دربٍ واحدة يُعينني على مشقّات القيادة في شوارع متهالكة ومحطمة وبين سائقين متهورين ونزقي الطباع. 

لم يكن المُخترع الإيطالي ماركوني، مُكتشف الموجات الكهرومغناطيسية ومخترع أول جهاز لا سلكي، وجهازي الراديو والإذاعة عام 1920، ليعلم بأن اختراعه سيكون كرة ثلج تكبر لتطاول مجمل النشاط الإنساني، وتؤسس لذاكرات كثيرة لا تُحصى على صعيد الفرد والمجتمع.

فمن أجل كل ذلك أُردد: يحيا الراديو… يحيا الراديو، يا بهجة الروح ومُهجة الذاكرة، خُذني للوصال.