fbpx

جرحى احتجاجات تشرين ضحايا رصاص الميليشيات وإهمال الدولة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“كان اسمي ضمن قائمة المقتولين بسبب خطورة إصابتي، فالجميع كان يظن بأنني انتهيت”… بلغ عدد القتلى 740 قتيلاً على مدى عامين من التظاهرات التي قوبلت من قبل أفراد في اجهزة امنية ومسلحين من فصائل في الحشد الشعبي بالنار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يتصور عادل فضل (17 عاما) أن يجد نفسه يوماً حبيس كرسي متحرك، وهو الذي كان يقضي ساعات طوال راكضاً في ساحات مدينة الناصرية جنوبي العراق، وهو يلعب كرة القدم. لكن مسلحاً ملثما غير حياته، خلال إحدى التظاهرات المطالبة بالاصلاح والتي شهدتها المدينة، برصاصة بندقية أقعدته.

حدث ذلك في 26شباط/فبراير 2021، يومها كان قد خرج للتو من منزل المدرس الخصوصي مع زملاء له حينما تلقوا خبر وقوع اشتباكات بين محتجين والقوات الأمنية في ساحة الحبوبي فتوجهوا إلى هناك من فورهم.

“كانت الفوضى تسود الساحة ورأيت جرحى وقتلى ملقون على الأرض، فيما الرصاص الحي والقنابل الدخانية تنهال بشكل كثيف. سقط متظاهر كان بجانبي انحنيت لأحمله وما أن رفعت رأسي حتى وجدت نفسي بمواجهة الموت”. يقول عادل وهو يغمض عينيه: “لم يكن يبعد عني أكثر من 15 مترا، رفع سلاحه في وجهي وأطلق النار علي، فسقطت مضرجاً بدمائي”.

شهدت غالبية مدن الجنوب العراقي ذات الغالبية الشيعية، بين نهاية 2019 ومنتصف 2021، احتجاجات شعبية شارك فيها مئات الآلاف رافعين شعار المطالبة بإزاحة الطبقة السياسية الحاكمة ومحاسبة الفاسدين.

وكانت الناصرية واحدة من أكثر بؤر الاحتجاج سخونة، حيث تعرض متظاهروها إلى العديد من الهجمات الدامية ومحاولات إزالة خيم الاعتصام، غالبيتها شنت من قبل أفراد في الأجهزة الأمنية وعناصر مسلحة تابعة لفصائل في الحشد الشعبي، وسقط خلالها مئات المحتجين بين قتيل وجريح.

في ذلك اليوم بقي الشاب عادل مرمياً على الأرض وسط إطلاق النار، قبل أن يحمله متظاهرون وينقلونه بواسطة(ستوتة)عربة تكتك، الى مستشفى الحسين التعليمي الذي كان قد استقبل قبله عشرات من المصابين امتلأت بهم صالات العمليات.

لنحو ساعة، ظل عادل ينزف دون حراك، في انتظار أن تفرغ احدى الصالات. يبتسم وهو يقول “كان اسمي ضمن قائمة المقتولين بسبب خطورة إصابتي، فالجميع كان يظن بأنني انتهيت. كنتُ أسمع ما يدور حولي من كلمات عزاء دون أن أتمكن من الحراك، قبل أن يقول أحد الأطباء وهو يتفحصني بأنني حي، وأمر بنقلي إلى أول صالة عمليات فرغت”.

أصابت عادل رصاصتان، وأجريت له خلال ثلاثة أيام تسع عمليات لاستئصالهما ومعالجة الأجزاء المتضررة من جسده بسبب النزيف. خسر في النهاية احدى كليتيه وجزءاً من الطحال والكبد، وأصبح أسير اعاقة دائمة وآلام لا تفارق جسده.

بكلمات متقطعة ويدين مطبقتين على بعضهما، يكمل عادل :”منذ ان أفقتُ من العملية الأولى، راودني شك بأنني لن أسير على قدمي مجدداً، وزادت شكوكي حين تواصل أبي مع مستشفيات خارج البلاد أثناء تواجدي في مستشفى الحسين. كان يعلم بخطورة حالتي”.

بلغ عدد المصابين من المشاركين في احتجاجات تشرين 2019 في محافظات وسط وجنوب العراق، بحسب منظمات مدنية واحصائيات حكومية، أكثر من 17 الف مصاب بينهم أكثر من ثلاثة آلاف تسببت إصاباتهم بإعاقة جسدية دائمة.

يحني رأسه ويتابع بصوت أعلى: “كنت أشعر بنوبات اختناق شديدة، فنقلتني العائلة إلى مستشفى زين العابدين في كربلاء واكتشف الأطباء هناك أن السبب يعود للدماء التي ملأت رئتي.. دخلتُ معها في دوامة آلام عمليات تنظيف الرئتين، ظلت رئتاي تمتلئان بالدماء ويتم تنظيفها يومياً لمدة 15 يوماً”.

في يوم إصابة عادل، ودعت الناصرية ستة قتلى الى مقابر النجف حيث يدفن ابناء المكون الشيعي، بينما امتلأت المستشفيات بأكثر من 250 مصاباً من المتظاهرين والقوات الأمنية، يعاني الكثير منهم إلى اليوم من مشاكل صحية وإعاقات غيرت كل تفاصيل حياتهم.

يصف عادل تلك الأيام بأنها “الأسوء في حياته”. خرج بعدها الى المنزل ليتلقى العلاج هناك، ثم عرف بحقيقة حالته. “سألت المضمد الذي كان يزورني لتنظيف جروحي، عن سبب عجزي عن تحريك ساقيَّ فأخبرني بأن احدى الرصاصتين اصابت عمودي الفقري واضرت بالحبل الشوكي”.

بعد الحادثة بشهر واحد، ومع وعود الحكومة بعلاج جرحى التظاهرات ممن يعانون من إصابات معقدة، حاولت عائلة عادل الحصول على موافقات “الإخلاء الطبي” الخاصة بعلاجه في ألمانيا، لكن محاولاتهم باءت بالفشل بسبب ضوابط وزارة الصحة التي لم تعد إصابة عادل تستحق السفر.

بعد محاولات عديدة، جاءت في نيسان أبريل 2022 موافقات العلاج والسفر الى المانيا مع عدد آخر من جرحى تظاهرات تشرين الذين لم يجدوا علاجاً في المستشفيات العراقية.

وهناك علم عادل إن رحلة علاجه قد تستمر لأكثر من خمس سنوات، وأن تشخيص حالته كما “خطة علاجه” تختلف تماما عن تلك التي زودته بها المستشفيات العراقية.

رفضت وزارة الصحة خطة العلاج المقترحة من اللجان الطبية الالمانية، ليدخل الفتى مجددا حالة الانتظار على كرسيه المتحرك، وهو يرى تحطم آماله بالعودة للحركة.

بلغ عدد المصابين من المشاركين في احتجاجات تشرين 2019 في محافظات وسط وجنوب العراق، بحسب منظمات مدنية واحصائيات حكومية، أكثر من 17 الف مصاب بينهم أكثر من ثلاثة آلاف تسببت إصاباتهم بإعاقة جسدية دائمة.

 بينما بلغ عدد القتلى 740 قتيلاً على مدى عامين من التظاهرات التي قوبلت من قبل أفراد في اجهزة امنية ومسلحين من فصائل في الحشد الشعبي بالنار.

ما واجهه عادل، حصل مع ناشطين آخرين سافروا إلى ألمانيا في نيسان/ أبريل 2022 ضمن مجموعة واحدة ضمت 12 جريحاً، لكن رحلة علاجهم هناك تعطلت وواجهوا بعدها ظروفا صعبة أدت الى عودة سبعة منهم.

 في حين أن آخرين لم يحظوا حتى بفرصة السفر تلك بحجة عدم خطورة حالاتهم. آخرون أرسلوا الى الهند وتركيا في رحلات علاجية لاحقة، لم يحظ الضحايا في غالبيتهم بالرعاية التي كانوا ينتظرونها.

روتين القتل والإهمال

وعد العزاوي (21 عاماً) الذي تواجد في ساحات التظاهر ببغداد، وشهد الفصول الأولى لعمليات قتل المحتجين بالرصاص والقنابل الدخانية، أصيب بثلاث رصاصات، تسببت إحداها بشلل في ساقيه.

كان الشاب الذي يملك عينين ناعستين وجسداً نحيلاً يعمل عامل توصيل في أحد مطاعم بغداد ويعيش بمفرده في منزل صغير مستأجر إذ إن والداه توفيا منذ زمن. أحلامه بتحسين واقع البلد وإنهاء الفساد دفعته مبكرا إلى المشاركة في التظاهرات. لكن هجوم مليشيا كتائب “حزب الله” يوم 4\12\2019 على جسر السنك، أنهى مسيرته الاحتجاجية.

يقول “يومها أطلق ملثم رصاصتين علي، كان على بعد 30 متراً تقريباً، الاولى استقرت في ظهري والثانية في ساقي. حين سقطت اقتربت مني ستوتة، فألقيت بجسدي داخلها، لكن المسلح بدا مصراً على قتلي فأطلق رصاصة أخرى نحوي، استقرت في رأسي”.

نقل وعد الى المفرزة الطبية في ساحة التحرير وسط العاصمة، ومن هناك أقلته سيارة إسعاف إلى طوارئ مستشفى مدينة الطب، وبعد تدخل جراحي أنقذ حياته كان يحتاج إلى دخول العناية المركزة لكنه اضطر للانتظار ستة أيام لعدم توفر سرير شاغر.

مع تفاقم اصابتي الرأس والظهر، والأخيرة أضرت بعموده الفقري وحبله الشوكي وسببت له الشلل، نقل إلى مستشفى زين العابدين في كربلاء. يقول وعد “كان من المفترض أن يجروا عملية ترميم للعمود الفقري فور إصابتي لكي أستطيع المشي مجدداً، لكن الأطباء اعتقدوا باستحالة نجاتي”.

ظل الشاب ثلاثة أشهر في مستشفى زين العابدين، قبل أن يخرج الى منزله مع آلام لا تفارقه، ليسافر بعد نحو سنة من اصابته وعبر تنسيق من وزارة الصحة الى الهند، وهناك اقترح الأطباء زراعة شريحة تضخ مادة المورفين المسكنة وتخفف من ألمه لكن وزارة الصحة رفضت دفع تكاليف الشريحة بحجة أنها غير مفيدة لحالته.

عاد بعدها وعد الى بغداد مع آلامه وشلل محبط وأحلام محطمة. يقول بغصة في نبرة صوته “بعدها بأكثر من سنة قابلت رئيس الوزراء وحصلت على موافقة خطية منه لعلاجي في ألمانيا وبالفعل سافرت مع 11 جريحاً آخرين، لكن تفاجأنا هناك بارسالنا إلى مركز لتأهيل الجرحى وليس مستشفى جراحي تخصصي كما أخبرونا”.

يحرك كرسيه المدولب الى الوراء قليلا ويشدّ بقبضتيه على أطرافه وهو يحدق في ساقيه، قبل أن يعود للكلام: “استقبلنا المركز عدة أيام، ثم تعذر بقاؤنا هناك لعدم تخصصه بعلاج حالاتنا، وبقينا في الشارع ليوم ونصف، بعدها انتقلنا الى فندق بتنسيق من السفارة العراقية وتوجهنا للعلاج الى مستشفى آخر، وكما حدث في الهند اقترح الأطباء زراعة الشريحة”.

يبدي الشاب مثل معظم رفاقه المنتظرين، استياءه من الروتين الحكومي في معالجة الجرحى “منذ سبعة أشهر وأنا أنتظر توقيع الوزارة بالموافقة. لمَ كل هذا التأخير هل يشعرون بما نشعر به من ألم؟… أعلم انني لن أمشي مجدداً لكني اريد تخفيف آلامي، هذا كل ما نريده منهم”.

يقول المحامي حمزة عيسى، الذي كان يرأس فريقاً تطوعياً للإغاثة الطبية له حضور فاعل في تظاهرات تشرين، إن أغلب الحالات التي تعامل معها فريقه وقاربت 600 حالة، كانت إصابات بطلق “بندقية صيد” وفي أماكن متفرقة من الجسم لكن جميعها كانت إصابات خطرة والكثير منها في مناطق حساسة كالعين والعمود الفقري.

يضيف: “كانت تصلنا مئات الحالات، والحصة الأكبر لمحافظة بغداد المركز الرئيسي للاحتجاجات، وكنت أتعامل مع الحالات الصعبة فقط لأعمار تتراوح بين 8 الى 23 عاماً”.

لكن عيسى اضطر لاحقا الى ترك تلك المهمة بعد تلقيه جملة تهديدات وصلت الى محاولات اغتيال نجا منها كما يقول “بأعجوبة”.

القتل بأيدي الأصدقاء

وإلى الجنوب من بغداد، في النجف المدينة المقدسة لدى الشيعة، حيث مرقد الإمام علي أبن أبي طالب، لم تكن مشاهد القتل غائبة أو مختلفة عما كان يجري في بغداد والناصرية. متظاهرون يقتلون في الشوارع على يد مجاميع مسلحة، يقال إنها تنتمي إلى أذرع السلطة الأمنية، وأحيانا على يد مجاميع أخرى في إطار صراع النفوذ بين القوى السياسية المسلحة. 

الشاب كميل، بالكاد كان قد بلغ الثامنة عشرة من عمره حين انضم الى مجاميع الدعم اللوجستي للمتظاهرين مقدماً الخبز الذي كان يعده بنفسه في فرن يعمل فيه. تواجد في الخامس من شباط/فبراير 2020 بمركز الاحتجاجات في ساحة الصدرين بمدينة النجف وسط أجواء أمنية متوترة، لحظة اختراق طلقة نارية رقبته ليصاب على إثرها بالشلل.

يقول الشاب النحيل ذو الوجه المائل للسمرة: ” ظهيرة ذلك اليوم، أتى شيوخ عشائر ووجهاء معروفون إلى الساحة وأخبرونا بأن القبعات الزرق في طريقها الى المكان بنية الصلح وإنهاء التصعيد الخطير الحاصل”.

والقبعات الزرق، فصيل تابع للتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، يضم أشخاصاً عادة ما يكونون مسلحين بعصي كبيرة وأسلحة بيضاء وأحيانا بأسلحة نارية خفيفة، ويرتدون ملابس موحدة في الغالب ويعتمرون قبعات زرق للاستدلال عليهم.

وكانوا يكلفون بمهمات محددة من قبل التيار كالتفريق بين المتظاهرين والقوات الأمنية، وأحيانا التدخل لحماية متظاهرين أو حتى استهدافهم وفق التعليمات التي تصلهم.

قبل إصابة كميل بيومين، كان عناصر القبعات الزرق قد فضوا اعتصاماً للطلبة في جامعة الكوفة بالرصاص الحي. لذلك علم المتظاهرون بأن عليهم التعامل بجدية معهم.

يتابع كميل منتقداً دور شيوخ العشائر: “نصحونا أن ندرأ الفتنة ونتصالح معهم، وحين خرجوا بدقائق جاءت جماعة القبعات الزرق وهم يحملون الورود في أيديهم، لكننا تفاجأنا بوجود آخرين خلفهم يحملون الأسلحة، طوقوا الساحة سريعاً وبدأوا بإطلاق النار على من رفض الانسحاب وفض الاحتجاج في الساحة”.

ويضيف كميل سارداً تفاصيل ما وقع في ذلك النهار، الذي حول الصدريين من متظاهرين يؤيدون الاحتجاجات الى سلاح بيد السلطة لقمعها: “لا ننسى ذلك اليوم الدامي، حرقوا خيامنا واحدة تلو الأخرى وقتلوا عشرة من المتظاهرين بضمنهم مهند القيسي الذي حُملتُ معه في ذات سيارة الإسعاف بعد إصابتي بطلقة في رقبتي وانفجار رمانة يدوية تحت ساقي”.

بقي الشاب غائباً عن الوعي مدة ثمانية أيام، وبعد أن فتح عينيه أدرك سريعا وضعه الصحي، وأخذ يجهش في البكاء “عرفتُ ذلك دون أن يخبرني أحد .. كنت فاقداً السيطرة على جسدي ولا اشعر بأي جزء منه”.

19 يوماً قضاها كميل في المستشفى مع شعور مرير بالعجز، قبل أن يخرج مضطرا أثر تفشي فايروس كورونا في المستشفى. ذات الفيروس أدى الى اغلاق المطارات حينها وحال أيضاً دون سفره للعلاج في الهند.

يقول وهو يزيح بأصابع يده خصلة من شعره الطويل الذي غطى جزءا من وجهه، بأنه واجه صعوبة في الحصول على تأشيرة سفر مع عودة حركة الطيران الى المطارات العراقية، وأن السفارة الهندية أبلغته بحاجته الى تدخل من وزارة الصحة العراقية ليتم تسفيره “لذلك قابل أبي وزير الصحة وحين علم باصابتي يوم 5 شباط بساحة الصدرين حولني الى اللجان الطبية في بغداد رغم أن الباقين حولوا، كلاً الى اللجان الطبية في محافظته”.

يفسر ذلك القرار بأنه انعكاس لسيطرة التيار الصدري على وزارة الصحة، سواء عبر مكتب الوزير أو الكوادر المتقدمة في الوزارة.

“عرقلوا سفري أكثر من مرة، لم أفهم لماذا؟ حتى همس في اذني أحد موظفي الوزارة بأن ملفي عليه علامة استفهام. فهمتُ بعدها ما يحدث، فوزير الصحة تابع للتيار ومن هاجمونا في ذلك اليوم يتبعون ذات الجهة”.

مع استمرار محاولاته نجح كميل أخيرا في الحصول على استثناء من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وسافر مع باقي الجرحى الى المانيا في نيسان ابريل 2022.

هناك أخبره الأطباء بأن لا علاج لحالته، وبالتالي فلا أمل له في استعادة حركته “اكتشفت أن جميع تقاريري الطبية كانت خاطئة وأنني بحاجة الى معجزة لكي أعود كما كنت”.

صنع في إيران

تنوعت الأسلحة التي استخدمت في مواجهة المتظاهرين في بغداد وباقي سوح الاحتجاج جنوبي البلاد، لكن ناشطين يرون بأن أكثرها فتكاً، كانت القنابل المسيلة للدموع والتي استخدمت بكثافة في الأسابيع الأولى لقمع المحتجين وإيقاع إصابات قاتلة.

أصابت إحدى تلك القنابل في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وجه حيدر مرجان (24 عاماً) مباشرة لينجو من الموت بأعجوبة، فمعظم من سبقوه قتلوا مباشرة، في حين انه تجاوز الموت لكن بندبة عميقة على وجهه .

 بلغ عدد القتلى 740 قتيلاً على مدى عامين من التظاهرات التي قوبلت من قبل أفراد في اجهزة امنية ومسلحين من فصائل في الحشد الشعبي بالنار.

الشاب الذي كان يعلم الموسيقى للأطفال، ويتردد على ساحة التحرير في بغداد ويحشد للتظاهر ضد الفساد، تسببت أصابته بكسر في الفكين وقطع في أعصاب العين وعضلات الوجه.

يقول “شعرتُ بالدخان يخرج من كل مكان في وجهي ورأسي، فقدتُ الوعي خمسة أيام وأفقتُ في مستشفى الكندي وأنا أرى بعين واحدة. من شدة الضرر في انسجة الوجه اصبتُ بالغرغرينا. ساعدني أصدقائي بجمع المال وسافرت فوراً الى الهند، بقيت هناك خمسة أشهر استطعتُ خلالها التخلص من الغرغرينا واستعادة جزء من وجهي بزراعة فك سفلي”.

عاد حيدر الى العراق وحاول استكمال علاجه خارج البلاد برعاية وزارة الصحة لكنه واجه الرفض. في إحدى المرات قال له أحد موظفي الوزارة “انت متظاهر ضد الحكومة وتريد منها عوناً! اذهب الى المنزل قبل أن ينجزوا الأمر ويقتلونك”.

“هربوني من المشفى بحاوية نفايات”

تؤكد شهادات لناشطين، بأن حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، لم تلتفت الى الثلاثة آلاف اعاقة التي خلفتها عمليات قمع تظاهرات تشرين 2019 وما تبعها، بل على العكس ، يقولون بأن عناصر الميليشيات لاحقت الجرحى في المستشفيات.

لم يرَ مهند باش (38 عاماً) أطفاله الأربعة منذ اكثر من سنتين لكنه يتلمس وجوههم ليتحسس ملامحهم ويستشعر مدى كبرهم، بعد أن أفقدته رصاصة البصر.

كان مهند يحشد للاحتجاجات ويقود أحيانا تظاهرات، كان آخرها يوم 17\2\2020 يوم أصابته بندقية صيد برصاصة في رأسه، أطلقها عليه واحد من عناصر الأمن الذين حاولوا منع التظاهرة.

في منتصف ذلك الشهر كان التيار الصدري، قد بدأ بتغيير سياساته وتحول من مشارك قوي في التظاهرات الى معارض لها. ورفع الصدريون خيامهم من ساحة التحرير يوم 16 شباط/ فبراير مقتنعين بأن ذلك سينهي الاحتجاجات.

في اليوم التالي جرت عدة تظاهرات لدعم المحتجين في ساحة التحرير، كانت إحداها تظاهرة طلابية قادها مهند مع عدد من أصداقه. وتوجه المتظاهرون من التحرير الى ساحة الخلاني القريبة حيث كانت قوات مكافحة الشغب بانتظارهم.

“ما أن دخلنا الى الساحة حتى بدأوا بمنعنا من التجمع، رأيت حينها أربعا من الجنود يهاجمون إحدى الطالبات ويضربونها ويقومون بسحلها فتدخلتُ لإنقاذها من بين أيديهم، لكن أحدهم وجه الي بندقية الصيد وأصابني في جبهتي، استدرتُ على الفور واعطيته ظهري فأصابني برصاصة أخرى في ظهري”.

سقط بعدها مهند ولم يشعر بشيء لكن عناصر مكافحة الشغب قاموا بسحله وضربه بالهراوات، بحسب رواية أصدقائه، قبل أن يتم تحريره من بين أيديهم وينقل الى مستشفى الشيخ زايد: “افقتُ في المستشفى دون أن أبصر، لكنني كنت أشعر بالفوضى من حولي، أخبروني بأن الأطباء شكلوا درعاً بشرياً لحمايتنا من ملاحقات عناصر الشغب الذين كانوا يبحثون عن نشطاء وقاموا بقتل اثنين من المصابين في المستشفى”.

لم يجد الأطباء متسعاً من الوقت لإخراج الرصاص من جسد مهند، بسبب ملاحقات مكافحة الشغب، فتم إيقاف النزيف وتضميده، ومن ثم تهريب مهند مع مصابين آخرين بواسطة حاويات النفايات الطبية الى مدينة الطب حيث ظل راقداً لتسعة أيام: “أخرج الطبيب الرصاص من رأسي ومن ظهري، وأعلمني بفقدي للبصر.. كان العتمة تطوقني .. هي تطوق روحي وأحلامي… لن أرى اطفالي يكبرون ولن أرى زوجتي واصدقائي الذين يتكفلون بمعيشتي منذ الحادثة”.

رفض مهند، كما يقول، الترويج لمعاملة العلاج خارج العراق على حساب وزارة الصحة “بسبب تسييس ملف الجرحى”.

اللجوء للقانون في مواجهة السرايا

ترك محمد جواد (37 عاماً) وهو ناشط آخر تعرض لإصابة شلت حركته، طفلتيه في مدينة النجف ليتوجه في نيسان/أبريل 2022 مع زوجته إلى ألمانيا بتنسيق من وزارة الصحة، لكنه الآن يسكن في فندق في العاصمة برلين على حسابه الخاص، على أمل أن تساعده منظمات ألمانية مختصة بعد أن رفضت وزارة الصحة تحمل تكاليف تصحيح الأخطاء الطبية التي ارتكبت بحقه في العراق.

محمد كان يعمل محاسباً في شركة تحويل مالي بمدينة النجف ويشارك بنحو يومي في التظاهرات في ساحة الصدرين مع اصدقائه، وتواجد باستمرار في خيمة اعتصام طلاب كلية الإدارة والاقتصاد، على الرغم من مخاطر مواجهة رصاص (الطرف الثالث) وهذه تسمية ظهرت إثر نفي أجهزة الحكومة كما المليشيات ضلوعها في إطلاق النار، فتم افتراض وجود طرف ثالث.

يقول “كنتُ وقتها افكر بابنتي التي تبلغ من العمر سنتين، وابنتي التي أنتظر ولادتها، اردتُ المطالبة بمستقبل أفضل لهما، لكن رصاصتين استقرتا في ظهري وحالتا دون استمراري في التظاهر. حصل ذلك مساء 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 حين هاجم مسلحون ينتمون لسرايا عاشوراء التابعة لقائد تيار الحكمة”.

كان محمد يحمل هاتفه ويصور الهجوم، حين انطفأت انوار الساحة واطلق سيل كثيف من الرصاص باتجاه المتظاهرين وكان نصيبه منها رصاصتان أضرتا بالحبل الشوكي والفقرتين الخامسة والسادسة: “جرى نقلي الى المفرزة الطبية ومنها الى مستشفى الصدر، استقبلني الأطباء هناك وهمس أحدهم لي (انطق الشهادتين) ثم نقلوني الى الإنعاش الرئوي نتيجة تضرر رئتي، بعدها بأسبوع اجروا لي عملية لاستخراج الرصاصتين وتثبيت الفقرات”.

خطورة وضع محمد الصحي، دفعت عائلته للتخطيط لنقله الى تركيا أو الهند، لكن الأطباء رفضوا ذلك لأن حالته لم تكن تحتمل السفر، فنُقل بسيارة اسعاف الى مستشفى الكفيل في كربلاء، وهناك أجريت له عملية استسقاء الحبل الشوكي لكنها لم تنجح وتسببت له بشلل نصفي في الجهة اليمنى.

مع المضاعفات التي تعرض لها، ولحاجته للعلاج الدائم، اضطر المحاسب الذي كان يأمل بمستقبل أفضل إلى بيع سيارته وارض سكنية يملكها وإنفاق ثمنيهما على علاجه، في وقت تخلت الحكومة عنه، كما يتهمها.

هو اليوم ينتظر في ألمانيا حصوله ومن خلال منظمات مدنية على المساعدة التي تمكنه من إجراء العملية التي قد تعيد له الإحساس بالجهة اليمنى من جسده.

محمد الذي بات أسير كرسيه المتحرك وواقع حاجته الدائمة لمن يساعده، لم يمنعه عجزه عن المشاركة في التظاهرات، من القيام بما يستطيع لمواجهة من أرادوا قتله: “لجأت إلى القانون ورفعت دعوى قضائية ضد قادة سرايا عاشوراء. للأسف القضية لم تتقدم خطوة واحدة باتجاه محاسبتهم. أخذوا افادتي وقالوا لي اذهب وسنتصل بك”.

تتولى زوجة محمد رعايته وتعينه على الأكل والشرب والحركة، أما ابنتاه فيرعاهما أحد أشقائه في النجف، بانتظار حل يجمع شمله بهما.

تواصلنا مع وزارة الصحة العراقية، بشأن برنامجها لعلاج جرحى تشرين وأعداد من سيشملهم البرنامج والمعوقات التي تواجههم، لكنها لم تزودنا بأية معلومات عن تفاصيل ملف الجرحى، واكتفى المتحدث باسمها سيف البدر بالقول أن الوزارة “قدمت ما تستطيع وأن البيانات الصادرة عنها توضح كل ما يخص هذا الملف”.

وكان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قد تعهد مرات عدة بالقيام بكل ما يلزم من أجل معالجة ورعاية جرحى تشرين. ووعد في ٢٠ حزيران/يونيو 2022 خلال مقابلته عدداً من الجرحى بأنه “سيتابع ملفاتهم حتى بعد استكمال العلاج”، وأكد بأنه على استعداد “لتوفير العلاج أينما استلزم الأمر”.

يرى الناشط علي عباس أن أحلام شباب تشرين الذين ضحوا بحياتهم لتحقيق “حياة أفضل” تحطمت في ظل “تسويات وصفقات سياسية ووعود اصلاحية أبقت في النهاية كامل الطبقة الحاكمة منذ نحو عقدين باسم المحاصصة والمذهب والقومية” وفقاً لتعبيره.

يضيف الشاب الذي يدير منظمة صغيرة تهتم بالحراك الاحتجاجي :”لم تكتف باجهاض الحركة الاصلاحية، بل زرعت اليأس في نفوس شبابها عبر تشكيل حكومة عاجزة لم تستطع تحسين الخدمات والأمن ولا استعادة الدولة وهيبتها المفقودة، بل ولم تقم حتى بفتح ملف محاسبة القتلة ولا حتى الايفاء بوعود علاج وتعويض ضحايا القمع”.

يؤكد أكرم عذاب، وهو ناشط مدني يرافق واحداً جرحى تشرين في ألمانيا، أن “أغلب الحالات ساءت بسبب تأخر علاجها فجميعهم مضى على اصابتهم أكثر من سنة وهذا ما زاد من احتمال عدم شفائهم”.

ويضيف عذاب “خذلت وزارة الصحة الجرحى، رغم تخصيص خمس مليارات دينار لعلاجهم، اذ رفضت دفع تكاليف إجراء عمليات جراحية تساعد في شفائهم بالتدريج وتخفيف الآثار الجانبية للإصابات، ووجهت بدفع فقط تكاليف العمليات التي تُنتج شفاءً تاماً او تغييراً جذرياً وهذا محال بحسب ما ذكرته اللجان الطبية هنا”.

أنجز التقرير بدعم وإشراف شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية