fbpx

“سرقة القرن”: أغلب المبالغ المسروقة
لا تزال داخل العراق فهل يمكن استعادتها؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“تجارب السنوات السابقة مع ملفات الفساد تخبرنا بأن الأموال المنهوبة في غالبها ستتبخر، فلم نسمع خلال عقد ونصف من الزمن ومع عشرات ملفات الفساد الكبيرة أن هناك حوتاً واحداً تمت محاسبته… ستنتهي الأموال إلى دول الجوار وتغلق الملفات”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الساعة السابعة من مساء يوم 24 تشرين الأول/أكتوبر 2022، ألقت عناصر من الشرطة العراقية في مطار بغداد الدولي، القبض على نور زهير جاسم، المتهم الرئيسي في قضية سرقة نحو 2.5 مليار دولار أمريكي، من الأمانات العائدة للهيئة العامة للضرائب، وأنزلته من طائرة خاصة نوع Glex كانت تستعد للإقلاع به إلى تركيا.

الساعات التي سبقت الاعتقال كانت مشحونة في ظل تشكيك شعبي واسع بجدية التحقيقات، برز من خلال تعليقات آلاف العراقيين على وسائل التواصل  الاجتماعي بشأن الأخبار التي أفادت بقرب هروب المتهم الرئيسي وآخرين الى خارج البلاد، بعد أن نهبوا أموالا طائلة تمكنهم من بناء إمبراطوريات اقتصادية واعلامية وبالتالي تأثيرا سياسيا مستقبليا في سيناريو يتكرر في بلد يتصدر في العادة قائمة أكثر البلاد فساداً في العالم.

كانت محكمة تحقيق الكرخ الثانية قد أصدرت مذكرات قبض وتحرّ ومنع سفر ضد المتهم الذي يشغل منصب مدير مفوض لشركة “المبدعون” للخدمات النفطية المحدودة. وعبد المهدي توفيق مهدي المدير المفوض لشركتي “الحوت الأحدب” و”بادية المساء” المحدودتين. ومحمد فلاح عبد الله الجنابي، المدير المفوض لشركة “القانت” للمقاولات المحدودة. وحسين كاوه عبد القادر عبد العزيز البريفكاني، المدير المفوض لشركة “رياح بغداد” للتجارة العامة المحدودة. 

الهيئة العامة للنزاهة أصدرت في اليوم التالي لإفشال “محاولة الهروب التي كانت معدة بدقة”، بياناً أكدت فيه بأنها كانت وراء الجهود التي تكللت بالقبض على المتهم، بدءاً من تلقيها المعلومات والتحري عنها واستجلاب مذكرات القبض ومنع السفر القضائية. وعبرت في البيان عن أسفها لأن هناك من “بخس جهودها” في اشارة ربما الى بيان لوزارة الداخلية ولوزيرها عثمان الغانمي أكدت فيه الى القاء القبض على نور زهير وتسليمه الى هيئة النزاهة لاتخاذ الإجراءات اللازمة بحقه.

ولفت بيان النزاهة إلى أنَّ المدير المُفوَّض لشركة “المبدعون للخدمات النفطيَّة المحدودة” كان يروم مُغادرة العراق عبر مطار بغداد الدولي في “محاولةٍ منه للهروب من وجه العدالة”، فأوعزت الهيئة إلى مُمثِّلها في المطار بضرورة التحري عن المعلومة التي تتضمَّن نيَّته الهروب عبر المطار بطائرةٍ خاصةٍ إلى تركيا، والحيلولة دون تمكُّنه من ذلك.

وكان قانونيون ونواب متابعون للملف، قد تساءلوا عن سبب تأخر تعميم مذكرات القبض بحق المتهمين، وعبروا عن شكوكهم بوقوف “جهات نافذة تريد هروب المتهمين، لكي لا تكشف التحقيقات أدوارها” في الجريمة التي تطلب تنفيذها تنسيقا بين عدة مؤسسات عليا في الدولة. 

المتهم نور زهير جاسم في مكان التوقيف

وهكذا أوضحت هيئة النزاهة أن سماح موظفي المطار للمتهم بالدخول والقيام بإجراءات ما قبل السفر جاء لعدم علمهم بصدور مذكرة قبض بحقه، وهذا تحديداً ما أثار ردود فعل شعبية غاضبة اجتمعت على التشكيك بجدية الجهات الأمنية في ملاحقة المتورطين.

ولم يكد ينقضي نهار الثلاثاء 25 تشرين الأول/أكتوبر 2022، حتى تم الإعلان عن القبض على هيثم الجبوري، وهو رئيس اللجنة المالية السابق في مجلس النواب العراقي، ويشغل منصب المستشار الفني لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، كما كشف عضو هيئة النزاهة النيابية عبد الرحيم الشمري على تويتر: “مستشار رئيس الوزراء حالياً وعضو مجلس نواب سابقاً، معروض حالياً أمام المحكمة”.

خبير قانوني مطلع على ملف سرقة أمانات الهيئة العامة للضرائب، ذكر بأن أصل المشكلة بدأت من اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي، وتحديداً من رئيسها السابق هيثم الجبوري، لاقتراحه وإصراره في تموز/يوليو 2021 حصر التدقيق بالهيئة العامة للضرائب دون إشراك ديوان الرقابة المالية. 

وأن الديوان قام في ضوء كتاب وجهه، بمفاتحة مكتب رئيس الوزراء مؤيداً بدوره المقترح بموجب كتابه المرقم ١٢٧٧٢ في ٢٧-٧-٢٠٢١، وأن وزير المالية وافق بعد تدخلات وضغوط مورست عليه وفقاً لتعبيره، فتم الإيعاز بالصرف دون تدقيق الديوان.

الجهات الأمنية آخر من تعلم

يقول المحامي حسن علي لشبكة “نيريج”، أن أوامر منع السفر لم تكن قد وصلت الى المطار “وربما لولا المعلومات التي أعلنها نائب بالبرلمان وأثارها صحفيون ونشطاء على وسائل التواصل، لما عرف أحد بالأمر، ولغادر المتهم الرئيسي الى اسطنبول، هكذا وبكل بساطة، ليتسرب كنز المعلومات الذي يمكن أن يكشف هويات المتورطين الكبار”.

ويتابع:”هذا حصل في العديد من المرات السابقة، لكن ربما معجزة تحققت هذه المرة بخلاف المسار السائد حيث انكشفت محاولة الهروب”، مبينا أن “اختفاء المتهم كان سيريح الجهات المتورطة وحتى المناوئة لها في ظل مخاوف فتح الملفات المتبادلة ووسط صراع تشكيل الحكومة الجديدة وقيادتها”.

ودعا علي، كل الحريصين على إنقاذ الدولة من ما وصفه بصفقات إغلاق ملفات الفساد إلى “حماية حياة المتهمين وعلى رأسهم نور من أي محاولات تصفية”.

وكان عضو اللجنة المالية البرلمانية مصطفى سند قد نشر عبر حسابه الخاص على تويتر:”أن المتهم الأول نور زهير جاسم سيغار من مطار بغداد إلى مطار أتاتورك في إسطنبول بعد ساعة من الآن أي الساعة 6:30 وقت الإقلاع، على متن طائرة خاصة نوع GLEXK  تسجيل الطائرة T&MBH “.

قاضي أول محكمة تحقيق النزاهة نائب رئيس محكمة استئناف الكرخ الاتحادية ضياء جعفر لفتة، ذكر بأن عملية إلقاء القبض على المتهم نور زهير تمت وفقاً لإجراءات مسبقة متخذة بنحو سري، وأن قوة خاصة تابعة لوزارة الداخلية هي التي قبضت عليه بالتنسيق مع القضاء. 

وقال القاضي متحدثاً لوكالة الأنباء العراقية (واع) أن محكمة تحقيق الكرخ اتخذت عدداً من الإجراءات القانونية بحق أسماء تكرر ذكرها في التحقيقات من بينهم “مدير عام الهيئة العامة للضرائب، ومعاون مدير عام الهيئة، ومدير القسم المالي ومعاون مدير القسم المالي” وتم إصدار مذكرات قبض بحق أصحاب الشركات مع إجراء سلسلة من الإجراءات الاحتياطية”.

وأوضح ماهية تلك الإجراءات، بأنها تتمثل في وضع الحجز الاحتياطي على أموال المتهمين المنقولة وغير المنقولة وزوجاتهم وأولادهم، وأن التحريات المالية في مكاتب غسيل الأموال بدأت تسفر عن ظهور أموال تم وضع اليد عليها.

ولخص القاضي لفتة الجريمة أنها “قيام مجموعة من الموظفين باتخاذ إجراءات مخالفة للقانون لتسهيل عملية الاستيلاء على مبالغ الأمانات الضريبية من قبل المتهمين من أصحاب الشركات، وأن قيمة هذه المبالغ بشكل دقيق حتى الآن غير محصورة لكن لدينا تقرير أولي يوضح عدد الصكوك التي تم صرفها وهي 247 صكاً ويتم تدقيقها حالياً”.

كما أكد وضع اليد على أغلب الأموال التي سرقت من هيئة الضرائب، وأن أغلبها ما تزال داخل العراق، وأن هنالك رأس مال تم وضع الحجز الكامل عليه في أحد المصارف بالتنسيق مع البنك المركزي علاوة على العقارات الأخرى، منوهاً إلى أن المبلغ الذي هرب خارج العراق غير معلوم “كون قيمة المبلغ المهدور غير واضحة، وما تم الإعلان عنه هو قيمة المبالغ المصروفة”.

غضب شعبي من الكفالات

عبّر الكثير من العراقيين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام عن رفضهم لقبول محكمة التحقيق إطلاق سراح متهمين في قضية سرقة مبالغ أمانات الضريبة وعدها بعضهم تهاونا من قبل السلطات القضائية في المحافظة على المال العام. 

وذكر الباحث والناشط السياسي عادل كمال بأن المتهمين بالجرائم الكبرى لا يطلق سراحهم بكفالات، وقال: “الحديث هنا عن مليارين ونصف المليار دولار، فكم كان مبلغ الكفالة الضامنة ليطلق في ضوئها سراح بعض المتهمين؟، هل دفعوا مثلاً ثلاثة مليارات دولار ؟!”.

ثم استعاد كمال جديته، مشيراً إلى مواطنين متهمين بقضايا بسيطة جداً مقارنة بسرقة أموال الشعب البالغة ترليونات الدنانير، ومع ذلك يقبعون في التوقيف أشهراً وربما سنوات، وعبر هو الآخر عن خشيته بأن تسهل تلك الكفالات عملية هروب المتهمين إلى خارج البلاد وبالتالي ضياع الأموال التي سرقوها. 

وهذا ما ينفيه القاضي ضياء جعفر إذ قال بأن موضوع إطلاق سراح المتهمين بكفالة هي صلاحية تقديرية لقضاة التحقيق وخاضعة لرقابة المحاكم العليا وأن ثلاثة فقط من بين المتهمين الخمس في هيئة الضرائب قد أطلق سراحهم بكفالة.

فيما تم إيقاف مدير الهيئة ومعاونه في مركز شرطة الصالحية بالعاصمة بغداد، وكذلك تم إلقاء القبض على متهم آخر في إقليم كردستان (لم يدلِ بإسمة لكن يرجح أن يكون المتهم حسين كاوه عبد القادر عبد العزيز البريفكاني، المدير المفوض لشركة رياح بغداد للتجارة العامة المحدودة). 

كما أكد القاضي لفتة ما تم تداوله حول إصدار أمر استقدام بحق هيثم الجبوري رئيس اللجنة المالية البرلمانية السابق والمستشار المالي لرئيس الوزراء، بسبب “الكتب والتوصيات التي كان قد قدمها لحصر التدقيق بالهيئة العامة للضرائب دون تدخل من ديوان الرقابة المالية”.  وكان ذلك قد سهل للمتهمين عملية الاستيلاء على مبالغ الأمانات: “محكمة تحقيق الكرخ اتخذت الإجراءات القانونية بحق هيثم الجبوري وحضر إلى المحكمة بناءً على مذكرة الاستقدام ليتم استجوابه بشكل أصولي أمام المحكمة”. وتوقع أن تسفر التحقيقات ظهور أسماء متهمين جدد في القضية.

لكن تطمينات القضاء لا تجد الكثير من القبول. الباحث القانوني أسعد أحمد، الذي يصف ما حصل بالجريمة الكبرى التي تداخل فيها التزوير بالسرقة المنظمة وغسيل الأموال، يبدي خشيته من “ضغوط كبيرة” يجري الحديث عنها على المتصدين للملف.

ويقول “لا نعرف إلى الآن من يقف وراء (نور زهير) وبقية المتهمين، طرف سياسي نافذ كما يقول البعض، أم فقط مسؤولون كبار في المالية وهيئة الضرائب ومكتب رئيس الوزراء وفق ما يردده نواب من الإطار التنسيقي وخارجه؟”. 

بناءً على نتائج تحقيقات تم الإفصاح عنها، فإن المبالغ المسروقة وزعت على هذه الشركات على النحو التالي: شركة الحوت الأحدب للتجارة العامة محدودة المسؤولية (982)مليار دينار،  شركة رياح بغداد للتجارة للتجارة العامة محدودة المسؤولية(477)مليار دينار، شركة القانت للمقاولات العامة المحدودة(1،185)ترليون دينار، شركة المبدعون للخدمات النفطية المحدودة(433.15)مليار دينار، شركة بادية المساء للتجارة العامة محدودة المسؤولية(624)مليار دينار. 

الباحث الاقتصادي عبد السلام رؤوف، يقول بأنه كان يفترض أن تكون هنالك ثلاثُ مسارات في قضية مبالغ أمانات الضرائب، الأول مسار حكومي بتشكيل لجنة تحقيق ادارية يخضع لها المتهمون بالقضية من الموظفين وسحب يد أي متهم ورد اسمه فيها إلى حين انتهاء التحقيق “لأن الموظف المتهم قد يستخدم وظيفته لزرع أدلة أو إزالتها أو إضافة أو إتلاف أي وثيقة تتعلق بالتحقيق.

ويستدرك: “وهذا ما لم يفعله السيد رئيس الحكومة للأسف”.

أما المسار الثاني الذي يفترضه عبد السلام، فهو برلمانيٌ، من خلال تشكيل لجنة خاصة لمعرفة مراحل المسار الأول والإجراءات التي قامت بها الحكومة في هذه القضية. ويقول: “لا أعتقد بأن هناك لجنة قد شكلت بهذا الخصوص رسمياً”.

في حين يرى بأن المسار الثالث يكمن في التحقيقات القضائية، ويستغرب من أن القضية وعلى الرغم من أنها منظورة أمام القضاء منذ أكثر من سنة إلا أن أول أمر قبض متعلق بها صدر في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2022، أي قبل خمسة أيام فقط، وأن متهمين من الموظفين أطلق سراحهم بكفالة بعد تدوين أقوالهم، رغم أهمية القضية وحجم المبلغ المنهوب.

ويقول كذلك بأن توقيف المتهمين وفقاً للمادة 444/11 من قانون العقوبات حسبما أشارت هيئة النزاهة في بياناتها أمر يثير الريبة، لأن : “هذه المادة  تتعلق بسرقة، والموضوع والأفعال الجرمية التي قام بها المتهمون ليست سرقة فقط بل وتشمل جرائم متعددة تنظمها قوانين أشد مثل قانون مكافحة غسيل العملة وتمويل الإرهاب وقانون الإضرار بالاقتصاد الوطني والثقة المالية وقانون هيئة النزاهة والكسب غير المشروع وقانون اضافة الى النصب والتزوير وتأسيس شركات وهمية ودفع رشا وابتزاز”. 

ويرى عبد السلام أيضاً بأن المواد التي تم توجيه الاتهام للموظفين على أساسها، بعيدة كذلك عن الأفعال الجرمية التي قاموا بها “فالمادة 331 من قانون العقوبات لا تتناسب مع حجم الجريمة، القضية ليست اهمالاً وتقصيراً من الموظفين بل هناك عمل منظم ومرتب وبفترات زمنية لنهب المال العام باستخدام نفوذهم وصلاحياتهم”. 

وعبر الباحث الاقتصادي عن أمنياته بأن لا تنتهي القصة بـ”خيبة أمل جديدة للعراقيين، تضاف للخيبات الأخرى الكثيرة في  قضايا انتهت بالعفو أو بالمساومة أو أغلقت للحفاظ على فسيفساء الوطن” وفقاً لتعبيره. 

ذلك التشاؤم يكرره أصحاب شركات، تضررت أعمالهم نتيجة “سياسة الصفقات” التي تجري في البلاد، يقول أحدهم مفضلا عدم ايراد اسمه، ان “تجارب السنوات السابقة مع ملفات الفساد تخبرنا بأن الأموال المنهوبة في غالبها ستتبخر، فلم نسمع خلال عقد ونصف من الزمن ومع عشرات ملفات الفساد الكبيرة أن هناك حوتاً واحداً تمت محاسبته… ستنتهي الأموال إلى دول الجوار وتغلق الملفات”.