fbpx

الموت المنتشر بالعقاقير في اليمن:
تغول للأدوية المهربة والمزورة والمنتهية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في هذا التحقيق، تكشف “خيوط”، عن الأنشطة غير القانونية والخروقات التي تُرتكب في سوق الدواء اليمني وعن ضحايا تلك الأفعال. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

علاء الشلالي

يموت الآلاف من الفقراء في مختلف المناطق اليمنية ليس فقط من صواريخ وقذائف الحرب، بل لعدم حصولهم على ثمن الدواء في بعض الأحيان، وبسبب غلاء سعره في أحيانٍ كثيرة، أو لعدم تواجده كما هو حال بعض الأدوية الخاصة لمن يعانون من أمراض مزمنة ومستعصية، بينما يموت آخرون لعدم حصولهم على أصناف دوائية آمنة أو ذات جودة.

بالمقابل، تباع في الأسواق اليمنية أدوية مهرَّبة ومنتهية الصلاحية في الصيدليات والبقالات (محال بيع المواد الغذائية بالتجزئة) والمتاجر، على مرأى ومسمع من الناس، ومن السلطات الحاكمة شمالًا وجنوبًا، فلا رقابة ولا محاسبة لهذا القطاع الحيوي الذي يمسّ حياة البشر، والأدهى والأمَرّ أنّ معظم الأطباء في اليمن أصبحوا غارقين في صفقات بيع وتصريف الأصناف الدوائية، دون النظر للعواقب الصحية التي قد تصيب المواطن المغدور به، ولا حتى النظر لأمانة الطبيب العلمية وضميره المهني، وأصبحت الأدوية والعقاقير الطبية في اليمن سلعًا تجارية لمن يبحث عن الربح السريع، جعل هذا الواقع المأساوي في زمن الحرب -التي ما تزال مشتعلة حتى وقتنا الراهن- ضعافَ النفوس والجشعين من بعض التجار ورجال الأعمال، يتهافتون على استيراد وتصنيع أدوية رديئة الجودة في معامل تفتقد أبسط المعايير وتُسمّى مجازًا بالمصانع، بينما يمتلك تجّار آخرون مئات الشركات الخاصة لاستيراد وبيع الأدوية والمستلزمات الطبية لغرض الربح فقط، دون مراعاة للجوانب الإنسانية، ولا لاقتصاد الدولة ومصالحها.

في هذا التحقيق، تكشف “خيوط”، عن الأنشطة غير القانونية والخروقات التي تُرتكب في سوق الدواء اليمني وعن ضحايا تلك الأفعال. 

استهتار بالأرواح

لم يكن أبناء الأربعيني محمد عادل، القاطنون في مدينة صنعاء، يُدركون أنّ عدم مقدرتهم على شراء دواء الضغط لوالدهم سيسبّب له ذبحة صدرية عقب أسبوع من عدم تناوله الدواء، حيث سبّب ذلك مشكلة صحية أودت بحياته، كما يقول جبر، أحد أبناء عادل، أثناء حديثه لـ”خيوط”. ومثلهم الكثير من اليمنيين الذين استعصى عليهم ثمن شراء الأدوية الباهظة الثمن، والتي ارتفع سعرها لأضعاف مضاعفة خلال فترة الحرب الجارية.

الأدوية المحذّر منها من قبل هيئة الدواء المصرية، والشركة المصرية لتجارة الأدوية، وشركات في دول أخرى، تباع في كثير من الصيدليات بالعاصمة صنعاء بسعر رخيص، ولا أحد يأبه لأية تحذيرات، وهو الأمر الذي يعني أنّ كثيرًا من الأصناف الدوائية المهرّبة والمزوّرة والمغشوشة ومنتهية الصلاحية تباع في الأسواق في صنعاء أو عدن دون رقابة

أما الثلاثينيّ محمد علي المقطري، فقصته مع الدواء لها منحى آخر، إذ لم يكن يعرف أنّ عقارًا دوائيًّا، سيكون السمّ الذي يفتك بجسده ويزهق روحه، فحينما راجع المقطري طبيب المسالك البولية شاكيًا من آلام يعانيها في مثانته، كان الطبيب قد كتب له ذلك العقار، وحينما ذهب المقطري بروشيتة الطبيب لإحدى الصيدليات القريبة من سكنه بمنطقة دار سعد، مدينة عدن (جنوبي اليمن)، كانت الجريمة قد وقعت حينما أعطى ذلك الصيدلاني عقارًا يحمل الاسم ذاته الذي كان قد أوصى به الطبيب علاجًا له، ولم تمر 72 ساعة حتى فارق محمد الحياة، بسبب مضاعفات ألمّت به نتيجة تناوله الدواء المقلد. 

عندما تقدّم عدنان، شقيق محمد المقطري، بشكوى إلى المجلس اليمني للاختصاصات الطبية ضد طبيبٍ بمستشفى الجمهوري بعدن، متّهِمًا إياه بأنّه كان المتسبّب بحدوث الوفاة المفاجئة لشقيقه. تشكّلت لجنة من أطباء في ذلك المجلس الطبي، وكانت نتيجة التحقيقات قد كشفت عن أنّ وفاة محمد ترجع لتناوله موادًّا كيميائية مسمّمة، حينها بحثت عائلة محمد عن المأكولات والمشروبات التي تناولها محمد قبل وفاته، ووجدت أنّها كانت متداولة لديهم، ولم يُصَب أيٌّ منهم بأذى، وحينما طلبت لجنة المجلس الطبي التي حقّقت في الشكوى أسماء العقاقير التي تناولها المقطري قبل وفاته، وجدت أنّها تعود لعقار الأموكسيسيلين، وهو عقار كان مركز التيقظ الدوائي التابع لوزارة الصحة اليمنية قد حذّر تجّار الأدوية والصيدليات من التعامل معه؛ كونه مزوّرًا، لكن محمد المقطري لم يكن يعلم، ولم يعلم شقيقه المتابع للقضية ذلك، ولم يعلم حتى اسم الصيدلية التي اشترى منها محمد الدواء المزوّر قبل وفاته، كما يقول عدنان المقطري في حديثه لـ”خيوط”.

في مدينة إب (وسط اليمن)، كان المواطن نصر عبدالله الحداد (50 عامًا)، يعاني من آلام بسبب التهابات حصوات في إحدى كُليتيه، وعندما تم إسعافه نهاية الأسبوع الأول من يونيو/ حزيران 2022، لإحدى المشافي الصغيرة هناك، تُوُفِّي عقب 24 ساعة من حقنه بإبرة، تسبّبت له بمضاعفات، وما تزال التحقيقات في وفاته جارية حتى كتابة هذا التحقيق، إذ يشير عبدالمغني الحداد، من أقارب المتوفَّى، في حديثه لـ”خيوط”، بأنّ تلك الإبرة ربما تكون مغشوشة.

يقول خالد قاسم، أحد أقارب المتوفَّى نصر الحداد، لـ”خيوط”، إنّ وصية الأخير قبل وفاته هي مسامحة الممرِّض الذي قام بحقن الإبرة لنصر الحداد، وهو الأمر الذي نفّذه أقاربه عقب وفاته.

ويعني مصطلح الأدوية المزيفة أو المغشوشة بأنّ ثمّة أدوية تباع في الأسواق والصيدليات، وتبدو معبَّأة بالطريقة الصحيحة، ولكنها لا تحتوي على المكونات الصحيحة وفي أسوأ السيناريوهات، قد تكون مليئة بمواد شديدة السُّمّية، بحسب توضيح الطبيب الصيدلاني غابر البُعني، لـ”خيوط”.

يشير تقرير صادر في مارس/ آذار من العام 2020، عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ومكتب الاتحاد الأوروبي للمِلكية الفكرية إلى أنّ اليمن واحدة من مجموعة دول تتم من خلالها علمية شحن المستحضرات الصيدلانية المزيفة المصنعة في الصين والهند وسنغافورة وهونج كونج إلى أي مكان في العالم. 

في يوليو/ تموز الجاري، أطلقت هيئة الدواء المصرية، تحذيرًا بشأن دواء مغشوش لعلاج الضعف الجنسي يتم تداوله في الأسواق المصرية، ووصل إلى اليمن بحسب وسائل إعلام يمنية.

الهيئة العليا للأدوية والمستلزمات الطبية في اليمن، كانت قد حذّرت العام 2018، من أنّ جميع أنواع المنشطات الجنسية المتوفرة في السوق اليمنية على شكل عسل أو شوكولاتة أو غيرها من الأشكال غير المسجلة لدى الهيئة تحتوي على مادة

Taldlafil، وهي مواد كيميائية ذات أثر طبي ولها أعراض جانبية ومضاعفات غير مأمونة لكثير من الحالات، وهو الأمر ذاته الذي حذّرت منه الشركة المصرية لتجارة الأدوية.

يؤكِّد الطبيب الصيدلي، مختار محمد (32 عامًا)، لـ”خيوط”، أنّ الأدوية المحذّر منها من قبل هيئة الدواء المصرية والشركة المصرية لتجارة الأدوية، تُباع في كثير من الصيدليات بالعاصمة صنعاء بسعر رخيص، ولا أحد يأبه لأية تحذيرات، وهو الأمر الذي يعني أنّ كثيرًا من الأصناف الدوائية المهرَّبة والمزوَّرة والمغشوشة ومنتهية الصلاحية، تُباع في الأسواق في صنعاء أو عدن دون رقابة، وهي المشكلة ذاتها التي تعترف وزارتا الصحة في حكومتَي صنعاء وعدن بوجودها، وبعجز كلٍّ منهما على مجابهتها لأسباب تتعلق بتواطؤ من قبل مسؤولي بعض المنافذ الجمركية، ولأسباب تتعلق بتدخل نافذين من تجّار ومسؤولين في أعمال ومهام الهيئة العليا للأدوية ومؤسسات رقابية تابعة للدولة. 

ترى منظمة الصحة العالمية أنّ الدول الواقعة في مناطق النزاعات والأزمات، تعاني بصورة أكبر من النظم الصحية البالية؛ ولذلك تتحمل أعباء سموم الصناعات الدوائية بشكل أكبر من غيرها، وأنّ واحدًا من كل عشرة عقاقير تباع في الدول النامية، ومنها اليمن، يكون مزيفًا أو لا يتمتع بمواصفات الجودة المطلوبة، وهو ما يؤدّي إلى وفاة عشرات الآلاف بينهم العديد من الأطفال.

في مؤتمر صحفي عقده بصنعاء، مطلع سبتمبر/ أيلول 2019، اعترف طه المتوكل وزير الصحة في حكومة صنعاء بوجود ما يقارب 20 ألف صنف من الأدوية المهرَّبة والمزوَّرة والمغشوشة غير المسجلة في الهيئة العليا للأدوية، يتم تداولها في أكثر من 176 صيدلية في مديرية الوحدة بأمانة العاصمة فقط، ممّا يعني أنّ الأدوية المزوَّرة أصبحت في غالبية منازل المواطنين في صنعاء ومختلف المناطق اليمنية.

توجد في اليمن مئات الشركات الخاصة باستيراد الأدوية، وزاد عدد تلك الشركات منذ اندلاع الحرب إلى 600 شركة، بحسب هيئة الأدوية في صنعاء وعدن(3).

خلال فترة الحرب حتى العام 2019، تم استيراد أدوية ومستلزمات طبية من 274 مصنعًا عبر 481 وكيلًا مستوردًا من عدة بلدان متنوعة، أبرزها: مصر، الهند، الصين، الإمارات، الأردن، تركيا، السعودية.

ووصلت الأصناف الدوائية المتداولة في اليمن إلى 6200 صنف من 698 اسمًا علميًّا، وفقًا للدليل الإحصائي السنوي لوزارة الصحة العام 2019، ومقابلات أجرتها “خيوط” مع مسؤولين في هيئتَي الأدوية في صنعاء وعدن.

وعن أسباب تزايد انتشار العقاقير الدوائية المستوردة من الهند وباكستان ومصر، في السوق اليمنية، يشير الطبيب الصيدلاني جهاد حسين، في حديثه لـ”خيوط”، إلى أنّ الشركات الدوائية الباكستانية والهندية تقوم بتصنيع أدوية ذات شوائب كثيرة ومواد خام وتركيبة كيميائية أقل جودة من الأدوية المصنعة في أوروبا، وباقي بلدان العالم المتقدم، فعلى سبيل المثال، تباع بعض المواد الخام اللازمة لصناعة الدواء في الهند بسعر رخيص، والكيلو الواحد من تلك المواد الخام يتم منه صناعة 4 آلاف قرص، بينما المادة الخام ذاتها ولكن بشوائب أقل، تباع في أوروبا بسعر أغلى ونسبة التركيز فيها عالية، ومنها يتم تصنيع ألفي قرص.

في الوقت الراهن، انقسمت هيئة الأدوية إلى هيئتين مستقلّتين إحداهما عن الأخرى؛ في صنعاء تحت سيطرة المجلس السياسي الأعلى التابع لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، وفي عدن تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، وأثناء الحرب أصدرت كلٌّ من الهيئتين ما يسمَّى بالتصريح الاستثنائي الذي يستفيد منه التجار القدامى والجدد، لكنه فتح للأخيرِين البابَ على مصراعيه أمام استيراد أصناف دوائية لا حدود لها من قبل مستوردين جدد من بيوت تجارية ولجت تجارة الأدوية من أبواب الحرب، كالروني والشبامي والفضلي وأبو مسكة، وهم تجار نافسوا المستوردين التقليديين، كبيت هائل سعيد أنعم، والجبل، والعودي، والرداعي، والكسار، والرباحي.

وبحسب تأكيد مسؤول في الهيئة العليا للأدوية بصنعاء، متحدثًا لـ”خيوط””، فإنّ التصريح الاستثنائي له إيجابيات خلال زمن الحرب تمثّلت بمساعدة التجار على توفير أدوية، كان من الصعب وجودها في الأسواق بسبب الحصار والقيود التي تمارسها دول التحالف على دخول بعض الأصناف الدوائية، لاعتقاد التحالف بأنّ بعض العقاقير يستخدمها المقاتلون في جبهات الحرب لمساعدتهم على البقاء لفترات أطول في الجبهات.

من بين الأدوية المزوّرة المتداولة في الأسواق والمصنعة محليًّا في معامل، رصدها مُعِدّ التحقيق، دواء ديروجست الخاص لعلاج النساء الحوامل اللواتي يعانين من آلام البطن، ومثله الكثير من الأدوية الخاصة بالنساء الحوامل، وهو الأمر الذي فسّره أطباء بأنّ ثمة ارتباط بين الأدوية المزوّرة والمهرّبة وتزايد حالات الوفيات بين النساء الحوامل.

ويؤكّد المسؤول في هيئة الأدوية بصنعاء، أنّ التحالف منع دخول أكثر من 120 صنفًا دوائيًّا خاصًّا للمصابين بأمراض مزمنة.

حتى العام 2016، تشير تقارير رسمية صادرة عن وزارة الصحة في صنعاء، إلى أنّ فاتورة الاستيراد للأدوية بلغت ما يقارب 100 مليار ريال يمني، وهو مبلغ مالي ضخم يثقل كاهل المواطنين والدولة، ويحمّلهما أعباء مُزرية.

في حديثه لـ”خيوط”، يرى الدكتور محمد القباطي، نائب مدير إدارة الصناعات المحلية بالهيئة العليا للأدوية، أنّ “مصانع الأدوية المحلية ساهمت في التخفيف من الفاتورة الباهظة لاستيراد الأدوية، إذ تقوم تلك المصانع بتصنيع أدوية ذات مواصفات وجودة عالية، استطاعت أن تنافس الشركات العالمية، وحتى يستمر عمل تلك المصانع يجب على المجتمع اليمني أن يوليها مزيدًا من الثقة والتشجيع”.

في صنعاء ومختلف المناطق اليمنية، يوجد 17 مصنعًا لتصنيع الأدوية، و20 مصنعًا محليًّا مسجّلًا رسميًّا في هيئة الأدوية التابعة لوزارة الصحة بصنعاء، و20 مصنعًا تحت الإنشاء سيعمل بموجب تراخيص، لكن معدّ التحقيق كشف عن وجود عشرات المعامل الصغيرة في مناطق السنينة وشملان وطريق ضلاع همدان بالعاصمة صنعاء، وهي معامل غير مرخص لها لصناعة الدواء، وليست مطابقة للمواصفات والمقاييس العالمية، بحسب اعتراف مالك إحدى معامل تصنيع الدواء، والذي تحدث لـ”خيوط”، بأنه وغيره من مُلاك تلك المعامل، يساعدون المواطنين البسطاء على شراء دواء رخيص.

يقول مالكُ إحدى معاملِ تصنيع الأدوية: “نحن نشغل الأيدي العاملة من خريجي الصيدلة والطب، والمواد الخام نشتريها من تجار جملة لديهم مخازن في صنعاء، في شارع تعز والزراعة والدائري، ونبيع الأدوية بسعر رخيص تساعد الناس على شرائها”.

وفقًا لمالك إحدى مصانع الأدوية، فإنّ الأرباح الهائلة في قطاع الأدوية يحصل عليها تجار الجملة الذين يبيعون المواد الخام اللازمة لتصنيع الأدوية؛ فعلى سبيل المثال، تُـشترَى بعض المواد الخامّ من بلد المنشأ بأربعة دولارات ويبيعها التاجر اليمني للمصانع بـ40 دولارًا، هذا بحماية مسؤولين نافذين في السلطة مستفيدين.

غالبية تلك المصانع تعمل بدون ترخيص من السلطات الحكومية، والبعض يعمل وَفقَ تراخيص تمنح لهم من مكاتب الأشغال العامة والمجالس المحلية كمنشأة تجارية صغيرة.

يرى فضل منصور، رئيس الجمعية اليمنية لحماية المستهلك، أنّ مشكلة الأدوية المزوّرة في اليمن لم تعُد في المستوردة من خارج اليمن فقط، بل امتدّت إلى الداخل. يقول منصور لـ”خيوط”: “كميات مهولة من الأدوية المزوّرة تدخل المنافذ الجمركية لليمن دون أيّ حسيب، وبالتأكيد هي عقاقير قاتلة”، إضافة إلى أنّنا كنّا قد استبشرنا خيرًا بوجود مصانع محلية تعمل على صناعة الأدوية، لكن المعامل غير المرخصة أفسدت الفرحة، هذان الأمران أدّيا إلى اختفاء الأصناف الجيدة وانتشار الأصناف الرديئة”.

من بين الأدوية المزوّرة المتداولة في الأسواق والمصنَّعة محليًّا في معامل، رصدها معدّ التحقيق، دواء ديروجست الخاص لعلاج النساء الحوامل اللواتي يعانين من آلام البطن، إذ يقوم المزوِّرون بتعبئته في بواكت محلية الصنع، وتسجيل اسم الوكيل الأصلي للدواء المستورد، ويسوقونها على أنّها تابعة للوكيل، ومثله الكثير من الأدوية الخاصة بالنساء الحوامل، وهو الأمر الذي فسّرته إحدى طبيبات أمراض النساء بمستشفى السبعين، بأنّ ثمّة ارتباط بين الأدوية المزوَّرة والمهرَّبة وبين تزايد حالات الوفيات بين النساء الحوامل. إذ تقول في حديثها لـ”خيوط”: “غالبية النساء لا يوجد لديهن الوعي بمسألة الحصول على دواء آمن، ما يهُم غالبية الناس هو شراء دواء بثمن رخيص، المشكلة أيضًا يعاني منها المجتمع ككل”.

أسعار قاتلة

ومنذ بَدء الحرب الجارية العام 2014، حتى وقتنا الراهن، ارتفعت أسعار الأدوية تدريجيًّا حتى وصلت لأرقام قياسية.

وفي رصد لـ”خيوط”، فقد ارتفعت أسعار أدوية مرضى الضغط والسكر لثلاثة أضعاف، بسبب ارتفاع سعر الدولار لثلاثة أضعاف، فدواء الضغط المسمى بـ”كانزار إتش” كان يباع الباكت منه في 2014 بـ1500ريال، وأصبح اليوم يباع بنحو 4500 ريال، كما أنّ سعر الأنسولين، وهو الدواء المخصص لمرضى السكر، ارتفع ثمن بيعه إلى نحو 4000 ريال، بدلًا من سعره المباع في 2014 بـ1700 ريال، إضافة إلى ارتفاع أدوية مرضى الفشل الكلوي والكبد والسرطان وأدوية الأمراض المزمنة.

ليس ارتفاع أسعار الأدوية ما يؤرِّق المستهلك اليمني فقط، بل إنّ الغش التجاري الذي يُمارس في الصيدليات المرخصة وغير المرخصة في مختلف المناطق اليمنية، وبشكل يومي أصبح كابوسًا يلاحق صحة اليمنيين، إذ يتحايل بعض الصيادلة على المرضى من خلال إيهامهم أنّهم يبيعون لهم دواء معين بسعر رخيص، بينما يقوم الصيدلي المتحايل بإنقاص كمية الدواء دون تنبيهه للمريض، وبالتالي يتسبّب ذلك في التأثير على فاعلية استجابة العلاج لدى المريض، وهو الأمر الذي يؤكّده الدكتور عصام القرودع، استشاري الجراحة العامة، في حديثه لـ”خيوط”.

ويلفت القرودع، وهو أيضًا أستاذ بكلية الطب في جامعتي صنعاء وجبلة، إلى أنّه كطبيب وغيره من الأطباء يتلقون شكاوى عديدة من مرضى تعرضوا لغش من قبل صيادلة، وبدوره يحثّهم على تقديم شكاوى رسمية للمجلس الطبي، إلا أنّ تلك الشكاوى تذهب أدراج الرياح لعدم اهتمام الجهات الحكومية ممثلة بمجلس الاختصاصات الطبية، بوجود حلول منصفة لمن يتقدمون بتلك الشكاوى، الأمر الذي أدّى إلى وجود انطباع سائد لدى المتضررين بأنّه لن يتم إنصافهم فيضطرون لأن يصمتوا.

تنافس محموم

يشير ماهر درهم، وهو طبيب كان يعمل في إحدى الصيدليات، وإحدى مصانع الأدوية المحلية بصنعاء، إلى أنّ قطاع الأدوية في اليمن يشهد فوضى عارمة في مسألة تسعيرة الدواء، خاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، إذ تكاد الرقابة تكون منعدمة هناك، فبحسب حديث درهم لـ”خيوط”، فإنّ ملّاك الصيدليات أصبحوا يبيعون الأدوية البديلة عن الأدوية الأصلية بالسعر ذاته الذي تباع فيه الأدوية الأصلية، وذلك دون علم المستهلك.

في عام 1999، صدر القرار الجمهوري رقم 231، بشأن إعادة تنظيم الهيئة العليا للأدوية والمستلزمات الطبية، وقد حدّدت المادة الرابعة مهامها واختصاصها؛ إذ نصّت الفقرة الثامنة على تحديد وإصدار التسعيرة الدوائية ومراقبة تطبيقها واتخاذ الإجراءات القانونية عند المخالفة، لكن ذلك لم يطبّق، سواء في المناطق الواقعة تحت سيطرة حكومة صنعاء أو في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا.

ويرجع الدكتور نجيب الحكيمي، المسؤول في الهيئة العليا للأدوية، مشكلة ارتفاع أسعار الدواء إلى الارتفاع العالمي لأسعار الأدوية منذ جائحة كورونا من جهة، وإلى ارتفاع الدولار والعملات الأجنبية مقابل الريال اليمني، وتراجع حركات واردات الأدوية التي كانت تدخل اليمن قبيل اندلاع الحرب الحالية.

يشاطره في الرأي الدكتور مصلح عباس، مستشار وزارة الصحة اليمنية، إذ يرى في حديثه لـ”خيوط”، أنّ “ارتفاع أسعار الأدوية في اليمن ناتج عن تأثرها بالوضع الاقتصادي في البلد، وتحكم شركات الأدوية في السوق، حيث أصبح بعض الأطباء يتنافسون في الحصول على العملات من العمولات والبونس والهدايا التي تقدّم لهم من قبل شركات الأدوية، وهو الأمر الذي أفقد مسألة التنافس الشريف بين مصنعي ومستوردي الأدوية بعدالة، كون هذه العمولات والهدايا تضاف إلى قيمة الصنف، بالإضافة إلى السماح للمستورد بوضع سعر مرتفع دون أن يخشى مسألة تصريف الصنف.

وتصل قيمة العمولات والهدايا التي تُقدّم للأطباء في صنعاء، مقابل تصريف أصناف دوائية معينة، إلى ما يزيد على أربعة ملايين ريال في السنة، بحسب تقدير صلاح الحريري، وهو شاب كان يعمل في التسويق لإحدى شركات الأدوية الكبيرة في صنعاء، ويقول الحريري، إنّه “للأسف أصبح الطبيب في صنعاء، هو من يطالب شركات الأدوية بزيارته لعقد صفقات الترويج لأصناف دوائية، دون النظر لمدى فاعلية الدواء واستفادة المريض منه”.

في الجانب المقابل، يشير مدير إحدى شركات استيراد الأدوية في صنعاء، إلى أنّ بعض الأطباء هم من يسعون لابتزاز شركات الأدوية من خلال خلق منافسة غير أخلاقية بين منتج ومنتج آخر منافس.

وفي حديث لـ”خيوط”، يقول مدير إحدى شركات استيراد الأدوية (رفض الكشف عن هويته)، إنّ بعض الأطباء الذين أداروا المؤتمر اليمني الرابع لجراحة المخ والأعصاب والعمود الفقري المنعقد في صنعاء في الثاني والعشرين من مايو/ أيار العام الجاري، كانوا يفرضون على بعض شركات الأدوية رعايتها المالية للمؤتمر، وحينما كانت ترفض بعض الشركات، يتم تهديدها بمحاربتها ومنع تداول أصنافها في السوق.

عن تلك الممارسات، التي يصفها بـ”غير الأخلاقية”، يرى الدكتور علي الكاف، عضو الجمعية الصيدلانية اليمنية، بأنّه حان الوقت لوقف التجاوزات والانتهاكات الممارَسة بحقِّ المريض اليمني من قبل بعض الأطباء وشركات الأدوية، حيث وصل الأمر ببعض الأطباء إلى محاولة إقناع مرضاهم بجدوى بعض الأدوية التي قد تكون في بعض الأحيان ضارّة، إن لم تكن دون فعالية تساهم في شفاء المريض أو التخفيف من ألمه.

متحدثًا لـ”خيوط”، يقول الدكتور الكاف، وهو أيضًا عضو هيئة التحرير لمجلات الإيكرونيكون للعلوم الكيميائية والصيدلانية البريطانية، أنّ “العاملين والمنشغلين والمهتمين في قطاع الدواء في اليمن لديهم توجه لإصدار قوانين تعمل على وضع ضوابط تعزز من أخلاقيات مهنة الصيدلة وتجرّم قبولَ الطبيب رشاوى تحت مسميات هدايا وعمولات بهدف الترويج لأدوية معينة على حساب صحة وجيب المواطن اليمني”.

وعلى الرغم من أنّ حكومة صنعاء، التي تتواجد فيها غالبية شركات ومصانع الأدوية التي يتم توزيعها في مختلف المحافظات اليمنية، قد أعفت المنتجين وشركات صناعة الأدوية من التعرفة الجمركية، فإنّ أسعار الأدوية في ارتفاع مستمر، بسبب ارتفاع الضرائب والواجبات الزكوية التي فرضت على شركات ومصانع الأدوية خلال العامين الماضيين، كما يقول مصدر في الاتحاد اليمني لمنتجي الأدوية، خلال حديثه مع “خيوط”.

أفراد ومجاميع من المتطوعين النشطين في العمل الخيري، كانت لهم محاولات للمساهمة في التخفيف من وطأة لهيب ارتفاع أسعار الأدوية على المواطنين، تكلّلت تلك الجهود بتأسيس بنك الدواء اليمني بدعم من رجال أعمال غالبيتهم يمتلكون شركات ومصانع للأدوية، لتقديم الأدوية للمرضى المعسرين، وخاصة ممّن يعانون من أمراض مزمنة، وكذلك ذوي الاحتياجات الخاصة والمهمشين والنازحين، إضافة إلى ضحايا الحرب، والنساء والحوامل. وقد وصل إجمالي المستفيدين من خدمات البنك أكثر من 137 ألف مواطن، بحسب تأكيد وليد الشعيبي المدير التنفيذي لبنك الدواء اليمني، رغم اقتصار نشاط البنك في المناطق الواقعة تحت سيطرة حكومة صنعاء.

بدورها، رأت الهيئة العليا للأدوية الواقعة تحت سيطرة حكومة صنعاء، أنّ الحل الأنجع للحدّ من ارتفاع أسعار الأدوية، هو قيام الهيئة باستيراد الأدوية، شأنها شأن باقي الشركات الدوائية الموجودة في السوق الدوائي اليمني.

وفي تصريحات صحفية في 23 يونيو/ حزيران 2022، قال الدكتور محمد الغيلي رئيس الهيئة، أنّ هيئته ستبدأ بتدشين مشروع الصيدلية الاستثمارية، برأس مال مليون ومِئتَي مليار ريال يمني، حيث سيتم افتتاح عددٍ من الصيدليات لتبيع من خلالها الدواء للمواطنين بسعر التكلفة، وبدأت الهيئة بإصدار إعلانات مناقصات لبناء صيدليات مركزية تابعة لها في ثماني مستشفيات حكومية.

المشروع قوبل برفضٍ من قبل بعض مُلّاك شركات الأدوية والصيدليات، الذين التقت بهم “خيوط”؛ لأنّهم رأوا بأنه في حال تنفيذ ذلك، ستتحول الهيئة العليا للأدوية من مؤسسة رقابية إلى تجارية منافسة للشركات الدوائية وللصيدليات.

وفي السياق، وصفت نقابة ملاك صيدليات المجتمع في صنعاء إعلان هيئة الأدوية في صنعاء، تدشينَ مشروع الصيدلة الاستثمارية، بـ”الفضيحة” بسبب عدم وجود مسوغ قانوني لقيام الهيئة بذلك. إضافة إلى افتقادها بنى تحتية صالحة لتنفيذ مشروعها الاستثماري.

أسماء الشهاري، رئيسة اللجنة الإعلامية في نقابة الصيادلة اليمنيين، ترى أنه لا يمكن الحكم عن نجاح أو فشل تجربة مشروع الصيدلية الاستثمارية إلّا بعد أن يمارس المشروع نشاطاته في الميدان، وتقول الشهاري لـ”خيوط”: “ربما يأتي تنفيذ المشروع لصالح المواطن الذي أثقله غلاء الأدوية واحتكار بعضها من قبل تجار جشعين لا هَمّ لهم سوى جمع أكبر قدر من المال، وربما يفشل المشروع وتتحول الصيدلية الاستثمارية لمشكلة تضاعف من غلاء أسعار الأدوية، وتزيد من معاناة المواطنين”.

يبقى الأمل ضئيلًا بتوقف الحرب التي يشهدها قطاع الأدوية، والتي يزداد عدد أمرائها من تجار ومسؤولين نافذين، حتى وإن توقفت الحرب العسكرية والصراع الدائر في اليمن منذ العام 2015.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!