fbpx

“ذاكرة المدينة أجمل من المدينة”: زياد عيتاني لا ينسى شيئاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

المسرح هو ملعب المأساة والقلق، تماماً كما هي بيروت مدفن للذّاكرة، تلك الذّاكرة التي لم يسأم زياد عيتاني من طرحها عبر سرد قصصي ذاتي، لكلّ ما عايشه من سعادة عارمة في طفولته.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يروي زياد عيتاني في مسرحيّتيه “بيروت.. الطريق الجديدة” و”بيروت فوق الشجرة” تاريخاً مليئاً بالحكايات، مهملاً ومنسياً من قلب شوارع مدينة بيروت وأحيائها… من الفاكهاني وحمد وصبرا والسبيل والجامعة العربية وغيرها…
تروي الحكايات، صبحيّات نساء ورجال بيروتيّين/ات،  وقصصاً من تقاليد الطبخ إلى الأفراح والأتراح. عن حماسة مشجعي مباريات كرة القدم بين النجمة والأنصار وعن فنانين هم أبناء المنطقة كالمطرب خليل حلاق إلى الفنان أحمد قعبور. هي صيغة الكاتب المسرحي يحيى جابر الخاصة والمتمكّنة، تعيد الاعتبار إلى معنى المسرح الشعبي. صيغة تحترم الذاكرة البيروتيّة والتي يعيد زياد عيتاني تجسيدها بإحتراف.

منذ عرضهما الأوّل، أيّ منذ ما يقارب العشر سنوات، نستطيع القول إنّ تعديلات بسيطة ظهرت على كلا المسرحيّتين. تعديل طفيف في النّص ربّما، أو اختزال بسيط لبعض الأحداث، وإضافات أخرى. نمت لحية زياد، وزاد وزن يحيى، إنّها أمور يمكن ملاحظتها بسهولة تامّة، أشياء لا تحتاج إلى دقّة شديدة. لازالت القافية نفسها والأغنيات نفسها تجري على الإيقاع نفسه. التّاريخ تغيّر بعض الشّيء، تسع سنوات مرّت على عرض مسرحيّة “بيروت طريق الجديدة” وسبع سنوات على “بيروت فوق الشّجرة”، الّا أنّ الزمن لم يعد هو المسؤول الأوّل عن التغييرات الطفيفة التي جرى حدوثها. لولا وجود المسرح، لما استطاع زياد عيتاني أن يقف على قدميه، بحيث أنّه الركن الوحيد الباقي، والمسؤول عن هدم وبناء السرديّات جميعها.

بالرّغم من كلّ ما جرى ذكره، لا يمكن للمشاهد إلا أن يرى أنّ زياد الذي أمامنا اليوم هو زياد آخر، وبيروت هي مدينة أخرى اليوم. 

أعترف بأنّني لا أعرف شيئاً عن بيروت التي يتكلّم عنها زياد في كلا مسرحيّتيه “بيروت طريق الجديدة” و”بيروت فوق الشّجرة” كأنّ الزمن الذي عاش خارج هذه الخشبة قد انتهى إلى غير رجعة كأنّه لم يكن قَط. إنّنا لسنا عاجزين عن رؤية مأساة التّهمة (لفقت للمسرحي زياد عيتاني زوراً تهمة العمالة لإسرائيل) وهي ترافق حركة زياد بحذافيرها على خشبة المسرح. المسرح هو ملعب المأساة والقلق، تماماً كما هي بيروت مدفن للذّاكرة، تلك الذّاكرة التي لم يسأم زياد عيتاني من طرحها عبر سرد قصصي ذاتي، لكلّ ما عايشه من سعادة عارمة في طفولته. سعادته في الحفاظ على الشخصيات وتواريخها ولّكناتها المختلفة، كان دليلاً على رغبة الممثّل في العودة إلى شيء من هويّته هو، شيء أعلن مراراً عن فقدانه له، وهو حياته التي كان يعيشها قبل التّهمة: “أريدهم أن يتذكّروا من أنا، من كنت، وماذا كنت أفعل قبل أن أصير عميلا، أو قبل أن تصيرني العمالة”. 

يتحدث زياد بمرارة ساخرة عن تجربة اعتقاله وتعذيبه واتهامه زوراً بالعمالة لاسرائيل في واحدة من أشهر قضايا تلفيق التهم على يد أجهزة أمنية رسمية في لبنان عام 2018 قبل أن تتم تبرئته.

يحتفظ زياد بالشوارع وأسمائها في جيبه، ولا ينسى أبداً سرد أدقّ التفاصيل الممكنة. الّا أنّ هذه السعادة برمّتها لم يعد باستطاعتها إخفاء حقيقة مأساته الشخصيّة،على صعيديها الفردي والجماعي. كأنّ بيروت قبل دخول هذا الرّجل إلى السّجن لم تعد كما كانت، أو يجدر القول، بيروت الآن أبعد ما يكون عن ذاكرتها الشخصيّة.

في مسرحيّة “بيروت طريق الجديدة” يجسّد زياد عيتاني شخصيّة “أبو العبد” وهو أحد “قبضايات” المنطقة الحقيقيّين الذي يروي من خلاله تاريخ المنطقة السياسي، من أيّام صائب سلام وعبد الناصر وأبو عمّار وإبراهيم قليلات ورفيق الحريري حتى اليوم.
في المسرحيّة يتخلّى “أبو العبد” عن سلاحه فور دخول الجيش السّوري إلى بيروت ويصبح شخصا مسالماً فجأة. حاول “أبو العبد” في أحد الأيّام أن ينطق ببضع شعارات استفزّت الجيش السّوري المتواجد في المنطقة. حينها ألقي القبض عليه من قبل عناصر الجيش وتمّ زجّه في السّجن وتعرّض  داخله للضرب والتعذيب وتشويه السّمعة. هذه هي تراجيديا زياد الشّخصيّة وقد تحوّلت بحكم الزمن إلى كوميديا حقيقيّة. لم يكن زياد يعرف أنّه سيذهب بتجسيده لتلك الشخصيّة إلى النهاية، كأنّ شخصا ما وعده بالحصول على جائزة الأوسكار إذا ما استطاع أن يعيش الدّور إلى نهايته. الفرق الوحيد هو أنّ الجيش السّوري خرج من بيروت عام 2005 الّا أنّ ممارسات النظام اللّبناني لا زالت تمارس في أقبيتها السوداء بعثية متوارثة عن تلك الحقبة من تاريخ المدينة.

لم يتوقّف زياد عن رغبته الملحّة بالرّفض. رفض التّهمة، رفض نهاية المدينة ورفض نهاية زمنها الذي لا ينفكّ يصفه بـ”الجميل”.

يعلن زياد عودته إلى المسرح من خلال علاقته مع ذاكرته الشّخصيّة، تلك الذّاكرة التي يطلق عليها تسمية “البيت” بالطّريقة نفسها التي يعلن فيها محمود درويش من خلال احدى قصائده بأنّ “الطريق إلى البيت أجمل من البيت”. يعرف زياد طريقه إلى ذاكرة بيروت.. يعرف جيّدا كم أنّ الطريق إلى تلك الذاكرة بات أجمل منها بكثير، وأنّ فعل التذكّر بات مثيلا لفعل الإعمار، إعمار شيء مما فقد منها، أو ما تهدّم بفعل نسيانها.

يسقط الزّمن تحت سطوة الواقع، يخسر الزّمن حينها دوره الفعّال، لكن هذا ما يرفضه زياد تماماً. لم يتوقّف زياد عن رغبته الملحّة بالرّفض. رفض التّهمة، رفض نهاية المدينة ورفض نهاية زمنها الذي لا ينفكّ يصفه بـ”الجميل”. رفض زياد كان سخرية بحتة. سخرية على نفسه، على التعذيب، وحّتى على فكرة أنّ جيلاً ما قد لا يعرف ما كان يفعله قبل أن يصير ضحيّة قوميّة. آه نعم، كان يرفض زياد تهمة الضحيّة أكثر من تهمة العمالة، لم يرد أنّ يكون “أبو العبد” آخر، أن يُهزم ويصمت وأن يكون سلاحه “سبع الأرجيلة”. أراد أن يقدّم المزيد وأن يعلن عند كلّ مناسبة ما قد تجاهله النّاس ونسوه: حبّه لبيروت.