fbpx

Black Miror: تساؤلات عن “الراحة” والغزو التكنولوجيّ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

القصة برمتها تتبع نمط الكوميديا السوداء مع نفحات من أساليب الأخوين كوين، وتطرح سؤالاً جوهرياً عن الفعل الثوري والقتل لإنهاء كارثة العالم، والمهلة التي كانت بحوزتنا، وعن تشكل اليمين وتغير العالم برمته، لتكون من أفضل حلقات الموسم رغم خروجها عن روح المسلسل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عام 2011، أثناء ذروة ثورة الهواتف الذكية والعالم السايبري، وفيما تحولت الهواتف المحمولة إلى أدوات لـ”بث” الاحتجاجات والانتهاكات من الساحات العربيّة إلى “العالم”، انفجر مسلسل “بلاك ميرور” كنقطة تحوّل في مسار مسلسلات الخيال العلمي الجماهيرية.

حاول المسلسل  في بعض حلقاته تخمين المستقبل، وخلق صوراً ومفاهيم غير مدركة بعد في الواقع، بهدف تحدّي تصوراتنا الكسولة، الجديد حينها أن المسلسل لم يكن يخمّن المستقبل، بل يعكس لنا الواقع المعاصر وامتداداته القريبة جداً، كما حلقة ” الهبوط الحاد” nosedive أو “كريه في الأمة”. وما ساعد على “كتابة” النبوءات حينها، قدرة البشرية أكثر من أي وقت مضى على تشكيل صور محددة جداً للمستقبل.

انشغل المسلسل بديستوبيا التكنولوجيا القادرة على دهس النزعة الإنسانية بكل برود، وأطلق خطاباً تحذيرياً للبشرية، راسماً االتكنولوجيا كانعكاس لغطرسة الإنسان وليس فضوله، وفاضحاً العمى الذي أصاب الواقع لمصلحة النسخ الرقمية. على غرار المانيفستو الذي أطلقه آيلون ماسك ومجموعة مديري كبرى شركات الذكاء الصناعي، والذي نادى بإيقاف عمليات التطوير تحسباً لأي طفرة قد تخرج عن نطاق التحكم البشري.

الموسم السادس: خيبة أمل؟

انطلق الموسم السادس هذا الصيف بخمس حلقات، لم يحقق ما هو متوقع منه، مع أن الكاتب الأساس في السلسلة لا يزال هو نفسه (تشارلي بوكر)، ولكن ما تغيرّ هو غزو الذكاء الصناعي لعالم اليوم مع تقدم تكنولوجي مرعب. لتصبح لعبة تخمين المستقبل القريب غير مغرية، لعجزها عن مجاراة الواقع. فهامش الخيال لاحتمالات رمية النرد قد ردم، كما أن الإغراء الذي كان يسببه خلق آلات تكنولوجية (روحية) قادرة على التعبير عن علامات الإدراك الذاتي البشري، لم يعد مغرياً بعدما بات روتيناً يومياً. إذ شهدنا هذا العام انعقاد أول مؤتمر صحافي لمجموعة من روبوتات الذكاء الصناعي في جنيف، والتي فتحت نقاشاً فلسفياً مع وسائل الإعلام حول ماهيتها وعلاقتها مع البشر.

صناع المسلسل يدركون السياق التاريخي الذين يعملون فيه بشكل جيد، وعلى هذا الأساس تم اللعب على مستويات أخرى للحفاظ على الزخم الجماهيري،  وتم وضع القصص في سياقات زمنية متعددة للقرن العشرين، للحفاظ على بعض عناصر الحبكة التقليدية مثل الجريمة والسرقة والصدف؛ هذه العناصر التي أصبحت نادرة الحدوث في عالم مراقب ومحدد جداً، وبالطبع فإن المحتوى الجديد أتى ضمن المنظومة الأخلاقية (الجندرية والعرقية) لنتفلكس.

حافظت حلقتان من المسلسل على إرث بلاك ميرور، هي الأولى “جوان سيئة”  والثالثة “ما وراء البحر”، في مقابل انشقاق ثلاث حلقات عن المسار عبر مواضيع لا تركز بشكل مباشر عل علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، وبرؤية فنية حملت أسلوب الكوميديا السوداء بدلاً من الديستوبيا الشاعرية.

الخصوصيّة VS الترفيه


ناقشت حلقة “جوان سيئة” تسلل التكنولوجيا إلى أكثر لحظاتنا خصوصية وسرية. نرى جوان المديرة في الموارد البشرية لإحدى الشركات تعيش حياة اعتيادية معاصرة، تتعامل بشكل فظ مع الموظفين وتتوق إلى علاقة قديمة رغم عيشها مع حبيبها.

 هذه المرأة التي لن يلومها أحد على هذه السلوكيات أو بالأحرى لن ينتبه أحد إليها، ترى يومياتها تعرض على إحدى المنصات التلفزيونية كمسلسل (منصة للمفارقة تحمل شعار نتفلكس ذاته)، تؤدي نسختها، نسخة مصنعة أيضاً من سلمى حايك،  ليسقط الواقع لصالح الصور كما هو معتاد في المسلسل.
قصة جوان تتم إعادة إنتاجها بصورة مشوهة بدرجة طفيفة بما يتناسب مع الذوق الجماهيري الفضائحي. والمفارقة، أن النسخة أقوى من الواقع في القدرة على صنع موجة رأي عام تبتلع جوان وتحوّلها الى وحش قذر.

تتصدى الحلقة لسؤال الحرية الشخصية وثمنها ونتائجها. المفارقة الأساسية في سؤال الحرية هنا، يدفعنا إلى تعريف الحرية ما قبل ثورة الاتصالات ومقارنتها مع المفهوم الحالي. فالسلطة سواء كانت نظاماً قمعياً أم اقتصاداً رأسمالياً، هي العدو الأساسي للحرية، والتي يتم دفع ثمنها إما عبر الجسد (الثورة) أو عبر المال (العبودية)، أما الآن فالعدو ليس كياناً محدداً بالمعنى المادي بل هو منظومة مراقبة كاملة، “تحصد” بياناتنا، لأجل “الترفيه”.

تتحول خصوصيتنا إلى سلعة نبيعها لكي نرتاح. نتداولها عن طيب خاطر بقصد أن ينوب الذكاء الصناعي عنا في الأنشطة كافة، ويصبح لنا وكيل رقمي يرعى صورنا الرمزية بما يتوافق مع المعايير الاجتماعية، وتتم فهرسة هوياتنا بدقة بواسطة الخوارزميات. الأمر أشبه بقفص مبني ذاتياً يحافظ على وضعنا الراهن، لنعيش في عالم مألوف جداً بدلاً من تحدي نظرتنا الى العالم. بينما يطور الذكاء من نفسه ويقدم لنا الرؤية من دون أي جهد نمارسه، فقط نبيع له حريتنا. ليتحول الإبداع البشري إلى مبدأ الاختيار بدلاً من الجهد.

تراقب أجهزتنا  (حاسوب، حاسوب لوحي، هاتف ذكي، براد ذكي…) معلوماتنا كافة التي ننتجها سواء عادات التصفح أو سجل الشراء أ وقائمة البقالة، التي تعتبر “العلف “الأساسي لخوارزميات الذكاء الصناعي، التي تتخذ القرارات بالنيابة عنا، من الإعلانات إلى عمليات التوظيف وتوصيات المحتوى، وهي التي تشكل خياراتنا وقراراتنا وتحدد المعلومات التي يتم تقديمها إلينا لتؤثر على سلوكياتنا. يتم وضعنا في عالم تم تشكيله على أساس كسلنا. والثمن ببساطة هو الاسترخاء.

تحولت هذه البيانات/ العلف إلى ترفيه نهايةً، ترفيه موجه الى كل شخص بصورة منفردة، هذه نبوءة الخوارزميات، أن تتحول حياتك إلى نسخة ترفيهيّة، حبكتها “نحن” وحياتنا التي تحولت إلى خوارزميات لإرضائنا أولاً ثم الجمهور، وهذا بالضبط ما تقوم به منصات التواصل الاجتماعي، تقدم لكل واحد منا إعلانات ومحتوى يتناسبان معه ومعه فقط.

لنلتهم الباباراتزي

يستمر سؤال الخصوصيّة والحرية الشخصيّة في الحلقة الرابعة، لكن يخرج (شارلي بروكر) عن موضوعة التكنولوجيا، ليأخذنا إلى التسعينات، محاكياً موجة الحنين التي ضربت هوليوود، لقراءة نجوم الفن في تلك الفترة، وبكلمات أخرى عن الصور الدعائية للنجوم ذلك الوقت عندما كانت تصنع من مؤسسات إعلامية ذات جهد بشري وليس خوارزمي.

 يختار (بروكر) مجموعة من الباباراتزي الذين يلاحقون ممثلة شابة بعد اختفائها تماماً إعلامياً بسبب حالة من الاكتئاب نتجت من جريمة اقترفتها. ويستعير آلية الواقعية الطقسية كأسلوب للكتابة بهدف كشف معاني النص، خارجاً عن إرث بلاك ميرور السردي باستعارته مجاز “الاستذئاب”. فتتحول الممثلة المحاصرة بالكاميرات إلى ذئب وتفترس الباباراتزي، في مجاز عن صناعة الوحوش من خلال انتهاك الحريات الشخصية بهدف صنع الصور، الصور التي دفعت الأميرة ديانا ثمنها بحياتها عام 1997، وبريتني سبيرز بتحوّلها إلى أيقونة لانهيار نجمات البوب عندما قصت شعرها لتعلن قتل صورتها الإعلامية عام 2007.

الهوس بالجريمة

يخرج المسلسل أيضاً، عن موضوعة الخيال العلمي والتكنولوجيا في الحلقة الثانية “بحيرة هنري”. نحن أمام حبكة لوثائقيات القتلة المتسلسلين مع مفاجأة بهوية القاتل في النهاية، وبحبكة تجارية معتادة يتم طرح سؤال أخلاقي عن الفن: “كيف تتحول المأساة إلى سلعة في سياق منصات البث؟”. إذ ينجح (ديفز – سامويل بلينكين) باكتشاف قصة مروعة بإمكانها أن تتصدر المنصات وتجعله نجماً، ويستطيع اصطياد حبكة ذهبية من خلال تتبّع مسار جرائم مروعة في بلدته، ليكتشف أن هوية المجرمين هي والداه. 

تحيل هذه الحلقة إلى انتقادات لنتفلكس نفسها، التي بثت عدداً كبيراً من وثائقيات الجرائم الحقيقية، التي تحولت إلى هوس لدى جمهور، إلى حد أننا نرى في الحلقة هوس ديفز بالنجاح إلى حد ملاحقة عائلته وحبيبته التي ماتت أثناء تصوير الفيلم. 

 هذا الهوس بـ”الحكاية الصالحة لنتفلكس” خلق نجوماً من نوع جديد، المحققين الهواة إن صح التعبير، إذ نرى ديفز يرتدي التوكسيدو في حفل توزيع الجوائز، بينما يصفق له أهالي القرية\مسرح الجرائم، من دون طرح أي سؤال أخلاقي أو تعاطف إنساني. تكمن المأساة في ما وراء المأساة نفسها.

القتل في سبيل إنقاذ العالم

يستعير (بروكر) في الحلقة الخامسة أجواء أفلام الرعب في السبعينات وسلسلة سيد الأمنيات، لمناقشة واقع سياسي يتعلق بصعود اليمين في بريطانيا في بداية الثمانينات. (نيدا- انجانا فاسن) الموظفة الهندية في محل أحذية، يظهر لها شيطان لينبئها بنهاية العالم إن لم تفدِه بقتل ثلاثة أشخاص. تفشل نيدا في الجريمة الثالثة، التي استهدفت فيها مرشحاً عنصرياً للرئاسة، ويقبض عليها، وبالفعل تنتهي مهلة الشيطان، وينتهي العالم إثر حرب نووية.

القصة برمتها تتبع نمط الكوميديا السوداء مع نفحات من أساليب الأخوين كوين، وتطرح سؤالاً جوهرياً عن الفعل الثوري والقتل لإنهاء كارثة العالم، والمهلة التي كانت بحوزتنا، وعن تشكل اليمين وتغير العالم برمته، لتكون من أفضل حلقات الموسم رغم خروجها عن روح المسلسل.

الجنس في الفضاء

أما في الحلقة الثالثة، “ما وراء البحر”، فتعود موجة بلاك ميرور الديستوبية من جديد، عبر فرضية تحدث لرائدَي فضاء في رحلة بحثية في الستينات من القرن المنصرم. يستطيعان مواصلة حياتهما على الأرض عبر جسد تكنولوجي يتم زرع وعيهما به، وهذا الجسد هو صورة حرفية عن الأصل البشري ولكن مع انعدام القدرة على ممارسة الجنس.
تقوم مجموعة من الهيبيز باستعارة لمجموعة القاتل (تشارلز  مانسون) بقتل عائلة (ديفيد-جورج هارتنت) كفعل تمردي ضد الثورة التكنولوجية العالمية، بل تمكن قراءتها كمحاكاة لجرائم قتل النجوم التي قام بها أتباع تشارلز مانسون حين قتلوا الممثلة شارون تايت عام 1969.

إثر هذه المأساة، أي فقدان الجسد، يستعير (ديفيد) جسد صديقه لتمضية بعض الوقت على الأرض، ليقع في حب زوجته. يتم طرح أسئلة جوهرية حول ازدواجية الهوية وإن كانت تتعلق فقط بالوعي مع غياب تام لمسألة الوجود الإنساني المادي، بل ويُطرح سؤال حول الجنس نفسه، وارتباطه بالجسد الماديّ، الشأن يشابه التساؤل الحالي حول الجنس مع الروبوتات، أو الروبوتات التي تحوي وعي الموتى.

هل كنا أحراراً؟ 

لم يستطع المسلسل الحفاظ على زخمه ذاته على المستوى الجماهيري، وتكسرت ميزته الأساسية المتعلقة بنوعه لعوامل كثيرة، ما دفع (بروكر) إلى بناء سلسلة من الحلقات تحاول تبيان الواقع الأعمى بالكامل، ضمن خطاب راديكالي يساري -غير جديد- يهاجم فيه الإنسان المعاصر ويتحدث عن عالم أشبه بقهوة من غير كافيين، عالم إنساني من دون نزعة إنسانية ويصور لنا الذكاء الصناعي باعتباره خطوة من البشرية للتخلي عن السيادة وليس توكيدها. ليرمي سهامه على إقطاعيي التقدم الجدد.

نحن كنسخ رقمية اليوم، يبدو من المستحيل علينا المشاركة في مستقبل الإنسان، وخياراتنا محددة بين أن نبيع حريتنا لأجل التطور أو أن نمنعه. وهنا، ربما سيعود السؤال الأزلي عن معنى الحرية. هل بالفعل كنّا أحراراً من قبل؟ هل كنا نسيطر بالفعل على أكثر مما أدركنا؟ أم أن الحرية تغيرت ماهيتها بالفعل مع تغير جوهري في الوعي الإنساني، وانتهاء فكرة الإبداع البشري على أساس الجهد والمعاناة. ربما بإمكاننا الاستلقاء فقط في غرف الطابق العلوي من القصر مع انشغال الخدم (الذكاء الصناعي) بأمور القصر في الطابق السفلي من دون أن يعنينا الأمر بشيء.

15.07.2023
زمن القراءة: 7 minutes

القصة برمتها تتبع نمط الكوميديا السوداء مع نفحات من أساليب الأخوين كوين، وتطرح سؤالاً جوهرياً عن الفعل الثوري والقتل لإنهاء كارثة العالم، والمهلة التي كانت بحوزتنا، وعن تشكل اليمين وتغير العالم برمته، لتكون من أفضل حلقات الموسم رغم خروجها عن روح المسلسل.

عام 2011، أثناء ذروة ثورة الهواتف الذكية والعالم السايبري، وفيما تحولت الهواتف المحمولة إلى أدوات لـ”بث” الاحتجاجات والانتهاكات من الساحات العربيّة إلى “العالم”، انفجر مسلسل “بلاك ميرور” كنقطة تحوّل في مسار مسلسلات الخيال العلمي الجماهيرية.

حاول المسلسل  في بعض حلقاته تخمين المستقبل، وخلق صوراً ومفاهيم غير مدركة بعد في الواقع، بهدف تحدّي تصوراتنا الكسولة، الجديد حينها أن المسلسل لم يكن يخمّن المستقبل، بل يعكس لنا الواقع المعاصر وامتداداته القريبة جداً، كما حلقة ” الهبوط الحاد” nosedive أو “كريه في الأمة”. وما ساعد على “كتابة” النبوءات حينها، قدرة البشرية أكثر من أي وقت مضى على تشكيل صور محددة جداً للمستقبل.

انشغل المسلسل بديستوبيا التكنولوجيا القادرة على دهس النزعة الإنسانية بكل برود، وأطلق خطاباً تحذيرياً للبشرية، راسماً االتكنولوجيا كانعكاس لغطرسة الإنسان وليس فضوله، وفاضحاً العمى الذي أصاب الواقع لمصلحة النسخ الرقمية. على غرار المانيفستو الذي أطلقه آيلون ماسك ومجموعة مديري كبرى شركات الذكاء الصناعي، والذي نادى بإيقاف عمليات التطوير تحسباً لأي طفرة قد تخرج عن نطاق التحكم البشري.

الموسم السادس: خيبة أمل؟

انطلق الموسم السادس هذا الصيف بخمس حلقات، لم يحقق ما هو متوقع منه، مع أن الكاتب الأساس في السلسلة لا يزال هو نفسه (تشارلي بوكر)، ولكن ما تغيرّ هو غزو الذكاء الصناعي لعالم اليوم مع تقدم تكنولوجي مرعب. لتصبح لعبة تخمين المستقبل القريب غير مغرية، لعجزها عن مجاراة الواقع. فهامش الخيال لاحتمالات رمية النرد قد ردم، كما أن الإغراء الذي كان يسببه خلق آلات تكنولوجية (روحية) قادرة على التعبير عن علامات الإدراك الذاتي البشري، لم يعد مغرياً بعدما بات روتيناً يومياً. إذ شهدنا هذا العام انعقاد أول مؤتمر صحافي لمجموعة من روبوتات الذكاء الصناعي في جنيف، والتي فتحت نقاشاً فلسفياً مع وسائل الإعلام حول ماهيتها وعلاقتها مع البشر.

صناع المسلسل يدركون السياق التاريخي الذين يعملون فيه بشكل جيد، وعلى هذا الأساس تم اللعب على مستويات أخرى للحفاظ على الزخم الجماهيري،  وتم وضع القصص في سياقات زمنية متعددة للقرن العشرين، للحفاظ على بعض عناصر الحبكة التقليدية مثل الجريمة والسرقة والصدف؛ هذه العناصر التي أصبحت نادرة الحدوث في عالم مراقب ومحدد جداً، وبالطبع فإن المحتوى الجديد أتى ضمن المنظومة الأخلاقية (الجندرية والعرقية) لنتفلكس.

حافظت حلقتان من المسلسل على إرث بلاك ميرور، هي الأولى “جوان سيئة”  والثالثة “ما وراء البحر”، في مقابل انشقاق ثلاث حلقات عن المسار عبر مواضيع لا تركز بشكل مباشر عل علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، وبرؤية فنية حملت أسلوب الكوميديا السوداء بدلاً من الديستوبيا الشاعرية.

الخصوصيّة VS الترفيه


ناقشت حلقة “جوان سيئة” تسلل التكنولوجيا إلى أكثر لحظاتنا خصوصية وسرية. نرى جوان المديرة في الموارد البشرية لإحدى الشركات تعيش حياة اعتيادية معاصرة، تتعامل بشكل فظ مع الموظفين وتتوق إلى علاقة قديمة رغم عيشها مع حبيبها.

 هذه المرأة التي لن يلومها أحد على هذه السلوكيات أو بالأحرى لن ينتبه أحد إليها، ترى يومياتها تعرض على إحدى المنصات التلفزيونية كمسلسل (منصة للمفارقة تحمل شعار نتفلكس ذاته)، تؤدي نسختها، نسخة مصنعة أيضاً من سلمى حايك،  ليسقط الواقع لصالح الصور كما هو معتاد في المسلسل.
قصة جوان تتم إعادة إنتاجها بصورة مشوهة بدرجة طفيفة بما يتناسب مع الذوق الجماهيري الفضائحي. والمفارقة، أن النسخة أقوى من الواقع في القدرة على صنع موجة رأي عام تبتلع جوان وتحوّلها الى وحش قذر.

تتصدى الحلقة لسؤال الحرية الشخصية وثمنها ونتائجها. المفارقة الأساسية في سؤال الحرية هنا، يدفعنا إلى تعريف الحرية ما قبل ثورة الاتصالات ومقارنتها مع المفهوم الحالي. فالسلطة سواء كانت نظاماً قمعياً أم اقتصاداً رأسمالياً، هي العدو الأساسي للحرية، والتي يتم دفع ثمنها إما عبر الجسد (الثورة) أو عبر المال (العبودية)، أما الآن فالعدو ليس كياناً محدداً بالمعنى المادي بل هو منظومة مراقبة كاملة، “تحصد” بياناتنا، لأجل “الترفيه”.

تتحول خصوصيتنا إلى سلعة نبيعها لكي نرتاح. نتداولها عن طيب خاطر بقصد أن ينوب الذكاء الصناعي عنا في الأنشطة كافة، ويصبح لنا وكيل رقمي يرعى صورنا الرمزية بما يتوافق مع المعايير الاجتماعية، وتتم فهرسة هوياتنا بدقة بواسطة الخوارزميات. الأمر أشبه بقفص مبني ذاتياً يحافظ على وضعنا الراهن، لنعيش في عالم مألوف جداً بدلاً من تحدي نظرتنا الى العالم. بينما يطور الذكاء من نفسه ويقدم لنا الرؤية من دون أي جهد نمارسه، فقط نبيع له حريتنا. ليتحول الإبداع البشري إلى مبدأ الاختيار بدلاً من الجهد.

تراقب أجهزتنا  (حاسوب، حاسوب لوحي، هاتف ذكي، براد ذكي…) معلوماتنا كافة التي ننتجها سواء عادات التصفح أو سجل الشراء أ وقائمة البقالة، التي تعتبر “العلف “الأساسي لخوارزميات الذكاء الصناعي، التي تتخذ القرارات بالنيابة عنا، من الإعلانات إلى عمليات التوظيف وتوصيات المحتوى، وهي التي تشكل خياراتنا وقراراتنا وتحدد المعلومات التي يتم تقديمها إلينا لتؤثر على سلوكياتنا. يتم وضعنا في عالم تم تشكيله على أساس كسلنا. والثمن ببساطة هو الاسترخاء.

تحولت هذه البيانات/ العلف إلى ترفيه نهايةً، ترفيه موجه الى كل شخص بصورة منفردة، هذه نبوءة الخوارزميات، أن تتحول حياتك إلى نسخة ترفيهيّة، حبكتها “نحن” وحياتنا التي تحولت إلى خوارزميات لإرضائنا أولاً ثم الجمهور، وهذا بالضبط ما تقوم به منصات التواصل الاجتماعي، تقدم لكل واحد منا إعلانات ومحتوى يتناسبان معه ومعه فقط.

لنلتهم الباباراتزي

يستمر سؤال الخصوصيّة والحرية الشخصيّة في الحلقة الرابعة، لكن يخرج (شارلي بروكر) عن موضوعة التكنولوجيا، ليأخذنا إلى التسعينات، محاكياً موجة الحنين التي ضربت هوليوود، لقراءة نجوم الفن في تلك الفترة، وبكلمات أخرى عن الصور الدعائية للنجوم ذلك الوقت عندما كانت تصنع من مؤسسات إعلامية ذات جهد بشري وليس خوارزمي.

 يختار (بروكر) مجموعة من الباباراتزي الذين يلاحقون ممثلة شابة بعد اختفائها تماماً إعلامياً بسبب حالة من الاكتئاب نتجت من جريمة اقترفتها. ويستعير آلية الواقعية الطقسية كأسلوب للكتابة بهدف كشف معاني النص، خارجاً عن إرث بلاك ميرور السردي باستعارته مجاز “الاستذئاب”. فتتحول الممثلة المحاصرة بالكاميرات إلى ذئب وتفترس الباباراتزي، في مجاز عن صناعة الوحوش من خلال انتهاك الحريات الشخصية بهدف صنع الصور، الصور التي دفعت الأميرة ديانا ثمنها بحياتها عام 1997، وبريتني سبيرز بتحوّلها إلى أيقونة لانهيار نجمات البوب عندما قصت شعرها لتعلن قتل صورتها الإعلامية عام 2007.

الهوس بالجريمة

يخرج المسلسل أيضاً، عن موضوعة الخيال العلمي والتكنولوجيا في الحلقة الثانية “بحيرة هنري”. نحن أمام حبكة لوثائقيات القتلة المتسلسلين مع مفاجأة بهوية القاتل في النهاية، وبحبكة تجارية معتادة يتم طرح سؤال أخلاقي عن الفن: “كيف تتحول المأساة إلى سلعة في سياق منصات البث؟”. إذ ينجح (ديفز – سامويل بلينكين) باكتشاف قصة مروعة بإمكانها أن تتصدر المنصات وتجعله نجماً، ويستطيع اصطياد حبكة ذهبية من خلال تتبّع مسار جرائم مروعة في بلدته، ليكتشف أن هوية المجرمين هي والداه. 

تحيل هذه الحلقة إلى انتقادات لنتفلكس نفسها، التي بثت عدداً كبيراً من وثائقيات الجرائم الحقيقية، التي تحولت إلى هوس لدى جمهور، إلى حد أننا نرى في الحلقة هوس ديفز بالنجاح إلى حد ملاحقة عائلته وحبيبته التي ماتت أثناء تصوير الفيلم. 

 هذا الهوس بـ”الحكاية الصالحة لنتفلكس” خلق نجوماً من نوع جديد، المحققين الهواة إن صح التعبير، إذ نرى ديفز يرتدي التوكسيدو في حفل توزيع الجوائز، بينما يصفق له أهالي القرية\مسرح الجرائم، من دون طرح أي سؤال أخلاقي أو تعاطف إنساني. تكمن المأساة في ما وراء المأساة نفسها.

القتل في سبيل إنقاذ العالم

يستعير (بروكر) في الحلقة الخامسة أجواء أفلام الرعب في السبعينات وسلسلة سيد الأمنيات، لمناقشة واقع سياسي يتعلق بصعود اليمين في بريطانيا في بداية الثمانينات. (نيدا- انجانا فاسن) الموظفة الهندية في محل أحذية، يظهر لها شيطان لينبئها بنهاية العالم إن لم تفدِه بقتل ثلاثة أشخاص. تفشل نيدا في الجريمة الثالثة، التي استهدفت فيها مرشحاً عنصرياً للرئاسة، ويقبض عليها، وبالفعل تنتهي مهلة الشيطان، وينتهي العالم إثر حرب نووية.

القصة برمتها تتبع نمط الكوميديا السوداء مع نفحات من أساليب الأخوين كوين، وتطرح سؤالاً جوهرياً عن الفعل الثوري والقتل لإنهاء كارثة العالم، والمهلة التي كانت بحوزتنا، وعن تشكل اليمين وتغير العالم برمته، لتكون من أفضل حلقات الموسم رغم خروجها عن روح المسلسل.

الجنس في الفضاء

أما في الحلقة الثالثة، “ما وراء البحر”، فتعود موجة بلاك ميرور الديستوبية من جديد، عبر فرضية تحدث لرائدَي فضاء في رحلة بحثية في الستينات من القرن المنصرم. يستطيعان مواصلة حياتهما على الأرض عبر جسد تكنولوجي يتم زرع وعيهما به، وهذا الجسد هو صورة حرفية عن الأصل البشري ولكن مع انعدام القدرة على ممارسة الجنس.
تقوم مجموعة من الهيبيز باستعارة لمجموعة القاتل (تشارلز  مانسون) بقتل عائلة (ديفيد-جورج هارتنت) كفعل تمردي ضد الثورة التكنولوجية العالمية، بل تمكن قراءتها كمحاكاة لجرائم قتل النجوم التي قام بها أتباع تشارلز مانسون حين قتلوا الممثلة شارون تايت عام 1969.

إثر هذه المأساة، أي فقدان الجسد، يستعير (ديفيد) جسد صديقه لتمضية بعض الوقت على الأرض، ليقع في حب زوجته. يتم طرح أسئلة جوهرية حول ازدواجية الهوية وإن كانت تتعلق فقط بالوعي مع غياب تام لمسألة الوجود الإنساني المادي، بل ويُطرح سؤال حول الجنس نفسه، وارتباطه بالجسد الماديّ، الشأن يشابه التساؤل الحالي حول الجنس مع الروبوتات، أو الروبوتات التي تحوي وعي الموتى.

هل كنا أحراراً؟ 

لم يستطع المسلسل الحفاظ على زخمه ذاته على المستوى الجماهيري، وتكسرت ميزته الأساسية المتعلقة بنوعه لعوامل كثيرة، ما دفع (بروكر) إلى بناء سلسلة من الحلقات تحاول تبيان الواقع الأعمى بالكامل، ضمن خطاب راديكالي يساري -غير جديد- يهاجم فيه الإنسان المعاصر ويتحدث عن عالم أشبه بقهوة من غير كافيين، عالم إنساني من دون نزعة إنسانية ويصور لنا الذكاء الصناعي باعتباره خطوة من البشرية للتخلي عن السيادة وليس توكيدها. ليرمي سهامه على إقطاعيي التقدم الجدد.

نحن كنسخ رقمية اليوم، يبدو من المستحيل علينا المشاركة في مستقبل الإنسان، وخياراتنا محددة بين أن نبيع حريتنا لأجل التطور أو أن نمنعه. وهنا، ربما سيعود السؤال الأزلي عن معنى الحرية. هل بالفعل كنّا أحراراً من قبل؟ هل كنا نسيطر بالفعل على أكثر مما أدركنا؟ أم أن الحرية تغيرت ماهيتها بالفعل مع تغير جوهري في الوعي الإنساني، وانتهاء فكرة الإبداع البشري على أساس الجهد والمعاناة. ربما بإمكاننا الاستلقاء فقط في غرف الطابق العلوي من القصر مع انشغال الخدم (الذكاء الصناعي) بأمور القصر في الطابق السفلي من دون أن يعنينا الأمر بشيء.

15.07.2023
زمن القراءة: 7 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية