fbpx

العقل الأيديولوجي وقصف القواعد التي تقصف السوريين؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

العقل الأيدلوجي الرث يضع القضايا في مواجهة بعضها، بدل أن تكمل بعضها، فالقضية الفلسطينية عنده تبدو في مواجهة القضية السورية، وحرية السوريين تبدو بديلاً لحرية الفلسطينيين..

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كالعادة، عجّت مواقع التواصل الاجتماعي بمناقشات حادة وصاخبة، وبمواقف متضاربة، في شأن الموقف من القصف الأميركي الذي استهدف بعض قواعد، النظام أو مواقعه، التي تقصف السوريين منذ سنوات، والتي تأخذ على معظم السوريين ترحيبهم بالضربة، أو سكوتهم عنها.

وإذ استثنينا من المواقف تلك التي تبطن عداءً صريحاً لحقوق السوريين، وممانعة توقهم إلى الحرية والكرامة، وتمردهم على النظام، مقابل مساندتها المطلقة النظام، باعتباره نظاماً “مقاوماً” و”ممانعا”، ويتعرض لمؤامرة خارجية، بحسب زعمها، فإن المواقف الأخرى، التي تبدو مضطربة، تصدر عن عقل أيديولوجي، ضيق، وشمولي، ومغلق، أو بمعنى آخر عقل هوياتي، يقسم العالم إلى قسمين: أخيار وأشرار، أي إلى فسطاطين، لأن العقل الأيديولوجي، هو عقل ديني أيضاً، لأن الأيديولوجيات على هذا النحو تتحول إلى أديان أرضية وإلى هويات، وتالياً فهي تصدر عن طوائف، ومذاهب، حتى وإن كانت تنتمي إلى زمن الحداثة، وإلى الأرض وليس إلى السماء.

العقل الأيديولوجي الذي نتحدث عنه يرى أن الضربة وجهت من قبل الإمبرياليات الأميركية والفرنسية والبريطانية، وهي استهدفت “الأمة”، عند بعض اليساريين والقوميين والإسلاميين (كما حصل مع بيان صادر عن حركة حماس، مثلاً، كأن الأمة باتت تختصر برئيس أو بملك أو بسلطة، أي أنها عندهم لا تتحدد بالشعب، الذي ينبغي أن يكون مصدر السيادة، والذي يفترض أنه يتألف من مواطنين أحرار ومتساوين).

هكذا يتم تسطيح الأمر، أو التعامل معه بطريقة جد بسيطة، في واقع معقد، وفي ظل صراع شديد التعقيد والتداخل، وهو أمر مريح للعقل الأيديولوجي، سياسياً وضميرياً، ببلادته وبتنكره للواقع وأنفه من الحقيقة.

فمن جهة، إن العقل الأيديولوجي يتناسى أنه لا يمكن اختزال الولايات المتحدة الأميركية، مثلاً، بأنها مجرد امبريالية، وهي كذلك في ما يخصّ سياساتها الخارجية والاقتصادية، فهي اليوم أكبر محفز ومنتج في الحضارة البشرية، في العلوم والتكنولوجيا، في كل المجالات، وهي أكبر منفق على البحوث العلمية في العالم. هكذا، فإن أصحاب وجهة النظر هذه ينسون أو ينكرون أنهم يتعاملون، في كل لحظة، مع منتجات الولايات المتحدة، وأنهم لا يمكنهم أن يستغنوا عنها، من استخدامهم أجهزة الكومبيوتر والانترنت والموبايل، إلى الأدوية والأجهزة الطبية، ووسائل الإعلام والمواصلات.. إلخ. والولايات المتحدة هذه، الامبريالية، هي نفسها التي أوقفت المجازر التي استهدفت المسلمين في يوغوسلافيا السابقة، وهي التي لعبت الدور الأكبر في إنهاء “داعش” في سوريا في شرق الفرات، في الرقة ودير الزور، وهي التي تحاول أن تلعب دوراً في إيقاف الكارثة السورية، وإن كان بأقل جهد ممكن؛ وهو ما يؤخذ عليها.

المعنى أنه تمكن معاداة بعض مواقف الولايات المتحدة، ولا سيما بخصوص دعمها إسرائيل، فهذا لا يمكن التسامح معه، لكن لا يمكن التصرف بنوع من العداء المطلق لها، كدولة، فهذا عداء عدمي، وأيديولوجي، ولا جدوى منه، فحتى روسيا، التي يتعامل معها البعض كأنها الاتحاد السوفياتي (السابق)، أو كأن زعيمها الأوحد فلاديمير بوتين، هو فلاديمير لينين، حتى روسيا هذه تستجدي الولايات المتحدة الأميركية أن ترفع عنها العقوبات “التكنولوجية” التي فرضتها عليها. وفي الأخير فإن الذين يتحدثون عن الضربة، ولنتجاهل هنا الذين سكتوا أو أنكروا أن النظام يقصف شعبه بالبراميل وبالصواريخ الارتجاجية والفراغية، وأنه شرد الملايين وقتل مئات آلاف السوريين، ودمر عمرانهم، ولنخاطب الذين لا ينكرون ذلك، فهل القصف الأميركي- الفرنسي- البريطاني استهدف مدنيين؟ حتى الناطق الرسمي ادعى مقتل مدنيين اثنين، علماً أن كل المواقع المقصوفة هي مواقع عسكرية أو تابعة لقوى عسكرية، أو تخدم الجهد العسكري؟ أما في ما يخص الاعتداء على السيادة، فالسيادة هي للشعب، الذي يقتل ويدمر ويشرد فيه النظام، الذي تخلى عن سيادته لإيران وروسيا.

من جهة ثانية، فإن العقل الأيديولوحي، المغلق، والضيق، والشمولي، في كسله، لا يرى الأسباب، وإنما يرى النتائج، لا يرى الجوهر وإنما يرى المظهر. هكذا فإن الذين يتحدثون عن الضربة الأميركية- الفرنسية-ـ البريطانية، التي وجهت إلى مواقع النظام، عقاباً له على استخدامه الكيماوي، يتناسون، أولاً، أن هذا عقاب على سلاح محرم دولياً، أي أن الإمبرياليات الأميركية- الفرنسية- البريطانية، لم تفعل شيئاً، طوال السنوات الماضية، لكبح النظام عن قصف شعبه، بالبراميل المتفجرة والقذائف الصاروخية من البر والجو، ولا لإقامة مناطق حظر جوي أو مناطق آمنة، ولا للحؤول دون التدخل الإيراني والروسي، ولا إزاء التلاعب بالمفاوضات. ثانياً، لقد تبين، عبر الضربة، أن الامبرياليات تلك يمكنها أن تفعل الكثير لكنها لم تفعل شيئاً، لأنها لا تريد إسقاط نظام المقاومة والممانعة، لأنه أكثر نظام يسيطر على شعبه ويضعفه، ويحرمه حقوقه، ولأنه أكثر نظام يحفظ أمن إسرائيل من جبهته في الجولان، منذ حرب تشرين (1973). ثالثاً، لا يرى هؤلاء أن النظام هو الذي تسبب بفتح البلد على مصراعيه للتدخلات الخارجية، إن بإصراره على انتهاج الحل الأمني، بطريقة متوحشة، أو بإدخاله إيران وميليشياتها وروسيا في حربه ضد شعبه.

تبقى مسألة مهمة، وهي أن العقل الأيديولوجي، لا يأخذ بالقيم الإنسانية، لأنه لا يقيم وزناً لها، إذ هو يتعامل مع القضايا، لا مع البشر وحقوقهم، فالمسألة عنده مواجهة الامبريالية والصهيونية، وعلى الأغلب في الإنشاءات وفي العواطف، لكنه في الواقع يسكت عن قمع المجتمعات التي من المفترض أن مواطنيها هم الذين سيقاومون الامبريالية وإسرائيل، كما يسكت عن مصادرة حقهم في الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، التي من المفترض أنها هي التي تقويهم وتقوي مجتمعاتهم، باعتبار أن المجتمعات المقهورة أو الضعيفة أو المستلبة حريتها لا يمكنها ان تقاوم شيئا، على ما بينت التجربة. إضافة إلى ذلك فإن هذا  العقل الأيدلوجي الرث يضع القضايا في مواجهة بعضها، بدل أن تكمل بعضها، فالقضية الفلسطينية عنده تبدو في مواجهة القضية السورية، وحرية السوريين تبدو بديلاً لحرية الفلسطينيين، وهكذا، في حين أن قيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة لا تتجزأ، ولا يمكن وضعها في مواجهة بعضها بعضاً، إذ لا يمكن الانتصار لحق شعب على حساب شعب آخر، لا سيما أن الانتصار لتلك القيم لا يشترط عليه، كما بإمكان أي أحد أن يكون مع موقف الولايات المتحدة في أمر وضدها في أمر آخر، تماماً مثلما يمكن أن تكون ضد الاستبداد، أي ضد نظام الأسد، وفي الوقت ذاته ضد إسرائيل، الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والمصطنعة، إذ لا جريمة تغطي على أخرى، ولا مجرم يبرر آخر، أو يبيّض صفحته.