fbpx

مخيم اليرموك : “تعفيش” فلسطين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

التعفيش الذي دأب عليه عناصر الجيش السوري بعد سيطرته على أراض “محتلّة من الإرهابيين” سيكون حاضراً في قلب الصورة التي تظهر المخيّم مدمّراً بالكامل وسط ابتهاج الجنود واغتنامهم كلّ ما طاولته أياديهم من غسّالات وبرّادات وأثاث منزليّ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

من بين صور كثيرة لمخيّم اليرموك الذي سوّي بالأرض، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، استوقفتني صورة سبق وتكرّرت في مدن وبلدات سورية أخرى، تُظهر أبنيةً مدمّرة في البعد الثاني وعشرات الجنود في البعد الأول يحملون ما تيسّر من أثاث وأدوات منزلية اغتنموها بعد “تحرير” المخيّم.

وللحديث عن مخيّم اليرموك رمزية خاصة في الذاكرة الفلسطينية ومعاني دلالية لا تتوقّف عند ما هو “فلسطيني” فحسب، بل تتعدّاه إلى التداخل مع كلّ ما هو “سوري” في السياسة والتجربة الحزبية والحياة الاجتماعية. ذلك أنّ تلك المساحة الجغرافية الممتدّة في جنوب العاصمة السورية دمشق، والتي قامت بشكل رئيسي سنة 1957 نتيجة لجوء آلاف الفلسطينيين بعد نكبة 48، لا تشكّل حيّزاً منفصلاً عن الأرض السورية كما هو حال معظم مخيّمات الشتات في سوريا ولبنان والأردن.

ولا يقطن المخيّم – الذي بلغ تعداد سكّانه 800 ألف نسمة عام 2010 بحسب الأرقام الرسمية ووكالة “الأنروا” – لاجئون فلسطينيون فقط، بل يتشارك سوريو الطبقات الفقيرة تلك المساحة المتاخمة لأحياء دمشقية كالحجر الأسود والتضامن والقدم والعسالي. ومع بداية الثورة السورية في مارس/ آذار 2011 تحوّل المخيّم إلى ملجأ لمئات العائلات والناشطين من جحيم القصف والملاحقات الأمنية، وشارك فلسطينيو المخيّم في مختلف النشاطات التضامنية مع الثورة وتعرّضوا لما يتعرّض له السوريون في درعا وحمص وبانياس.

في خريف 2012 خلق النظام السوري ما يسمّى “اللجان الشعبية المسلّحة” التي عملت على ملاحقة الناشطين الفلسطينيين السوريين وشاركت تلك اللجان بالتعاون مع فصائل فلسطينية موالية للنظام كـ”القيادة العامة” (أحمد جبريل) و”فتح الإنتفاضة” في أولى الاشتباكات العسكرية مع الجيش السوري الحرّ الذي دخل إلى المخيم في كانون الأول من العام ذاته. تحوّل المخيم إلى منطقة استهداف دائمة لطائرات النظام وصواريخه وكانت أولى المجازر عند مدرسة الكرمل في شارع المدارس وعند جامع عبد القادر الحسيني في شارع عز الدين القسّام.

واستمرّ الوضع على حاله في ظلّ اتهامات لحركة حماس بتأجيج سكّان المخيّم وتحريضهم على النظام حتى بدأت القوات السورية وعناصر الفصائل الموالية بحصار المخيم في يوليو/ تموز 2013، الأمر الذي دفع آلاف السكّان إلى هجرة المخيّم وأدّى دخول تنظيم “داعش” وسيطرته على أجزاء كبيرة منه، إضافة إلى تركّز عناصر لجبهة النصرة في شمال المخيّم إلى اشتداد المعارك ليخوض النظام جولات متقطّعة من القصف على “عاصمة الشتات الفلسطيني” انتهت منذ أيام بتدمير 90 في المئة من أبنيته وتهجير كلّ سكانه- لم يبقَ فيه إلا 3 آلاف شخص من كبار السنّ- وتوقيع اتفاق برعاية روسية (يرفض النظام الاعتراف به) يقضي بخروج مسلّحي “داعش” العالقين باتجاه البادية السورية.

وبعيداً من سير الاتفاق الذي تمّ توقيعه والكلام الكثير الذي يقال في المفاوضات والاشتباك الروسي- الإيراني على مواضيع عالقة من ضمنها منطقة دمشق الجنوبية، فإنّ تجربة جديدة يكتبها الأسديون في كتاب النضال اليومي لتحرير فلسطين، بدأت في حرب الوكالة التي شنّها اليمين المسيحي (الجبهة اللبنانية) على فلسطينيي مخيم تلّ الزعتر وبلغت ذروتها في حصار مخيمات بيروت والجنوب من قبل “حركة أمل” في منتصف الثمانينات، واتّخذت أبشع أشكالها في محاربة ياسر عرفات عسكرياً وسياسياً، وكان الرهان السوري على سلخ فلسطينيي اليرموك عن معاش إخوانهم في لبنان وبقية الدول العربية والتزامهم بـ”القرار الفلسطيني المستقلّ” يبوء دائماً بالفشل، وما خروج الآلاف في دمشق لتحية عرفات سنة 1988 في تشييع خليل الوزير إلا تحدٍّ لنظام حافظ الأسد الذي كان مهجوساً ككلّ القادة العرب بمصادرة القرار الفلسطيني.

وحصّة الفلسطينيين في اليرموك من الجحيم الأسدي بمآلاته الأكثر هزلية وسفالة، لن تكون ناقصة هذه المرة، فالتعفيش الذي دأب عليه عناصر الجيش السوري بعد سيطرته على أراض “محتلّة من الإرهابيين” سيكون حاضراً في قلب الصورة التي تظهر المخيّم مدمّراً بالكامل وسط ابتهاج الجنود واغتنامهم كلّ ما طاولته أياديهم من غسّالات وبرّادات وأثاث منزليّ.

ولا يبدو التعفيش الماديّ منفصلاً عن التعفيش المعنوي في مخيال الأسديين، إذ لا وجود لفلسطين إلا في سياقات تفرضها ضرورات وأجندات ومصالح، ولا قيمة لشعبها إلا في إطار مزايدات رخيصة وليس مشهد الدمار والأبنية التي استحالت ركاماً إلا دليلاً إضافياً على الخلاء الذي يريده النظام لتلك المساحة الجغرافية. الخلاء بوصفه أرضاً محروقة غير مأهولة بالبشر ولا بقاء فيها لأي حجر على حجر.

والحال أنّ المحاججة التي كانت تسوّقها أدوات النظام الإعلامية في تبريرها تدمير “عاصمة الشتات” والمخيم الأكثر رمزية في تاريخ الفلسطينيين، والتي تستند إلى سرديّات تغلغل الإرهابيين في المخيم وسيطرتهم عليه- وهو أمر صحيح إلى حدّ ما- تقودنا إلى تاريخ قريب بعيد جعل من مخيّمات لبنان وجهاً للحصار والموت تحت حجّة محاربة “العرفاتية”. وتلك مفارقة وليست استثناء في حسابات النظام الدائمة التي تحيلنا إلى منطق سافل يجعل من الحرب ومساراتها بما فيها صناعة الأعداء، تسليماً بحتمية تأخذ في طريقها آلاف المدنيين ضحايا لتعبّد بجثثهم طريق القدس.