fbpx

عن رأسي الذي لا أخاف مما فيه!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم أعد أعلم كيفية التعامل مع أي شخص يمر ضمن حياتي، ولكن أعلم حق المعرفة، بأن اليوم، وفي كل موقف يخبرني فيه الشخص على أن أقول ما أفكر فيه، أرد عليه بأن لو فتشوا رأسي لصادروه، مثل كل ما هو مصاد من أساسيات ما نسعى نحوه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الساعة السابعة وعشر دقائق صباحاً، أسلك طريق دمشق – طرطوس، وهو طريق العودة إلى “الوطن”، 4 ساعات سفر سأقطعها مرتين اليوم، إذ إنني سأعود بعد عدة ساعات إلى دمشق، وكأني أعمل كسائق على خط سفر بين المحافظتين.

أعود إلى طرطوس من أجل إصدار ما يسمى بموافقة سفر، الورقة التي توقفت أحلام العديد من السوريين وطرقهم بسببها، إذ أصبحت شرطاً أساسياً لعبور الحدود السورية.

تتعامل معنا هذه البلاد، وكأنها سجن كبير، نحتاج فيه إلى توقيع وموافقة عند كل خروج، هذه الموافقة مرتبطة بشعبة التجنيد الإلزامي، التي تعطيك الضوء الأخضر، بأن أمور الخدمة العسكرية الإلزامية سليمة لديك، وبإمكانك الخروج من البلاد.

“لو فتشوا رأسي لصادروه”

“لو فتشوا رأسي لصادروه”، هو عنوان  إحدى القصص التي كانت ضمن منهاجنا الدراسي، كتبت هذه القصة الكاتبة السورية غادة السمان، وتروي فيها كيف تعاملوا معها في مطار باريس بسبب جنسيتها، وتصف التفتيش الدقيق الذي تعرضت له حينذاك.

 شغل تفكيري هذا العنوان لفترة طويلة، عديدة هي اللحظات التي قصدت توثيقها في حياتي الدراسية، أحاول بكل ما أملك، أن أعرف سبب تلك المشاكل النفسية التي تظهر على سلوكي، وأعود لأربط كل مشكلة بلحظة ما في عمر معين، كما طلبت مني معالجتي النفسية، إذ عليّ أن أبحث في الأسباب دوماً.

 عند قراءة تلك القصة، في ذلك الوقت، لم أتعاطف مع الكاتبة، ولم أتفق مع ذلك العنوان، أحببت دوماً أن أقول كل ما يجول في رأسي، من دون أن أفكر في نتائجه، أتشابه بتلك الصفة مع العديد من أبناء جيلي، الذين كانوا يحملون قضايا الوطن على أكتافهم، تلك الفقاعة الكبيرة التي تم ترسيخها في عقولنا، ألا وهي الوطن. 

تتعامل معنا هذه البلاد، وكأنها سجن كبير، نحتاج فيه إلى توقيع وموافقة عند كل خروج، هذه الموافقة مرتبطة بشعبة التجنيد الإلزامي، التي تعطيك الضوء الأخضر، بأن أمور الخدمة العسكرية الإلزامية سليمة لديك، وبإمكانك الخروج من البلاد.

“شمس الهوى في النفوس لاحت”!

كانت ريم البنا إحدى أهم الشخصيات التي مرّت في حياتي، خضت معها العديد من الأحاديث في الفترة التي بدأت فيها الحرب في سوريا، كانت كل خطوة أو موقف ما، طريقاً نحو الهلاك، أشبه بكل العتبات التي تتحدد طريقة صعودها معتمدة على ما هو شكل التنازل الذي ستقدمه.

 كانت ريم وسلوكها أشبه بـالملجأ الأخير الذي أعود إليه، عند كل تردد أواجهه في التعبير عمّا يجول في رأسي، في إحدى الفترات كانت البلاد على كف عفريت؛ كما يقال، وهو شكل البلاد منذ ذلك الوقت وحتى اليوم،  دون أي تغيير سوى درجة أشد من السوء، كنت في ذلك الوقت أكتب فكرة من الممكن أن تأخذ بي نحو الهاوية، وتسكنني حالة من  الخوف الشديد، كانت كل النتائج قاسية، تتناسب شدة قسوتها طردياً مع ما تكتبه.

 كانت ريم في تلك الفترة قد دخلت مرحلة علاجها الثانية، أرسلت لها ما كتبته مرفقاً بمخاوفي الكبيرة، أتاني ردها مع اعتذارها عن التأخر في الإجابة، وأرسلت رابط أغنيتها “شمس الهوى في النفوس لاحت، فأشرقت عندها القلوب ، الحب أشهى إلي مما يقوله العارف اللبيب”.

استمعت إلى الأغنية، وكأن ريم في ذلك الوقت أرادت أن تحميني فقط، أن تعيش الحب في تفكيرك هو أشهى من كل ما يمكن أن يقال عنه. 

“الموت عمل شاق”!

زرت بيروت في الأسابيع الماضية، زرتها في محاولة مني للتفريغ عن كل قساوة ما مررت به في الفترة الماضية،  أقصد في كل زيارة لبيروت مكتبة أنطوان، في هذه الزيارة طلب منّي أحد الأصدقاء أن أجلب نسختين لكتابين “ممنوعين” من النشر في سوريا.

جلبت الكتابين، وجذبني خالد خليفة إليه مرة أخرى، لطلب نسخة من كتابه “الموت عمل شاق”، كانت وفاة خالد مسماراً أخيراً في نعشنا نحن من نسكن في الداخل،  بدأت بقراءة ذلك الكتاب يوم أمس، بعد فترة لم أستطع فيها أن أعيد قراءة أي فكرة كتبها خالد.

 كانت ابتسامته وجلساته وكؤوس خمره، تلاحقني في كل مرة فقدت فيها الانتماء لتلك البقعة الجغرافية، وكأنه كان يرسل لنا رسالة ثابتة، مفادها أنه يحب هذه البلاد، حتى في خرابها الأخير، أن تختار أسوأ بقاع العالم للعيش، أن تختار ما يتمنى كل فرد أن يبتعد عنه،  أن تختار ما يمكنك أن تقضي فيه وقتك، من دون أي جهد مبالغ فيه، سوى الجهد الذي تخسر من أجله ما تبقى من شخصيتك، هشاشتك وأحلامك، أو ما تبقى من أمنياتك،  وتسعى لتحقيقه في مكان لا يمكن أن تحقق فيه، أقصى من يوم تخرج فيه بساعات زائدة من النوم، وساعات أقل من التفكير الزائد، لحظة إضافية من الأمان، محاولة جديدة نحو الاستقرار.

كان خالد حرّاً بما فيه الكفاية، ليروي كل ما يجول في رأسه ضمن رواياته “الممنوعة” من النشر في بلاده التي أحبها، يجلس يناقش ويتحدث، وعند كل ذروة يبلغها يبتسم ويقول: “بصحتكم”،  وكأنه يقول “حتى لو فتشوا رأسي وصادروه لن أتوقف!”.

أعود اليوم إلى غادة السمّان وأقوم بتطبيق الجملة على تجاربي، لم أفضّل في أي يوم، عدم قدرتي على البوح بكل ما أفكّر به، كان كل ما مررت به ورأيته، يخبرني أن الحقيقة لن تزول، وأن الشعوب المحقة ستأخذ مكانتها وحقوقها، ولكن ما نشاهده اليوم، نتيجة كل ما نمر به، كان سبباً في زعزعة كل أفكاري وكل قيمي، لم تنتهِ معاناتنا إلى حد هذه اللحظة في سوريا، تصلنا في كل يوم أخبار غزة وكل المجازر التي تحصل، ولم يتغير شيء.

لم أعد أعلم كيفية التعامل مع أي شخص يمر ضمن حياتي، ولكن أعلم حق المعرفة، بأن اليوم، وفي كل موقف يخبرني فيه الشخص على أن أقول ما أفكر فيه، أرد عليه بأن لو فتشوا رأسي لصادروه، مثل كل ما هو مصاد من أساسيات ما نسعى نحوه.

كانت ريم وخالد شكلين متوازيين لطرح ما يفكران به، وكان الإرث الخاص بهما، طريقاً نسلكه اليوم إلى أن نفقد القدرة على المضي قدماً، والاستمرار في السعي، هو ما أملك الثقة الكاملة تجاهه، في كل وقت مضى وسيمضي.

فداء زياد - كاتبة فلسطينية من غزة | 14.06.2024

عن تخمة الشعور واختبارات النجاة في غزة

ليلة اقتحام رفح، كانت حيلتي أن أستعير أقدام الطبيبة أميرة العسولي، المرأة الطبيبة التي جازفت بحياتها لتنقذ حياة مصاب، فترة حصار الجيش الإسرائيلي مستشفى ناصر في خانيونس، كي أحاول إنقاذ أخي وعائلته وأختي وأبنائها المقيمين في الجهة المقابلة لنا، لأنهم كانوا أكثر قرباً من الخطر.
17.05.2024
زمن القراءة: 4 minutes

لم أعد أعلم كيفية التعامل مع أي شخص يمر ضمن حياتي، ولكن أعلم حق المعرفة، بأن اليوم، وفي كل موقف يخبرني فيه الشخص على أن أقول ما أفكر فيه، أرد عليه بأن لو فتشوا رأسي لصادروه، مثل كل ما هو مصاد من أساسيات ما نسعى نحوه.

الساعة السابعة وعشر دقائق صباحاً، أسلك طريق دمشق – طرطوس، وهو طريق العودة إلى “الوطن”، 4 ساعات سفر سأقطعها مرتين اليوم، إذ إنني سأعود بعد عدة ساعات إلى دمشق، وكأني أعمل كسائق على خط سفر بين المحافظتين.

أعود إلى طرطوس من أجل إصدار ما يسمى بموافقة سفر، الورقة التي توقفت أحلام العديد من السوريين وطرقهم بسببها، إذ أصبحت شرطاً أساسياً لعبور الحدود السورية.

تتعامل معنا هذه البلاد، وكأنها سجن كبير، نحتاج فيه إلى توقيع وموافقة عند كل خروج، هذه الموافقة مرتبطة بشعبة التجنيد الإلزامي، التي تعطيك الضوء الأخضر، بأن أمور الخدمة العسكرية الإلزامية سليمة لديك، وبإمكانك الخروج من البلاد.

“لو فتشوا رأسي لصادروه”

“لو فتشوا رأسي لصادروه”، هو عنوان  إحدى القصص التي كانت ضمن منهاجنا الدراسي، كتبت هذه القصة الكاتبة السورية غادة السمان، وتروي فيها كيف تعاملوا معها في مطار باريس بسبب جنسيتها، وتصف التفتيش الدقيق الذي تعرضت له حينذاك.

 شغل تفكيري هذا العنوان لفترة طويلة، عديدة هي اللحظات التي قصدت توثيقها في حياتي الدراسية، أحاول بكل ما أملك، أن أعرف سبب تلك المشاكل النفسية التي تظهر على سلوكي، وأعود لأربط كل مشكلة بلحظة ما في عمر معين، كما طلبت مني معالجتي النفسية، إذ عليّ أن أبحث في الأسباب دوماً.

 عند قراءة تلك القصة، في ذلك الوقت، لم أتعاطف مع الكاتبة، ولم أتفق مع ذلك العنوان، أحببت دوماً أن أقول كل ما يجول في رأسي، من دون أن أفكر في نتائجه، أتشابه بتلك الصفة مع العديد من أبناء جيلي، الذين كانوا يحملون قضايا الوطن على أكتافهم، تلك الفقاعة الكبيرة التي تم ترسيخها في عقولنا، ألا وهي الوطن. 

تتعامل معنا هذه البلاد، وكأنها سجن كبير، نحتاج فيه إلى توقيع وموافقة عند كل خروج، هذه الموافقة مرتبطة بشعبة التجنيد الإلزامي، التي تعطيك الضوء الأخضر، بأن أمور الخدمة العسكرية الإلزامية سليمة لديك، وبإمكانك الخروج من البلاد.

“شمس الهوى في النفوس لاحت”!

كانت ريم البنا إحدى أهم الشخصيات التي مرّت في حياتي، خضت معها العديد من الأحاديث في الفترة التي بدأت فيها الحرب في سوريا، كانت كل خطوة أو موقف ما، طريقاً نحو الهلاك، أشبه بكل العتبات التي تتحدد طريقة صعودها معتمدة على ما هو شكل التنازل الذي ستقدمه.

 كانت ريم وسلوكها أشبه بـالملجأ الأخير الذي أعود إليه، عند كل تردد أواجهه في التعبير عمّا يجول في رأسي، في إحدى الفترات كانت البلاد على كف عفريت؛ كما يقال، وهو شكل البلاد منذ ذلك الوقت وحتى اليوم،  دون أي تغيير سوى درجة أشد من السوء، كنت في ذلك الوقت أكتب فكرة من الممكن أن تأخذ بي نحو الهاوية، وتسكنني حالة من  الخوف الشديد، كانت كل النتائج قاسية، تتناسب شدة قسوتها طردياً مع ما تكتبه.

 كانت ريم في تلك الفترة قد دخلت مرحلة علاجها الثانية، أرسلت لها ما كتبته مرفقاً بمخاوفي الكبيرة، أتاني ردها مع اعتذارها عن التأخر في الإجابة، وأرسلت رابط أغنيتها “شمس الهوى في النفوس لاحت، فأشرقت عندها القلوب ، الحب أشهى إلي مما يقوله العارف اللبيب”.

استمعت إلى الأغنية، وكأن ريم في ذلك الوقت أرادت أن تحميني فقط، أن تعيش الحب في تفكيرك هو أشهى من كل ما يمكن أن يقال عنه. 

“الموت عمل شاق”!

زرت بيروت في الأسابيع الماضية، زرتها في محاولة مني للتفريغ عن كل قساوة ما مررت به في الفترة الماضية،  أقصد في كل زيارة لبيروت مكتبة أنطوان، في هذه الزيارة طلب منّي أحد الأصدقاء أن أجلب نسختين لكتابين “ممنوعين” من النشر في سوريا.

جلبت الكتابين، وجذبني خالد خليفة إليه مرة أخرى، لطلب نسخة من كتابه “الموت عمل شاق”، كانت وفاة خالد مسماراً أخيراً في نعشنا نحن من نسكن في الداخل،  بدأت بقراءة ذلك الكتاب يوم أمس، بعد فترة لم أستطع فيها أن أعيد قراءة أي فكرة كتبها خالد.

 كانت ابتسامته وجلساته وكؤوس خمره، تلاحقني في كل مرة فقدت فيها الانتماء لتلك البقعة الجغرافية، وكأنه كان يرسل لنا رسالة ثابتة، مفادها أنه يحب هذه البلاد، حتى في خرابها الأخير، أن تختار أسوأ بقاع العالم للعيش، أن تختار ما يتمنى كل فرد أن يبتعد عنه،  أن تختار ما يمكنك أن تقضي فيه وقتك، من دون أي جهد مبالغ فيه، سوى الجهد الذي تخسر من أجله ما تبقى من شخصيتك، هشاشتك وأحلامك، أو ما تبقى من أمنياتك،  وتسعى لتحقيقه في مكان لا يمكن أن تحقق فيه، أقصى من يوم تخرج فيه بساعات زائدة من النوم، وساعات أقل من التفكير الزائد، لحظة إضافية من الأمان، محاولة جديدة نحو الاستقرار.

كان خالد حرّاً بما فيه الكفاية، ليروي كل ما يجول في رأسه ضمن رواياته “الممنوعة” من النشر في بلاده التي أحبها، يجلس يناقش ويتحدث، وعند كل ذروة يبلغها يبتسم ويقول: “بصحتكم”،  وكأنه يقول “حتى لو فتشوا رأسي وصادروه لن أتوقف!”.

أعود اليوم إلى غادة السمّان وأقوم بتطبيق الجملة على تجاربي، لم أفضّل في أي يوم، عدم قدرتي على البوح بكل ما أفكّر به، كان كل ما مررت به ورأيته، يخبرني أن الحقيقة لن تزول، وأن الشعوب المحقة ستأخذ مكانتها وحقوقها، ولكن ما نشاهده اليوم، نتيجة كل ما نمر به، كان سبباً في زعزعة كل أفكاري وكل قيمي، لم تنتهِ معاناتنا إلى حد هذه اللحظة في سوريا، تصلنا في كل يوم أخبار غزة وكل المجازر التي تحصل، ولم يتغير شيء.

لم أعد أعلم كيفية التعامل مع أي شخص يمر ضمن حياتي، ولكن أعلم حق المعرفة، بأن اليوم، وفي كل موقف يخبرني فيه الشخص على أن أقول ما أفكر فيه، أرد عليه بأن لو فتشوا رأسي لصادروه، مثل كل ما هو مصاد من أساسيات ما نسعى نحوه.

كانت ريم وخالد شكلين متوازيين لطرح ما يفكران به، وكان الإرث الخاص بهما، طريقاً نسلكه اليوم إلى أن نفقد القدرة على المضي قدماً، والاستمرار في السعي، هو ما أملك الثقة الكاملة تجاهه، في كل وقت مضى وسيمضي.

17.05.2024
زمن القراءة: 4 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية