fbpx

عن التعايش القسري لأهل صيدا مع نفايات المدينة الراكدة في قاع البحر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

ما حجم النفايات المتراكمة تحت البحر في صيدا جنوب لبنان؟ حاولنا الإجابة عن هذا السؤال عبر أدلة من أعماق البحر نفسه، ليتضح أمامنا تعقيدات الملف، وسياسات الصمت المحيطة بالإجابة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تم إعداد هذه المادة بدعم من انترنيوز وايرث جورناليزم  

ما حجم النفايات المتراكمة تحت البحر في صيدا جنوب لبنان؟،السؤال الذي شهد الكثير من محاولات التمييع منذ أعوام عدة، لكن في العام 2017 أعادت  جمعية “لا فساد” فتح ملف النفايات المنثورة في أعماق البحر في لبنان، من خلال فيديوهات صوّرتها في الأعماق.

هذه الفيديوهات نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، فتلقفتها وسائل إعلام عدة، وأعادت فتح الملف مجدداً، كما أجرت إحداها لقاء مع غواص محترف؛ توخياً للدقة، إلا أن نقابة “الغواصين المحترفين” في لبنان، أصدرت بياناً حينها أنكرت فيه المعلومات المتداولة، بخاصة تلك المتعلقة بمدينة صيدا، واعتبرت أن تلك “المعلومات خاطئة وغايتها تشويه صورة المدينة فقط”.

حينها، تبنت صحف عدة رد نقابة “الغواصين المحترفين”، ونشرت نفيها “وجود نفايات في قاع البحر”، وقيامها “بمسوحات دورية على طول الشاطئ اللبناني، وبحملات تنظيف دورية في محيط معمل النفايات في صيدا والجزر المحيطة به”، وتأكيدها أن “الشاطئ الرملي يمنع ثبات النفايات عليه، وإذا وُجد بعضها، فبسبب جرف نهر الأولي للأوساخ، التي تُرمى في مجراه وعلى ضفّتيه، وهو نهر يصبّ في البحر عند مدخل مدينة صيدا”.   

والمفارقة، أن النقابة لم تُرفق مع البيان والحملة الإعلامية، أية إثباتات أو أدلة تكذب تلك الفيديوهات.

في المقابل، تناولت الصحافة لاحقاً، قضية تلوث البحر في لبنان بشكل عام، في حين، أظهرت دراسات أجراها “المجلس الوطني للبحوث العلمية” و”المركز الوطني لعلوم البحار”، ارتفاع نسبة التلوث في بحر صيدا، لكنها لم تأتِ على ذكر وجود نفايات في الأعماق.

الرحلة الميدانيّة

انطلاقاً من هذه الإشكالية، قررنا محاولة الحصول على الأدلة من أعماق البحر نفسه، وسرعان ما اتضحت لنا تعقيدات الملف، بسبب امتناع جهات معنية كثيرة بالملف عن مدّنا بالمعلومات، ورفض آخرين الكشف عن هوياتهم، وذلك؛ وبحسب ما توصلنا إليه، بسبب معاقبة عدد من المتابعين الملف، سواء بإبعادهم من عملهم، أو بإحالتهم على التحقيق، أو بشراء سكوتهم. 

حاولنا تجاوز هذه المعوقات، فتعاونا مع نقيب “الغواصين المحترفين” محمد السارجي، بتسجيل مقطع فيديو، على عمق 27 متراً وعلى بعد نحو كيلومترين من الشاطئ. وفعلاً أظهرت الصور التي التقطها السارجي أن النفايات المتراكمة ليست بجديدة، وبحسب رأي السارجي، فهذه النفايات “علقت بين الصخور في قاع البحر وتحللت وتشابكت وتحولت إلى كتلة واحدة متماسكة، يصعب على التيارات المائية تحريكها، ويعود عمرها إلى أكثر من عشر سنوات، كما أن النفايات الموجودة في القاع حالياً، مصدرها جبل النفايات الجديد والقديم”، وهذا يناقض ما أعلنته النقابة.

لماذا التناقض

بحسب السارجي، فإن “ما ذكره البيان لا يتنافى مع الحقيقة، فما ورد فيه، لا يعني عدم وجود نفايات في البحر، بل يقصد أن المشهد في العام، كان أفضل بكثير، بالمقارنة مع حقبة ما  قبل التخلص من جبل النفايات، الذي سقطت بسببه مئات الأطنان من النفايات في البحر”، وأكد أن “المشهد كان أفضل في تلك الفترة، لأن التيارات دفعت بالنفايات بعيداً، بينما يبدو اليوم سيئاً بسبب عودة جبل النفايات، وبسبب مياه الأنهر التي تجرف النفايات إلى البحر”.

ما استنتجناه أن للحقيقة تتمة، شرحها لنا أحد الخبراء البيئيين الذي فضل عدم نشر اسمه، فأوضح أنه “من الطبيعي ألا يبقى المشهد نفسه عبر السنوات، وذلك بفعل وجود عوامل كالتيارات وعمليات تحلل النفايات، فهناك أنواع من النفايات كالعضوية مثلاً، وهي سريعة التحلل ولا تشكل خطراً، أما الأنواع الأخرى كالبلاستيك، فهي خطيرة وتحتاج إلى قرون لتختفي، وقال: “ذلك لا يعني سوى أن أطنان النفايات قد توزعت في حوض البحر، بدلاً من تراكمها، كما كان المشهد في بداية طرح المشكلة منذ سنوات عدة، أي أن النفايات لم تختفِ، بل ما زالت موجودة، ومهما حاول الناشطون القيام بحملات تنظيف؛ وهم مشكورون، لكنها تبقى في إطار المساهمات لا الحلول”.

تعاني مدينة صيدا من مشكلة نفايات مزمنة سببت تراكم جبل نفايات بعضه انهار في البحر، وقد فشلت المعالجات المعلنة في احتواء القضية، ما أدى الى عودة النفايات وانتشارها. 

معمل صيدا

يُعد معمل معالجة النفايات في منطقة سينيق الواقعة على البحر عند المدخل الجنوبي لصيدا، المصدر الرئيسي لأزمة النفايات الحاصلة في المدينة، على البر وفي البحر. فالشركة المتعهدة للمشروع، التي كان عليها جمع النفايات وفرزها وتوضيبها وتخميرها وإعادة تدويرها، توقفت عن القيام بجميع مهامها، كما باعت معظم أجهزة المعمل، حتى باتت الأبنية والأرض المجاورة للمعمل، عبارة عن مواقع لتكديس النفايات، لتعيد تكوين شكل الجبل، وبحسب توصيف المواطنين، أصبح هناك جبلان بالقرب من البحر، لا يفصل بينهما سوى حاجز إسمنتي، وقد تمكنت “الحركة البيئية في لبنان”، من تصوير هذه الكارثة البيئية من خلال كاميرا “درون”، صيف العام 2023.

كيف وصلت الحال إلى ما هي عليه الآن؟ 

لقد جُرف جبل النفايات الذي كان أصبح معلماً من معالم للمدينة بشكل مؤسف، والذي تراكمت فيه النفايات لعشرات السنين، حتى بلغ ارتفاعه ما بين الخمسين إلى ستين متراً، وحوى أكثر من مليون ونصف مليون طن من النفايات على مساحة ستة هكتارات. 

هذا الجبل تنوعت فيه النفايات ما بين العضوية والبلاستيك والمعادن والأقمشة وحتى النفايات الطبية غير المعالجة، والخطير وجوده على شاطئ البحر، حيث أنه كان ينهار مع حدوث عاصفة جوية، فتقع مئات الأطنان من النفايات في المياه وتغرق في الأعماق، كما كان مصدراً مستمراً للحرائق والروائح الكريهة التي تحاصر المدينة.

ومنذ عشر سنوات، عمدت جهات رسمية لحل هذه الأزمة، إلى بناء جدار عازل، يبدأ من البحر وينتهي على اليابسة، ويساوي 10 بالمئة من مساحة صيدا، فردمت المساحة من البحر المقابلة لجبل النفايات وأسقط الجبل داخل تلك البقعة المستحدثة في البحر.  تسبب ذلك بطمر النفايات، وهو ما أثار استغراب خبراء بيئيون كون هذه الإجراءات كلها حصلت من دون أي محاولة لتطبيق أي معايير بيئية، ولم تُجرَ أي دراسة على أثر ذلك على التربة والمياه. 

وفي العام 2012، تم تشغيل معمل فرز، والذي أنشئ أيضاً قرب البحر لمعالجة نفايات المدينة. وقد كانت للمعمل أقسام عدة، قسم للفرز الأولي، للهضم اللاهوائي، إعادة التدوير، فرم الأقمشة، تحويل الغاز الناتج من عملية التخمير إلى طاقة كهربائية، معالجة العصارة، أي السوائل المترسبة من جميع تلك العمليات… وكانت الطاقة الاستيعابية للمعمل نحو 500 طن يومياً.

بدايات عمل المعمل كانت واعدة، لكن سوء الإدارة والخلافات والتدخلات السياسية جميعها عرقل العمل.

ومع مرور السنوات وتفاقم أزمة نفايات بيروت، التي بدأت في العام 2015، أُحيلت تلك النفايات إلى معمل صيدا بمقابل مادي. ثم انضمت إليها نفايات قضاءي جزين والنبطية. فباتت كمية النفايات التي تدخل يومياً إلى المعمل نحو 370 طناً من خارج صيدا، وما يقارب الـ 220 طناً من قضاءي صيدا والزهراني، أي  ما يفوق قدرته التشغيلية. ومع الأيام، باتت تزداد الكميات التي تعتبر من العوادم، والتي كانت في البداية تبلغ نسبة 21 بالمئة. وبدأت النفايات تتراكم على الأرض المجاورة للمعمل، وباتت العصارة تُرمى في البحر، حتى خرجت الأمور عن السيطرة وتوقف العمل في المعمل وباتت النفايات تتراكم، فكونت جبلين حديثين، وبعدها توقفت الشركة المعنية عن جمع النفايات عن العمل، فغرقت المدينة بأسرها في النفايات.           

في بداياته، لاقى المعمل استحساناً وثناء من كثيرين، خصوصاً مع الترويج لـ”معايير عالمية” تُعتمد فيها، ومع الإعلان عن حجم كميات النفايات التي سيعالجها المعمل. 

مع الأيام، بدأت تزداد نسبة العوادم ويقل الاهتمام بالفرز وتراجع الدور الذي كان يفترض بالمعمل أن يلعبه. 

التقينا بعدد من الموظفين السابقين والحاليين الذين كرروا أن المعمل وقع في الفخ نفسه، الذي سبق أن وقعت به شركة “سوكلين” لجمع النفايات، أي تحصيل أموال من دون مقابل خدماتي فعلي للمواطنين، فالشركة المشغلة للمعمل كانت تتقاضى ما بين 90 إلى 100 دولار على الطن الواحد، وتكسب ما يقارب الثلاثة ملايين دولار سنوياً مما تبيعه من مواد يعاد تصنيعها، وذلك مقابل تكديس النفايات على جانب البحر. وبحسب أحد الخبراء قدّر ما يكسبه المعمل سنوياً بما يصل إلى العشرين مليون دولار. 

ما علاقة السكان ببحر صيدا؟

شاطئ صيدا يبلغ طوله نحو 7 كلم، وخلال جولة سريعة على الشاطئ ولقائنا بمجموعة من الأشخاص الذين يرتادون الكورنيش والبحر، يمكن بسهولة ملاحظة ضعف الوعي بحجم الكارثة التي تهدد البيئة هناك. 

بعض الصيادين مثلاً أنكر أن لتلوث المياه أي تأثير على كمية السمك التي يجمعونها يومياً. لكن الصيادين المحترفين أكدوا أنهم باتوا يضطرون للابتعاد أكثر من النقاط التي كانوا يصطادون منها كي يجدوا الأنواع التي يريدونها، وأن الصعوبة في الصيد قد زادت. وأشاروا إلى رؤيتهم النفايات داخل البحر، تحديداً عند العواصف، وذلك لأن الرياح تسقط أجزاء من جبل النفايات في البحر لتطفو قليلاً على سطحه، ثم تأخذ بها الأمواج، فإما ترمي بها على الشاطئ أو تعود وتسقط في الأعماق. 

على رغم أن شاطئ المسبح الشعبي في صيدا مليء بالنفايات، إلا أنه ملاذ للكثيرين ممن لم يتيسّر لهم دخول المسابح الخاصة والبعض من الملتزمين بالوفاء لهذا المكان الذي يرتادونه منذ طفولتهم، إذ كانت تلك الرقعة تمتاز بالبيئة النظيفة قبل أن يغلبها التلوث.

كثيرون اعتادوا المشهد والروائح حتى باتت وكأنها روتين العلاقة مع الشاطئ.

أحد السباحين الذين يرتادون البحر بشكل شبه يومي، اعتبر أن النفايات ناتجة من مواطنين يرتادون المسبح الشعبي، فهم يأتون بمشترياتهم ويتركونها على الشاطئ. 

وسط هذه الفوضى الصحية والبيئية، يستمر جبل النفايات في التراكم، فيما يحاول سكان المدينة التعايش مع واقع صعب يؤثر بشكل مباشر على حياتهم.

فداء زياد - كاتبة فلسطينية من غزة | 14.06.2024

عن تخمة الشعور واختبارات النجاة في غزة

ليلة اقتحام رفح، كانت حيلتي أن أستعير أقدام الطبيبة أميرة العسولي، المرأة الطبيبة التي جازفت بحياتها لتنقذ حياة مصاب، فترة حصار الجيش الإسرائيلي مستشفى ناصر في خانيونس، كي أحاول إنقاذ أخي وعائلته وأختي وأبنائها المقيمين في الجهة المقابلة لنا، لأنهم كانوا أكثر قرباً من الخطر.
"درج"
لبنان
18.05.2024
زمن القراءة: 7 minutes

ما حجم النفايات المتراكمة تحت البحر في صيدا جنوب لبنان؟ حاولنا الإجابة عن هذا السؤال عبر أدلة من أعماق البحر نفسه، ليتضح أمامنا تعقيدات الملف، وسياسات الصمت المحيطة بالإجابة.

تم إعداد هذه المادة بدعم من انترنيوز وايرث جورناليزم  

ما حجم النفايات المتراكمة تحت البحر في صيدا جنوب لبنان؟،السؤال الذي شهد الكثير من محاولات التمييع منذ أعوام عدة، لكن في العام 2017 أعادت  جمعية “لا فساد” فتح ملف النفايات المنثورة في أعماق البحر في لبنان، من خلال فيديوهات صوّرتها في الأعماق.

هذه الفيديوهات نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، فتلقفتها وسائل إعلام عدة، وأعادت فتح الملف مجدداً، كما أجرت إحداها لقاء مع غواص محترف؛ توخياً للدقة، إلا أن نقابة “الغواصين المحترفين” في لبنان، أصدرت بياناً حينها أنكرت فيه المعلومات المتداولة، بخاصة تلك المتعلقة بمدينة صيدا، واعتبرت أن تلك “المعلومات خاطئة وغايتها تشويه صورة المدينة فقط”.

حينها، تبنت صحف عدة رد نقابة “الغواصين المحترفين”، ونشرت نفيها “وجود نفايات في قاع البحر”، وقيامها “بمسوحات دورية على طول الشاطئ اللبناني، وبحملات تنظيف دورية في محيط معمل النفايات في صيدا والجزر المحيطة به”، وتأكيدها أن “الشاطئ الرملي يمنع ثبات النفايات عليه، وإذا وُجد بعضها، فبسبب جرف نهر الأولي للأوساخ، التي تُرمى في مجراه وعلى ضفّتيه، وهو نهر يصبّ في البحر عند مدخل مدينة صيدا”.   

والمفارقة، أن النقابة لم تُرفق مع البيان والحملة الإعلامية، أية إثباتات أو أدلة تكذب تلك الفيديوهات.

في المقابل، تناولت الصحافة لاحقاً، قضية تلوث البحر في لبنان بشكل عام، في حين، أظهرت دراسات أجراها “المجلس الوطني للبحوث العلمية” و”المركز الوطني لعلوم البحار”، ارتفاع نسبة التلوث في بحر صيدا، لكنها لم تأتِ على ذكر وجود نفايات في الأعماق.

الرحلة الميدانيّة

انطلاقاً من هذه الإشكالية، قررنا محاولة الحصول على الأدلة من أعماق البحر نفسه، وسرعان ما اتضحت لنا تعقيدات الملف، بسبب امتناع جهات معنية كثيرة بالملف عن مدّنا بالمعلومات، ورفض آخرين الكشف عن هوياتهم، وذلك؛ وبحسب ما توصلنا إليه، بسبب معاقبة عدد من المتابعين الملف، سواء بإبعادهم من عملهم، أو بإحالتهم على التحقيق، أو بشراء سكوتهم. 

حاولنا تجاوز هذه المعوقات، فتعاونا مع نقيب “الغواصين المحترفين” محمد السارجي، بتسجيل مقطع فيديو، على عمق 27 متراً وعلى بعد نحو كيلومترين من الشاطئ. وفعلاً أظهرت الصور التي التقطها السارجي أن النفايات المتراكمة ليست بجديدة، وبحسب رأي السارجي، فهذه النفايات “علقت بين الصخور في قاع البحر وتحللت وتشابكت وتحولت إلى كتلة واحدة متماسكة، يصعب على التيارات المائية تحريكها، ويعود عمرها إلى أكثر من عشر سنوات، كما أن النفايات الموجودة في القاع حالياً، مصدرها جبل النفايات الجديد والقديم”، وهذا يناقض ما أعلنته النقابة.

لماذا التناقض

بحسب السارجي، فإن “ما ذكره البيان لا يتنافى مع الحقيقة، فما ورد فيه، لا يعني عدم وجود نفايات في البحر، بل يقصد أن المشهد في العام، كان أفضل بكثير، بالمقارنة مع حقبة ما  قبل التخلص من جبل النفايات، الذي سقطت بسببه مئات الأطنان من النفايات في البحر”، وأكد أن “المشهد كان أفضل في تلك الفترة، لأن التيارات دفعت بالنفايات بعيداً، بينما يبدو اليوم سيئاً بسبب عودة جبل النفايات، وبسبب مياه الأنهر التي تجرف النفايات إلى البحر”.

ما استنتجناه أن للحقيقة تتمة، شرحها لنا أحد الخبراء البيئيين الذي فضل عدم نشر اسمه، فأوضح أنه “من الطبيعي ألا يبقى المشهد نفسه عبر السنوات، وذلك بفعل وجود عوامل كالتيارات وعمليات تحلل النفايات، فهناك أنواع من النفايات كالعضوية مثلاً، وهي سريعة التحلل ولا تشكل خطراً، أما الأنواع الأخرى كالبلاستيك، فهي خطيرة وتحتاج إلى قرون لتختفي، وقال: “ذلك لا يعني سوى أن أطنان النفايات قد توزعت في حوض البحر، بدلاً من تراكمها، كما كان المشهد في بداية طرح المشكلة منذ سنوات عدة، أي أن النفايات لم تختفِ، بل ما زالت موجودة، ومهما حاول الناشطون القيام بحملات تنظيف؛ وهم مشكورون، لكنها تبقى في إطار المساهمات لا الحلول”.

تعاني مدينة صيدا من مشكلة نفايات مزمنة سببت تراكم جبل نفايات بعضه انهار في البحر، وقد فشلت المعالجات المعلنة في احتواء القضية، ما أدى الى عودة النفايات وانتشارها. 

معمل صيدا

يُعد معمل معالجة النفايات في منطقة سينيق الواقعة على البحر عند المدخل الجنوبي لصيدا، المصدر الرئيسي لأزمة النفايات الحاصلة في المدينة، على البر وفي البحر. فالشركة المتعهدة للمشروع، التي كان عليها جمع النفايات وفرزها وتوضيبها وتخميرها وإعادة تدويرها، توقفت عن القيام بجميع مهامها، كما باعت معظم أجهزة المعمل، حتى باتت الأبنية والأرض المجاورة للمعمل، عبارة عن مواقع لتكديس النفايات، لتعيد تكوين شكل الجبل، وبحسب توصيف المواطنين، أصبح هناك جبلان بالقرب من البحر، لا يفصل بينهما سوى حاجز إسمنتي، وقد تمكنت “الحركة البيئية في لبنان”، من تصوير هذه الكارثة البيئية من خلال كاميرا “درون”، صيف العام 2023.

كيف وصلت الحال إلى ما هي عليه الآن؟ 

لقد جُرف جبل النفايات الذي كان أصبح معلماً من معالم للمدينة بشكل مؤسف، والذي تراكمت فيه النفايات لعشرات السنين، حتى بلغ ارتفاعه ما بين الخمسين إلى ستين متراً، وحوى أكثر من مليون ونصف مليون طن من النفايات على مساحة ستة هكتارات. 

هذا الجبل تنوعت فيه النفايات ما بين العضوية والبلاستيك والمعادن والأقمشة وحتى النفايات الطبية غير المعالجة، والخطير وجوده على شاطئ البحر، حيث أنه كان ينهار مع حدوث عاصفة جوية، فتقع مئات الأطنان من النفايات في المياه وتغرق في الأعماق، كما كان مصدراً مستمراً للحرائق والروائح الكريهة التي تحاصر المدينة.

ومنذ عشر سنوات، عمدت جهات رسمية لحل هذه الأزمة، إلى بناء جدار عازل، يبدأ من البحر وينتهي على اليابسة، ويساوي 10 بالمئة من مساحة صيدا، فردمت المساحة من البحر المقابلة لجبل النفايات وأسقط الجبل داخل تلك البقعة المستحدثة في البحر.  تسبب ذلك بطمر النفايات، وهو ما أثار استغراب خبراء بيئيون كون هذه الإجراءات كلها حصلت من دون أي محاولة لتطبيق أي معايير بيئية، ولم تُجرَ أي دراسة على أثر ذلك على التربة والمياه. 

وفي العام 2012، تم تشغيل معمل فرز، والذي أنشئ أيضاً قرب البحر لمعالجة نفايات المدينة. وقد كانت للمعمل أقسام عدة، قسم للفرز الأولي، للهضم اللاهوائي، إعادة التدوير، فرم الأقمشة، تحويل الغاز الناتج من عملية التخمير إلى طاقة كهربائية، معالجة العصارة، أي السوائل المترسبة من جميع تلك العمليات… وكانت الطاقة الاستيعابية للمعمل نحو 500 طن يومياً.

بدايات عمل المعمل كانت واعدة، لكن سوء الإدارة والخلافات والتدخلات السياسية جميعها عرقل العمل.

ومع مرور السنوات وتفاقم أزمة نفايات بيروت، التي بدأت في العام 2015، أُحيلت تلك النفايات إلى معمل صيدا بمقابل مادي. ثم انضمت إليها نفايات قضاءي جزين والنبطية. فباتت كمية النفايات التي تدخل يومياً إلى المعمل نحو 370 طناً من خارج صيدا، وما يقارب الـ 220 طناً من قضاءي صيدا والزهراني، أي  ما يفوق قدرته التشغيلية. ومع الأيام، باتت تزداد الكميات التي تعتبر من العوادم، والتي كانت في البداية تبلغ نسبة 21 بالمئة. وبدأت النفايات تتراكم على الأرض المجاورة للمعمل، وباتت العصارة تُرمى في البحر، حتى خرجت الأمور عن السيطرة وتوقف العمل في المعمل وباتت النفايات تتراكم، فكونت جبلين حديثين، وبعدها توقفت الشركة المعنية عن جمع النفايات عن العمل، فغرقت المدينة بأسرها في النفايات.           

في بداياته، لاقى المعمل استحساناً وثناء من كثيرين، خصوصاً مع الترويج لـ”معايير عالمية” تُعتمد فيها، ومع الإعلان عن حجم كميات النفايات التي سيعالجها المعمل. 

مع الأيام، بدأت تزداد نسبة العوادم ويقل الاهتمام بالفرز وتراجع الدور الذي كان يفترض بالمعمل أن يلعبه. 

التقينا بعدد من الموظفين السابقين والحاليين الذين كرروا أن المعمل وقع في الفخ نفسه، الذي سبق أن وقعت به شركة “سوكلين” لجمع النفايات، أي تحصيل أموال من دون مقابل خدماتي فعلي للمواطنين، فالشركة المشغلة للمعمل كانت تتقاضى ما بين 90 إلى 100 دولار على الطن الواحد، وتكسب ما يقارب الثلاثة ملايين دولار سنوياً مما تبيعه من مواد يعاد تصنيعها، وذلك مقابل تكديس النفايات على جانب البحر. وبحسب أحد الخبراء قدّر ما يكسبه المعمل سنوياً بما يصل إلى العشرين مليون دولار. 

ما علاقة السكان ببحر صيدا؟

شاطئ صيدا يبلغ طوله نحو 7 كلم، وخلال جولة سريعة على الشاطئ ولقائنا بمجموعة من الأشخاص الذين يرتادون الكورنيش والبحر، يمكن بسهولة ملاحظة ضعف الوعي بحجم الكارثة التي تهدد البيئة هناك. 

بعض الصيادين مثلاً أنكر أن لتلوث المياه أي تأثير على كمية السمك التي يجمعونها يومياً. لكن الصيادين المحترفين أكدوا أنهم باتوا يضطرون للابتعاد أكثر من النقاط التي كانوا يصطادون منها كي يجدوا الأنواع التي يريدونها، وأن الصعوبة في الصيد قد زادت. وأشاروا إلى رؤيتهم النفايات داخل البحر، تحديداً عند العواصف، وذلك لأن الرياح تسقط أجزاء من جبل النفايات في البحر لتطفو قليلاً على سطحه، ثم تأخذ بها الأمواج، فإما ترمي بها على الشاطئ أو تعود وتسقط في الأعماق. 

على رغم أن شاطئ المسبح الشعبي في صيدا مليء بالنفايات، إلا أنه ملاذ للكثيرين ممن لم يتيسّر لهم دخول المسابح الخاصة والبعض من الملتزمين بالوفاء لهذا المكان الذي يرتادونه منذ طفولتهم، إذ كانت تلك الرقعة تمتاز بالبيئة النظيفة قبل أن يغلبها التلوث.

كثيرون اعتادوا المشهد والروائح حتى باتت وكأنها روتين العلاقة مع الشاطئ.

أحد السباحين الذين يرتادون البحر بشكل شبه يومي، اعتبر أن النفايات ناتجة من مواطنين يرتادون المسبح الشعبي، فهم يأتون بمشترياتهم ويتركونها على الشاطئ. 

وسط هذه الفوضى الصحية والبيئية، يستمر جبل النفايات في التراكم، فيما يحاول سكان المدينة التعايش مع واقع صعب يؤثر بشكل مباشر على حياتهم.

"درج"
لبنان
18.05.2024
زمن القراءة: 7 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية