fbpx

لبنان: من الدولة الفاشلة إلى الدولة الانتقاميّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هدف الحملة المعلن هو “تطبيق القانون”، إذ استهدفت بالدرجة الأولى الدراجات النارية “المخالفة”، وبالدرجة الثانية السيارات “المخالفة”، وبخاصة تلك “المُفيّمة”، إضافة إلى استهداف العمال واللاجئين السوريين بغية تشديد الخناق أكثر عليهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

باشرت عناصر قوى الأمن الداخلي حملتها الأمنية في بيروت وضواحيها بأمر من وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي، ابتداءً من يوم الاثنين 13 أيار/ مايو 2024، إذ أقامت حواجز ثابتة ومتنقلة. تكثّفت الحواجز خلال الأسبوع الثاني من الحملة، لتطاول معظم تقاطعات الشوارع الرئيسية في بيروت وضواحيها.

هدف الحملة المعلن هو “تطبيق القانون”، إذ استهدفت بالدرجة الأولى الدراجات النارية “المخالفة”، وبالدرجة الثانية السيارات “المخالفة”، وبخاصة تلك “المُفيّمة”، إضافة إلى استهداف العمال واللاجئين السوريين بغية تشديد الخناق أكثر عليهم.

تميّزت هذه الحملة الأمنية “القانونية” بالتفافها على الشلل التام في انتظام عمل مؤسسات القطاع العام، بخاصة مصلحة تسجيل السيارات والآليات (النافعة)، كما أنها أتت في سياق سلسلة تصريحات تحريضية متصاعدة ضد اللاجئين السوريين.

اعتماد الدولة اللبنانية الأسلوب الأمني البحت في التعامل مع ملف اللاجئين السوريين، بعد 13 عاماً من استقالتها من مهامها تجاه هذه القضية، إلى درجة أنها لم تهتم بالحد الأدنى من جوانب تنظيم اللجوء عبر خلق قاعدة بيانات، أتى ترجمة مباشرة لتصريحات غير مسؤولة لعدد من “المسؤولين” اللبنانيين، الذين ذهب بعضهم بعيداً في التحريض الأعمى.

 ولم يكن ينقص بعض أولئك “المسؤولين” سوى نزع الصفة الإنسانية عن اللاجئين السوريين بشكل صريح ومعلن، وإعلان “النفير العام” لتطهير المجتمع اللبناني “السماوي” من كل “الكائنات السورية”. إذ كانت نية الجهات المسؤولة واضحة في التعامل مع هذا الملف منذ بدء تدفّق اللاجئين السوريين إلى لبنان عام 2011، عبر إطلاق صفة “النازحين” عليهم. ولإطلاق هذه الصفة تبعات قانونية وسياسية مختلفة، وإعلان واضح للتهرّب من المسؤولية، إضافة إلى نفي وجود حربٍ في سوريا ورضوخٍ لإرادة النظام السوري.

وكأن عمل “المسؤولين” في “الدولة”، الذين لم يفعلوا شيئاً على الإطلاق لمعالجة اللجوء وتنظيمه بالطرق المناسبة طوال هذه السنوات كلها، صار يرتكز فجأة على إطلاق مواقف وتصريحات شعبوية تعمل على تأجيج مشاعر الكراهية والعنصرية والتمييز داخل المجتمع اللبناني، وليس على إنشاء وإقرار وتطبيق خطط وسياسات تعنى بمعالجة الأزمات التي تشتدّ وطأتها، وليست أزمة اللجوء السوري سوى واحدة منها فقط.

منطق الفشل 

لا يقلّ الفشل في إدارة الحكم والمؤسسات العامة والتعامل مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية الداهمة، خطورة عن الفشل في إدارة ملف اللجوء السوري. بل إن إصرار الجهات الرسمية على تكريس منطق الفشل، وتعميم التهرّب من المسؤوليات، والإفلات من العقاب، منذ سنوات طويلة، وبخاصة في السنوات الخمس الأخيرة منذ بداية الانهيار الاقتصادي، ثم بعد انفجار مرفأ بيروت، يشكّل قوة الدفع الحقيقية للتعامل مع نتائج الفشل عبر إحكام القبضة الأمنية.

ليس هناك في التاريخ البشري كله مثال واحد يشير إلى نجاح الأساليب الأمنية في حل القضايا الاجتماعية. بل هناك أمثلة لا متناهية حول تفاقم النقمة الاجتماعية، وتحوّلها إلى حركات تمرّد، أو انتفاضات شعبية، أو ثورات اجتماعية، أو حتى حروب أهلية، أو خلق ظروف تؤدي إلى انقلابات، حينما تناولت جهات الحكم تلك القضايا بالاستخفاف و/أو القمع الأمني. فكيف إذا اجتمع الاستخفاف والقمع مع الإجراءات التقشفية المؤلمة من جهة، والمماطلة وتجاهل كل خطط الإصلاح والتعافي من جهة أخرى.

ما الذي يعنيه عدم إقرار خطط للإصلاح البنيوي ومعالجة الانهيار الاقتصادي ومعاقبة المتسببين به بعد خمس سنوات من بدايته، في حين تعاقب الدولة الطبقات الأفقر في المجتمع عبر إجراءات أمنية مجحفة وعقابية لا أساس قانوني لها، وذلك كله باسم “تطبيق القانون”؟

أين هي “المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمايز أو تفضيل” كما ينص الدستور اللبناني، في حالة إغلاق “النافعة” بوجه اللبنانيين، ومحاسبتهم على عدم تسجيل آلياتهم في “النافعة” المغلقة في آن واحد، عبر الاستيلاء على آلياتهم بالاستخدام غير المشروع للقوة!؟ ومن المضحك والمبكي في آن، أن يجد المرء نفسه مضطراً إلى إعطاء شخصيات رسمية وسياسية في مواقع مسؤولية حساسة دروساً بدائية في التاريخ والقانون… وأوليات المنطق!

تميّزت هذه الحملة الأمنية “القانونية” بالتفافها على الشلل التام في انتظام عمل مؤسسات القطاع العام، بخاصة مصلحة تسجيل السيارات والآليات (النافعة)، كما أنها أتت في سياق سلسلة تصريحات تحريضية متصاعدة ضد اللاجئين السوريين.

“اللبنانيون مسؤولون عن فشل الدولة!”

تجاهَل وزير الداخلية بسام مولوي، الذي أدار أذنه الصماء لصراخ اللبنانيين المفقرين والمنهكين، توقف العمل في “النافعة”، حيث لا إمكانية لتسجيل الآليات، أو دفع الميكانيك، أو استصدار دفاتر السواقة، كما أشاح بوجهه عن موظفي القطاع العام، إذ أطلق حملته الأمنية بعد أيام قليلة فقط من اعتصام نفذته الهيئة التأسيسية لنقابة عمال وموظفي المعاينة الميكانيكية أمام وزارة الداخلية احتجاجاً على مرور أكثر من سنتين على إقفال مراكز “النافعة”. كأنه بذلك يقول للبنانيين: “أنتم تتحملون مسؤولية عجز المؤسسات وفشل الدولة، فتألّموا بصمتٍ ولا تزعجونا، وإلا فالعقاب بانتظاركم، وأعلى ما بخيلكم اركبوه”.

المثير للتعجّب أكثر، أن مصلحة تسجيل السيارات والآليات أصدرت بياناً أكّدت فيه فتح أبوابها استثنائياً، ولفترة محدودة، لإنجاز المعاملات المتعلقة بفكّ حجز المركبات والدراجات! أبواب “النافعة” أُغلقت أمام اللبنانيين لتسجيل آلياتهم طوال عامين من الزمن، لكنها فُتحت لهم لفكّ حجز آلياتهم التي تم “الاستيلاء” عليها بسبب أنها غير مسجّلة! وفي بيان آخر صدر عنها، أعلنت  المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، “أنّ الخطّة الأمنيّة هي لحماية الناس وليس للاقتصاص أو التّشفّي منهم، فقد نتج منها انخفاض كبير في الجرائم”. 

وهنا تستكمل أجهزة الدولة تصويبها على من أفقرتهم الدولة بسياساتها (أو غياب سياساتها) الاقتصادية والاجتماعية، واضعة كل سائقي الدراجات النارية في خانة الاتهام بممارسة الجرائم حتى يثبت العكس! هذا التوجه المنحاز طبقياً تجاه أبناء طبقات تشكل الفئة الأوسع من المجتمع اللبناني، بخاصة بعد الانهيار في العام 2019، يعبّر عن نظرة طبقية انتقامية.

حجز الدراجات بشكل تلقائي من دون تسطير محاضر ضبط، ومن دون قبول ورقة ملكية الدراجة في حين يتعذّر تسجيلها بسبب إقفال “النافعة”، هو سلوك تعسّفي، والاستخفاف في حقيقة أن معظم سائقي الدراجات النارية يستدينون المال، أو يقسّطون جزءاً من مداخيلهم المحدودة، أو يدّخرون المال لفترات طويلة، حتى يصير بإمكانهم اقتناء وسيلة نقلٍ بسيطة تساعدهم على الوصول إلى أماكن عملهم، والاضطلاع بمهامهم الحياتية اليومية، والاكتفاء بربط هذه الآليات بمعدلات الجرائم، يؤكّد التوجه الطبقي الانتقامي للدولة اللبنانية ووزارة الداخلية والبلديات.

غياب المحاسبة

سؤالان يطرحان نفسهما في هذا السياق، ولا أعتقد أن منطق “الماذاعنيّة”  (Whataboutism)الأخرق ينطبق عليهما، فهما ليسا مطروحين من باب التهرّب من ضرورة تطبيق القانون، بل يأتيان في صلب مبدأ الشمولية في تطبيقه: هل حوسب أي من المسؤولين في ملف النقل العام المشترك ومتعهدي الأشغال العامة؟ فليس اقتناء عشرات الآلاف من الفقراء اللبنانيين الدراجات النارية إلا بديلاً عن غياب النقل العام، وفي ظل رداءة الطرقات وزحمة السير الخانقة. 

وهل حوسب أي من المسؤولين في ملف انهيار الليرة اللبنانية؟ فالنقمة الاجتماعية والتشنجات التي ولّدتها الحملة الأمنية ترتبط مباشرة بتدهور القدرة الشرائية للبنانيين، إذ إن الجزء الأكبر من سائقي الدراجات النارية بالكاد يتمكنون من توفير لقمة العيش، ودراجاتهم هي وسيلة حيوية وأساسية بالنسبة إليهم، ولا قدرة لرواتبهم وأجورهم على تغطية الأعباء المالية والوقتية المجحفة الناتجة من حجز آلياتهم.

هذه المحاولة البائسة والمضحكة لفرض “هيبة الدولة”، من خلال القبضة الأمنية “الحديدية”، بهذه الطريقة الالتفافية والمثيرة للسخرية، ليست في الحقيقة إلا دليلاً على عجز الدولة اللبنانية وفشلها، وتحوّل أذرعها الأمنية من أدوات لتطبيق القانون وحفظه، إلى أدوات ترقيعٍ لعجز الحكم السياسي، من خلال ممارسات أقل ما يقال فيها إنها تستهدف الطبقات الشعبية بأسلوب انتقامي. 

ما سبق يمكن تشبيهه بعلاقة سامّة لرجلٍ مع زوجته وأطفاله، إذ يفشل بالتعامل مع مشاكل الحياة اليومية خارج المنزل، وحينما يعود إليه، “يفش خلقه” بعائلته حتى يؤكد لنفسه ولعائلته أنه لا يزال رجلاً، لأن “الرجولة” في وعيه تتمحور حول فرضه سلطته، فإذا عجز عن فرضها من خلال مساهمته مع زوجته في توفير متطلبات الحياة، لجأ إلى فرضها بالقوّة والترهيب. هكذا، يصير معيار “هيبة الدولة” مرتبطاً بقمع الطبقات الشعبية والتعامل بأسلوب أمني مع القضايا الاجتماعية التي تفشل الدولة في معالجتها.

فداء زياد - كاتبة فلسطينية من غزة | 14.06.2024

عن تخمة الشعور واختبارات النجاة في غزة

ليلة اقتحام رفح، كانت حيلتي أن أستعير أقدام الطبيبة أميرة العسولي، المرأة الطبيبة التي جازفت بحياتها لتنقذ حياة مصاب، فترة حصار الجيش الإسرائيلي مستشفى ناصر في خانيونس، كي أحاول إنقاذ أخي وعائلته وأختي وأبنائها المقيمين في الجهة المقابلة لنا، لأنهم كانوا أكثر قرباً من الخطر.
20.05.2024
زمن القراءة: 6 minutes

هدف الحملة المعلن هو “تطبيق القانون”، إذ استهدفت بالدرجة الأولى الدراجات النارية “المخالفة”، وبالدرجة الثانية السيارات “المخالفة”، وبخاصة تلك “المُفيّمة”، إضافة إلى استهداف العمال واللاجئين السوريين بغية تشديد الخناق أكثر عليهم.

باشرت عناصر قوى الأمن الداخلي حملتها الأمنية في بيروت وضواحيها بأمر من وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي، ابتداءً من يوم الاثنين 13 أيار/ مايو 2024، إذ أقامت حواجز ثابتة ومتنقلة. تكثّفت الحواجز خلال الأسبوع الثاني من الحملة، لتطاول معظم تقاطعات الشوارع الرئيسية في بيروت وضواحيها.

هدف الحملة المعلن هو “تطبيق القانون”، إذ استهدفت بالدرجة الأولى الدراجات النارية “المخالفة”، وبالدرجة الثانية السيارات “المخالفة”، وبخاصة تلك “المُفيّمة”، إضافة إلى استهداف العمال واللاجئين السوريين بغية تشديد الخناق أكثر عليهم.

تميّزت هذه الحملة الأمنية “القانونية” بالتفافها على الشلل التام في انتظام عمل مؤسسات القطاع العام، بخاصة مصلحة تسجيل السيارات والآليات (النافعة)، كما أنها أتت في سياق سلسلة تصريحات تحريضية متصاعدة ضد اللاجئين السوريين.

اعتماد الدولة اللبنانية الأسلوب الأمني البحت في التعامل مع ملف اللاجئين السوريين، بعد 13 عاماً من استقالتها من مهامها تجاه هذه القضية، إلى درجة أنها لم تهتم بالحد الأدنى من جوانب تنظيم اللجوء عبر خلق قاعدة بيانات، أتى ترجمة مباشرة لتصريحات غير مسؤولة لعدد من “المسؤولين” اللبنانيين، الذين ذهب بعضهم بعيداً في التحريض الأعمى.

 ولم يكن ينقص بعض أولئك “المسؤولين” سوى نزع الصفة الإنسانية عن اللاجئين السوريين بشكل صريح ومعلن، وإعلان “النفير العام” لتطهير المجتمع اللبناني “السماوي” من كل “الكائنات السورية”. إذ كانت نية الجهات المسؤولة واضحة في التعامل مع هذا الملف منذ بدء تدفّق اللاجئين السوريين إلى لبنان عام 2011، عبر إطلاق صفة “النازحين” عليهم. ولإطلاق هذه الصفة تبعات قانونية وسياسية مختلفة، وإعلان واضح للتهرّب من المسؤولية، إضافة إلى نفي وجود حربٍ في سوريا ورضوخٍ لإرادة النظام السوري.

وكأن عمل “المسؤولين” في “الدولة”، الذين لم يفعلوا شيئاً على الإطلاق لمعالجة اللجوء وتنظيمه بالطرق المناسبة طوال هذه السنوات كلها، صار يرتكز فجأة على إطلاق مواقف وتصريحات شعبوية تعمل على تأجيج مشاعر الكراهية والعنصرية والتمييز داخل المجتمع اللبناني، وليس على إنشاء وإقرار وتطبيق خطط وسياسات تعنى بمعالجة الأزمات التي تشتدّ وطأتها، وليست أزمة اللجوء السوري سوى واحدة منها فقط.

منطق الفشل 

لا يقلّ الفشل في إدارة الحكم والمؤسسات العامة والتعامل مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية الداهمة، خطورة عن الفشل في إدارة ملف اللجوء السوري. بل إن إصرار الجهات الرسمية على تكريس منطق الفشل، وتعميم التهرّب من المسؤوليات، والإفلات من العقاب، منذ سنوات طويلة، وبخاصة في السنوات الخمس الأخيرة منذ بداية الانهيار الاقتصادي، ثم بعد انفجار مرفأ بيروت، يشكّل قوة الدفع الحقيقية للتعامل مع نتائج الفشل عبر إحكام القبضة الأمنية.

ليس هناك في التاريخ البشري كله مثال واحد يشير إلى نجاح الأساليب الأمنية في حل القضايا الاجتماعية. بل هناك أمثلة لا متناهية حول تفاقم النقمة الاجتماعية، وتحوّلها إلى حركات تمرّد، أو انتفاضات شعبية، أو ثورات اجتماعية، أو حتى حروب أهلية، أو خلق ظروف تؤدي إلى انقلابات، حينما تناولت جهات الحكم تلك القضايا بالاستخفاف و/أو القمع الأمني. فكيف إذا اجتمع الاستخفاف والقمع مع الإجراءات التقشفية المؤلمة من جهة، والمماطلة وتجاهل كل خطط الإصلاح والتعافي من جهة أخرى.

ما الذي يعنيه عدم إقرار خطط للإصلاح البنيوي ومعالجة الانهيار الاقتصادي ومعاقبة المتسببين به بعد خمس سنوات من بدايته، في حين تعاقب الدولة الطبقات الأفقر في المجتمع عبر إجراءات أمنية مجحفة وعقابية لا أساس قانوني لها، وذلك كله باسم “تطبيق القانون”؟

أين هي “المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمايز أو تفضيل” كما ينص الدستور اللبناني، في حالة إغلاق “النافعة” بوجه اللبنانيين، ومحاسبتهم على عدم تسجيل آلياتهم في “النافعة” المغلقة في آن واحد، عبر الاستيلاء على آلياتهم بالاستخدام غير المشروع للقوة!؟ ومن المضحك والمبكي في آن، أن يجد المرء نفسه مضطراً إلى إعطاء شخصيات رسمية وسياسية في مواقع مسؤولية حساسة دروساً بدائية في التاريخ والقانون… وأوليات المنطق!

تميّزت هذه الحملة الأمنية “القانونية” بالتفافها على الشلل التام في انتظام عمل مؤسسات القطاع العام، بخاصة مصلحة تسجيل السيارات والآليات (النافعة)، كما أنها أتت في سياق سلسلة تصريحات تحريضية متصاعدة ضد اللاجئين السوريين.

“اللبنانيون مسؤولون عن فشل الدولة!”

تجاهَل وزير الداخلية بسام مولوي، الذي أدار أذنه الصماء لصراخ اللبنانيين المفقرين والمنهكين، توقف العمل في “النافعة”، حيث لا إمكانية لتسجيل الآليات، أو دفع الميكانيك، أو استصدار دفاتر السواقة، كما أشاح بوجهه عن موظفي القطاع العام، إذ أطلق حملته الأمنية بعد أيام قليلة فقط من اعتصام نفذته الهيئة التأسيسية لنقابة عمال وموظفي المعاينة الميكانيكية أمام وزارة الداخلية احتجاجاً على مرور أكثر من سنتين على إقفال مراكز “النافعة”. كأنه بذلك يقول للبنانيين: “أنتم تتحملون مسؤولية عجز المؤسسات وفشل الدولة، فتألّموا بصمتٍ ولا تزعجونا، وإلا فالعقاب بانتظاركم، وأعلى ما بخيلكم اركبوه”.

المثير للتعجّب أكثر، أن مصلحة تسجيل السيارات والآليات أصدرت بياناً أكّدت فيه فتح أبوابها استثنائياً، ولفترة محدودة، لإنجاز المعاملات المتعلقة بفكّ حجز المركبات والدراجات! أبواب “النافعة” أُغلقت أمام اللبنانيين لتسجيل آلياتهم طوال عامين من الزمن، لكنها فُتحت لهم لفكّ حجز آلياتهم التي تم “الاستيلاء” عليها بسبب أنها غير مسجّلة! وفي بيان آخر صدر عنها، أعلنت  المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، “أنّ الخطّة الأمنيّة هي لحماية الناس وليس للاقتصاص أو التّشفّي منهم، فقد نتج منها انخفاض كبير في الجرائم”. 

وهنا تستكمل أجهزة الدولة تصويبها على من أفقرتهم الدولة بسياساتها (أو غياب سياساتها) الاقتصادية والاجتماعية، واضعة كل سائقي الدراجات النارية في خانة الاتهام بممارسة الجرائم حتى يثبت العكس! هذا التوجه المنحاز طبقياً تجاه أبناء طبقات تشكل الفئة الأوسع من المجتمع اللبناني، بخاصة بعد الانهيار في العام 2019، يعبّر عن نظرة طبقية انتقامية.

حجز الدراجات بشكل تلقائي من دون تسطير محاضر ضبط، ومن دون قبول ورقة ملكية الدراجة في حين يتعذّر تسجيلها بسبب إقفال “النافعة”، هو سلوك تعسّفي، والاستخفاف في حقيقة أن معظم سائقي الدراجات النارية يستدينون المال، أو يقسّطون جزءاً من مداخيلهم المحدودة، أو يدّخرون المال لفترات طويلة، حتى يصير بإمكانهم اقتناء وسيلة نقلٍ بسيطة تساعدهم على الوصول إلى أماكن عملهم، والاضطلاع بمهامهم الحياتية اليومية، والاكتفاء بربط هذه الآليات بمعدلات الجرائم، يؤكّد التوجه الطبقي الانتقامي للدولة اللبنانية ووزارة الداخلية والبلديات.

غياب المحاسبة

سؤالان يطرحان نفسهما في هذا السياق، ولا أعتقد أن منطق “الماذاعنيّة”  (Whataboutism)الأخرق ينطبق عليهما، فهما ليسا مطروحين من باب التهرّب من ضرورة تطبيق القانون، بل يأتيان في صلب مبدأ الشمولية في تطبيقه: هل حوسب أي من المسؤولين في ملف النقل العام المشترك ومتعهدي الأشغال العامة؟ فليس اقتناء عشرات الآلاف من الفقراء اللبنانيين الدراجات النارية إلا بديلاً عن غياب النقل العام، وفي ظل رداءة الطرقات وزحمة السير الخانقة. 

وهل حوسب أي من المسؤولين في ملف انهيار الليرة اللبنانية؟ فالنقمة الاجتماعية والتشنجات التي ولّدتها الحملة الأمنية ترتبط مباشرة بتدهور القدرة الشرائية للبنانيين، إذ إن الجزء الأكبر من سائقي الدراجات النارية بالكاد يتمكنون من توفير لقمة العيش، ودراجاتهم هي وسيلة حيوية وأساسية بالنسبة إليهم، ولا قدرة لرواتبهم وأجورهم على تغطية الأعباء المالية والوقتية المجحفة الناتجة من حجز آلياتهم.

هذه المحاولة البائسة والمضحكة لفرض “هيبة الدولة”، من خلال القبضة الأمنية “الحديدية”، بهذه الطريقة الالتفافية والمثيرة للسخرية، ليست في الحقيقة إلا دليلاً على عجز الدولة اللبنانية وفشلها، وتحوّل أذرعها الأمنية من أدوات لتطبيق القانون وحفظه، إلى أدوات ترقيعٍ لعجز الحكم السياسي، من خلال ممارسات أقل ما يقال فيها إنها تستهدف الطبقات الشعبية بأسلوب انتقامي. 

ما سبق يمكن تشبيهه بعلاقة سامّة لرجلٍ مع زوجته وأطفاله، إذ يفشل بالتعامل مع مشاكل الحياة اليومية خارج المنزل، وحينما يعود إليه، “يفش خلقه” بعائلته حتى يؤكد لنفسه ولعائلته أنه لا يزال رجلاً، لأن “الرجولة” في وعيه تتمحور حول فرضه سلطته، فإذا عجز عن فرضها من خلال مساهمته مع زوجته في توفير متطلبات الحياة، لجأ إلى فرضها بالقوّة والترهيب. هكذا، يصير معيار “هيبة الدولة” مرتبطاً بقمع الطبقات الشعبية والتعامل بأسلوب أمني مع القضايا الاجتماعية التي تفشل الدولة في معالجتها.

20.05.2024
زمن القراءة: 6 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية