أدركت الصحافية لحظة موت والدها أنها باتت مجبرة على خوض معترك الحياة وحدها، وتدبير أمورها بنفسها، وأنها أصبحت وحيدة في رحلتها، وعليها أن تبقى متماسكة، ألا تضعف أمام الظروف المعيشية الصعبة، التي سيخلفها غيابه. كان والدها معيل المنزل الوحيد، ولم تكتشف وسع ثغرة غيابه، إلا عندما دفعت راتبها الكامل لسداد أقساطها الجامعية. رماها الموت بثقلين، غياب الوالد وإعالة المنزل، وتقاسمت مع شقيقيها مسؤولية إنقاذ المنزل وعدم انهياره ماديا. فأُوكل إليها تموين البيت أسبوعياً بشتى أنواع الخضار، لم يكن راتبها حينها يتجاوز الحدّ الأدنى للأجور، فتنبهت لضرورة اختيار المكان الملائم لميزانيتها.
يقع بيتها في شارع دكاش في منطقة حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية. لناحية الجنوب، يوجد سوق خضار يطلق عليه أهالي الحي اسم “الحسبة”، يبيع الخضار والفاكهة بأسعار رخيصة جداً. أما في الجهة الشمالية للشارع، فهناك سوق خضار آخر فاخر لصاحبه ابو علي. وضع مالكه بردات مخصصة للحفاظ على البضاعة طازجة ندية. يقصده أثرياء حارة حريك وعائلات ميسورة من نواح أخرى في الضاحية.
من الطبيعي أن يقع اختيارها على سوق “الحسبة” كجهة أسبوعية للتبضع، هناك ستحصل على كمية كبيرة من الخضار والفاكهة، بآلاف قليلة من الليرات. ومع الأيام، صارت ملامح وجهها تتغير، قسوة غياب والدها والمسؤوليات التي تتكبدها، كانت مرسومة على محياها. وصارت تصيبها نوبات ألم حاد في الرأس، ظنت بداية، أن ذلك مرتبط بحالات قلقٍ تفرضها سنواتها الاربعة والعشرين. لكنها اكتشفت أن هذا الألم هو قاسم مشترك بين أناس يقبعون في سجون القهر والفقدان.
شيئا فشيئا تطورت علاقتها بأسواق الخضار وبنسائه. فكانت تلتقي بين الحين والاخرى بجارتها الحاجة زينب. يتحدثان معاً وهن ينقبن على الطماطم الجيدة بين كومة طماطم مهترئة.
كانت زينب تمثل وجه مآساة ضاحية بيروت الجنوبية القهري، فنجلها الصغير توفي في ايار الماضي من عام 2017 بعد تناوله جرعة زائدة من المخدرات، لم يصمد قلبه، فإنفجر وبقيت جثته بعد وفاته تنزف حتى تحول لونها إلى النيلي القاتم. حاولت الحاجة زينب بالتعاون مع اقربائها طمس خلفية الفاجعة، من خلال الترويج لرواية كاذبة، مفادها انه توفي اثر ذبحة قلبية. ولكن جميع ابناء المنطقة يدركون الحقيقة، ان ابنها الصغير الذي لم يتجاوز سن العشرين، ارتمى نهاية عام 2016 بحضن عصابة من منطقة صبرا، حيث كانت سهراتهم تكسوها حشيشة الكيّف وسيجارة السيلفيا.
تحب الصحافية “محشي الباذنجان”. كان سنّ والدتها وتعبها الجسدي، لا يسمحان لها بتحضير طبخة تقليدية يحتاج إعدادها ساعات. لذلك كانت تشتري الباذنجان محفورا جاهزا للحشي من سوق البرجوازيين؛ متجر (ابو علي)، والذي يمثل الجهة المفضلة لبرجوازيي حزب الله وحركة امل، والمتاح بسهولة رصدهم عبر سياراتهم الفاهرة التي تصطف عند باب المتجر. ولأن الحسبة لا توفر هذه الرفاهية، كانت تدفع ثمن عشر حبات من الباذنجان من سوق البرجوازيين خمس دولارات، كان ثمنها باهظا فعلا.
في الحسبة، كانت الأسعار المتدنيّة جداً، تشكل عامل جذب لفقراء المنطقة واللاجئين السوريين، تفتح الحسبة أبوابها مرة في النهار، من الساعة الواحدة ظهراً إلى الساعة الرابعة عصرا. ثلاث ساعات في اليوم، كانت كافية كي يتحول المحل المهمل والمتسخ والمائلة جدرانه إلى اللون الرمادي، إلى مكان خالٍ من كل شيء، ما عدا الصناديق البلاستيكية، والفوضى التي يخلفها تناثر بقايا الخضار والفاكهة المنتشرة على الارض.
المشهد اليومي في الحسبة، طبع في رأسها أسئلة كثيرة حول آلية احتيال الفقراء على جوعهم، وطريقة تمديد فترة الاكتفاء لديهم إلى يوم جديد. كان صاحب الحسبة، يطلب منّ الزبائن أن يصطفوا أمام باب المحل، ريثما يسمح لهم بالدخول، يأمرهم بالالتزام بالقانون، وحالما يطلق الإشارة تندفع النساء نحو الصناديق. سرعة الانتقاء ضرورية، لأن البضاعة الأكثر جودة تكون على وجه الصناديق، بينما تصبح أقل جودة كلما اقتربنا من القعر.
مع مرور الأيام لاحظت أن صاحب الحسبة، يغلق أبواب محله أثناء تبضع النساء، خشية أن تتسرب إحداهن من دون أن يلاحظها، فتنجو من دفع الحساب.
فروقات كبيرة بين ابو علي وبائع الحسبة ابو جعفر. ففي الوقت الذي يستقبل ابو علي زبائنه ببسمة مصطنعة، ما جعلها تطلق عليه لقب “الرأسمالي الجديد”، كان ابو جعفر ينهر بالنساء الممتلئة اثوابهم برائحة العرق، مردداً كل دقيقتين كلمة “شهلوا يا نسوان، خلقنا بلش يضيق”، او “إلزموا الصمت و غادروا المكان”. وكانت النساء تلتزم الصمت. صمت يشبه فقراء حارة حريك، والمهمشين المشتتين في كل بقعة من ضاحية بيروت الجنوبية.
منذ عام 2013 ارتدت الضاحية الجنوبية حلة مختلفة عن السابق، انبعث شارع دكاش من الموت إلى الحياة. من حي ميّت ينام قاطنيه عند التاسعة مساءاً إلى حي تفيض فيه المقاهي، بينما يشكل سوقا الخضار مع ظاهرة المقاهي الجديدة، الجدار الحاد الذي يفصل فقراء الحي عن اثريائه. ومع مرور السنوات وتحسن وضع الصحافية المادي، لم يعد قلقها يتمحور حول كيفية صرف راتبها الشهري. فلم تعد تقصد سوق ابو جعفر، لقد قطعت تواصلها مع هذا المكان المؤلم، وخلعت خوف الفقر الذي رافقها لخمس سنوات متتالية. إلا ان مخاوف اخرى تعيشها في الوقت الراهن. فنهاية عام 2017 اكتشفت ان شقيقها الصغير غرق للتو في لعبة المراهنات على فرق كرة القدم. جوع من نوع اخر طرأ عليه. هذا النوع من الجوع والغرق بحسب اعتقادها، سيسحبه دون ادنى شك إلى عوالم اكثر خطورة تعشعش بين الاحياء.
إن الرهان على كرة القدم، يعد مكان امن لشبان ضواحي بيروت، لتأمين قوتهم اليومي. فشبان من مختلف الاعمار يرمون يومياً اموالهم لتحقيق ارباح سريعة عبر المراهنة. شقيقها تعهد لها ان لا يعود الى المراهنات، ولكن الرهان على الصمود في هذا المكان الجائع على نهم كل مقومات الحياة من الصعب التعويل عليه.
[video_player link=””][/video_player]