fbpx

أصوات من غزة… “هنا مقبرة الحياة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا أحد يعلم متى يسقط الصاروخ فوق البيت، لا نعلم متى يشتد الوضع أكثر، ربما نضطر للنزوح مرة ثالثة، يبقى شخص واحد يحرسنا ونحن نياماً، ليوقظنا إذا اضطر الأمر فننجو بأنفسنا. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أنا عصام هاني حجاج من فلسطين -غزة، عمري 27 سنة، درست الأدب الإنكليزي، أكتب الشعر منذ عام 2014، عملت كمدرب كتابة إبداعية للأطفال في قطاع غزة، مؤمن بفكرة المجاورة كطريقة للتعلم، وأعمل على نشرها مع التربوي منير فاشه في غزة منذ 2020.

عشت 6 حروب داخل قطاع غزة، فقدت الكثير من الأصدقاء والأقارب على يد الجيش الإسرائيلي، لأننا ندافع عن حقنا في الحياة الذي سلبه الاحتلال.

الخميس 19-10-2023

الدجاج البلدي يشبه صديقي منير، فالدجاجات الفلسطينية تجيد التكيف مع كل الظروف، كالإنسان الخالي من سموم المدنية الحديثة، والذي يعرف ذاته.  أما الدجاج الإسرائيلي، فأشبه بطلاب المدارس والصفوف، هم بالأقفاص التي يُلقَّنون من خلالها ما يصدقونه من دون تفكير، “القائمون” عليهم يخرجونهم كل صباح ليبحثوا عن رزقهم، ثم يعودون إلى المنزل متى نال منهم التعب. 

هذه المقاربة المتخيّلة راودتني في الساعة 12:15 ظهراً، وأنا أسرق القليل من الهواء وضوء الشمس. لم أقف خارجاً طويلاً، دفعتني دجاجات الجارة لأكتب سريعاً وحمتني من القصف أيضاً، فبعد خمس دقائق من التقاط صورة الدجاج،  قصفت الطائرات بقربنا، وتساقطت الحجارة على رؤوسنا.

 ربما نسمع بعد قليل خبراً عاجلاً: “جيش الاحتلال يستهدف دجاجات الجارة بعدما قتل الناس في غزة”.

الخميس 19-10-2023(2)

الموت يقترب أكثر، معالم الحياة هنا تختفي، مساحة ذاكرتي أصبحت ممتلئة واقتربت من نسيان وجوه أصدقائي وشوارع المدينة التي كنّا نمشي فيها.

الساعة 11 مساءً، تخترق رائحة الرماد والفسفور الأبيض أنوفنا، بدلاً من رائحة الزهور المزروعة على باب البيت. 

قبل يومين، وصلنا خبر أن بيتنا قُصف جزئياً، اليوم وصلنا خبر أن البيت كله قُصف. لا نعرف حقيقة الخبر، لكننا تابعنا عبر الأخبار أن حي الشجاعية أصبح مدينة أشباح كما وصفها المراسل. 

البلكونة في بيتنا التي كنت أنام فيها مُطلة على حدائق الجيران، هي مكان السهر مع الأصدقاء حتى طلوع الفجر، بينما أصوات الجيران لوقت متأخر تشهد على كل ندباتي.

كتبت وأنا في تلك البلكونة حتى جفّت أصابعي، أذكر طقم الأرائك الذي اشترته أمي قبل شهر، لونه فيروزي. أمي ذات ذوق رفيع في كل شيء، أذكر طلاء الجدران الذي عمل عليه والدي حديثاً، وصوت تبادلنا الصراخ. 

أذكر أنه في كل مرة يدخل فيها صديق إلى بلكونتي يقول: “في حد بدهن الحيط أسود”.

الآن، البيت كله أصبح رماداً، باللون الأسود.

الجمعة 20-10-2023

خطوات ثقيلة تأخذني إلى ملاذي سابقاً، إلى حجرات الذكريات، والوصول الأخير بعد ليلة مُنهِكةٍ خارج البيت، مكان المشاكل العائلية والجمعات التي تُشعر الإنسان بالدفء. 

صوت أمي من بعيد يقول: أجلب لنا الطحين معك.

ذهبنا إلى البيت بالسيارة، وقبل بلوغه بمسافة 300 متر توقفت السيارة بسبب حفر القذائف في الطرقات. عندما رأيت الشارع، بهت وجهي وذبلت عيناي، تعبير المراسل على الإذاعة أن حي الشجاعية أصبح مدينة أشباح كان صادقاً بشكل مرعب.

 الصدمة تعتلي وجوهنا وتسيطر عليها من دون سابق إنذار. في الطريق، بيوت الجيران خالية، منها ما هو تحت الأرض وأخرى كأنها متآكلة مع مرور وقت على تركها وحيدة، لكن الحقيقة أنها تُركت لينجو أصحابها من القصف. 

بيتنا أمامي الآن. رأيت الجزء العلوي منه خالياً، وكل شيء في الطابق مندفع إلى الشارع بفعل الانفجار، حائط البيت على الأرض، ولا توجد أبواب ولا نوافذ، بلكونتي دُمرت. بلكونة أبي مع جزء من سقف البيت دُمرت. نال الانفجار من كل شيء، عشر دقائق دخلنا خلالها الى البيت والمنطقة ثم غادرنا مجبرين. أعرف جيداً سياسة الأرض المحروقة، فكل شيء يتحرك في المكان سيُقصف، ونسبة نجاتي 1 في المئة، لكني أردت الذهاب. 

الجمعة 20-10-2023(2)

الساعة تقترب من منتصف الليل، صوت الانفجارات لم يهدأ منذ 14 يوماً. أنا وأخي ننام في بيت الدرج، أما باقي العائلة فينامون داخل البيت بالقرب من بيت الدرج أيضاً. نحن في البيت 16 شخصاً، لكل منّا قصته الخاصة به التي سيرويها يوماً ما. ينام الجميع عدا شخص ينام عندما نصحو. 

لا أحد يعلم متى يسقط الصاروخ فوق البيت، لا نعلم متى يشتد الوضع أكثر، ربما نضطر للنزوح مرة ثالثة، يبقى شخص واحد يحرسنا ونحن نياماً، ليوقظنا إذا اضطر الأمر فننجو بأنفسنا. 

أجفاني تلتصق ببعضها  البعض بسبب النعاس، لكن قذيفة سقطت قريباً قررت أن تفزع نومي، فيما الحجارة ضربت باب بيت الدرج.

أريد النوم مرتاح البال من دون الشعور بضرورة الهرب من قذيفة تلاحقني أينما ذهبت. 

اسمي عصام من غزة أحاول النوم في بيت الدرج، أطالب منظمة حقوق الإنسان بحقي في النوم من دون تهجّم القذائف على منزلي. كلام فارغ.

الاثنين 23/10/2023

الساعة 2:00 بعد منتصف الليل، يحاصرني الصحو على رغم النعاس القاتل، كما يحاصرني صوت القذائف، قلبي يُفتقُ على حالنا، ربما يكون الموت هيناً، ربما فقدنا هيبة الموت أو اعتدنا عليه. 

لم يؤلمني قلبي مثلما الآن، لم أعرف أن هناك وجعاً أشد من وجع الفقد.

لم تفارقني صورة “كنزي” ذات الأربع سنوات، براءة ضحكتها ووجهها الأبيض، كنزي سرق منها الاحتلال يدها اليمنى، قُطعت بالكامل، وكُسرت جمجمتها وكُسر حوضها وكُسرنا نحن عليها.  

الاثنين 23-10-2023(2)

تراودني فكرة الموت منذ أيام، أشعر بأنني في قاع من الوحل، وأننا في كذبة كبيرة لا أستطيع تصديقها. قلتها سابقاً: أنا لست خائفاً من الموت لكني خائف من الشعور بالحياة. 

لو أن العالم سيسمعني لدقيقة واحدة سيكون سؤالي: “لماذا نموت بهذه الطريقة البشعة؟”.

الأربعاء 25-10-2023

الشتاء مقبل، كنّا أنا والأصدقاء نشبّه شوارع مدينة غزة بشوارع باريس، متهكمين على رداءة البنية التحتية للمدينة. في الشتاء، تغرق الأحياء السكنية، تدخل المياه البيوت، وفي بعض الأوقات، كان السكان يتنقلون من مكان الى آخر عن طريق “الحسكات”. تغرق أنابيب الصرف الصحي وتبدأ الرائحة الكريهة بالفوحان في المكان.

محبو الشتاء ينتظرونه مثلهم مثل العشاق الذي يريدون عيش حالة فريدة تحت المطر. في بعض الأحيان، يتمكنون من عيش هذه التجربة لكنها خاطفة جداً، لأنهم يسرقون حبهم من الأباء. المدينة هنا لا تعترف بالعشاق إلا عن طريق الزواج، يسرقون القُبلات والعناق في الشوارع الضيقة أو على درج البنايات.

هذه المرة يتراسلون عبر رسائل الجوال تحت القصف الإسرائيلي من دون عناق، يقفون على طوابير ماء الشرب أو المخابز بالساعات للحصول على القليل من الماء والخبز.

البرد قارس جداً، بيوت مُدمرة بالكامل، بيوت فيها فتحات في الأسقف والجدران، ولا عناقات تخفّف البرد. 

من بيت الدرج إلى المدى البعيد الذي فيه رحمة الله أكبر من رحمة البشر، أشعر بالهذيان، يبدو أن الانفلونزا أصابتني، كعادتي لا أحب استخدام الأدوية لمساعدتي في الشفاء، يأتي المرض ثم يذهب كما أتى. أتعافى من دون تدخل لأنني أعرف قدرتي على الشفاء ولا أعرف صدقهم في صُنع الأدوية. أشعر أنني داخل علاقة مع فتاة لا تعرف ماذا تريد، مرة تريد أن نكون أصدقاء وأخرى عُشاقاً حتى إذا طال الوقت بقينا في المنتصف وبقيت ثقوب القلب تُلهبه. اليوم السادس عشر من العدوان على غزة أشعر بالرمادية، لا أنا في مكان آمن ولا أنا ميت.

الجمعة 27-10-2023

يوم الجمعة الساعة 6:15 مساءً، تحولت جلسة الحكايات في بيت خالتي إلى مقبرة جماعية. قصف الاحتلال الإسرائيلي البيت فوق رؤوسنا من دون سابق إنذار.

كنت أتحدث مع خالي أدهم من برلين لحظة الاعتداء على البيت، لحظة واحدة كنت أجلس فيها على كرسي على سطح البيت مع عائلتي، وفي لحظة واحدة وجدت نفسي تحت الركام، لا أدري متى قُصفنا، فقدت الوعي لثوانٍ ثم فتحت عينيّ، شعرت أني دُفنت وأنا حياً وسط أطنان من الدخان في فمي، سحابة الدخان التي كنت أراها عندما تُقصف البيوت كنت في داخلها. 

بدأت بالبحث عمن كان عندي لحظة الاعتداء، أختي، ابنة خالتي، ابن خالتي، وجدتهم وفتحت التسجيل لصديقتي ريف من الأردن وخالي كي يعرف العالم بهذا الاعتداء الهمجي. 

نزلت عن الدرج بعد عشر دقائق داخل سحب الدخان، بعدما نادى أخي من الطابق الأرض بأن الطريق مفتوح.  نزلنا إلى الطابق الأرضي، تفقدنا جميع من في البيت، الجميع قال نعم إلا والدي، بدأنا ننادي ونحفر في كل مكان حتى سمع صوتنا، صرنا نحمل الركام بأيدينا وأجسادنا المكسورة حتى نخرجه، دخل الجيران علينا كي يخرجونا من البيت لأنه من المحتمل أن يُقصف مرة ثانية كما العادة مع كل البيوت. 

لم نهتم لذلك وبقينا ساعة نحفر ونزيل الركام بأيدينا العارية حتى أخرجناه، الجميع أخذ قراراً في لحظة، لن نخرج من دونه لأننا نعرف جيداً أن المسعفين يخافون من الليل ولا تستطيع الإسعافات العمل ولن يأتي أحد إلا بعد أيام بسبب عدد الضحايا الكبير في اليوم الواحد.

وضعنا البنات في بيت الجيران، حملنا والدي على النقالة وتوجهنا به في سيارة الإسعاف الى مستشفى الشفاء مباشرة. هناك قاموا بالإسعافات الأولية، والنتيجة، كسر في القدم اليمنى واليد اليسرى. 

انتظر والدي  لأكثر من ثلاث ساعات، بعدما أخرجناه من تحت الأنقاض، على أرض المستشفى من دون شيء تحت جسده يخفف عنه الوجع، جن جنوني وأخذت ما أخذت، مرة بالقوة وأخرى باللين كي أخفف عنه. وبعد أكثر من خمس ساعات، حصلنا على فرشة ليتسلق عليها. بعد ساعة، قطب الطبيب رأسه من دون بنج بسبب قلة المستلزمات الطبية، ولأن البنج لحالات أصعب من حالته.

مستشفى الشفاء مليء بالناس من كل مكان، هم في الطرقات، في الشوارع الخلفية وأرضية المستشفى. الكثيرون نزحوا للاحتماء بالمستشفى، الكثير من الإصابات، الكثير من الموتى وسط خيمة في ساحة المستشفى، نشتمّ رائحتهم كل ثانية، داخل الخيمة يوجد طبق، طبق من أشلاء، طبق من أشلاء أطفال غزة في طبق كبير. 

في اليوم التالي، حُوِّل أبي إلى مستشفى الأوروبي لعمل عملية في قدمه ويده، وبعد التشخيص الثاني عرفنا أن عينه اليسرى تعاني من نزيف داخلي وتمزّق في القزحية وانخلاع في عدسة العين. ثلاثة أيام من دون تشخيص واضح لحالته وغداً العملية الجراحية، اليد ربما فيها مشكلة في الأعصاب، القدم بلاتين في عظمة الفخذ، هذا أيضاً بشكل مبدئي.

اسمي عصام هاني حجاج من غزة، خرجت من بيتي في الشجاعية مع عائلتي قبل أن يُقصف، إلى بيت خالتي في حي الزيتون ليُقصف علينا بيت خالتي. اسمي عصام من غزة، أعاني من إصابة في الرأس والكتف الأيمن، لم يتم فحصي حتى اللحظة لأني قادر على الحركة ولأن هناك من هم أكثر أهمية مني. اسم أخي أحمد، حُرق ظهره، اسم أختي شيماء نجت من الموت بأعجوبة وجرحت قدمها، اسم ابن خالتي أحمد، عمره 8 سنوات، جُرح رأسه، وخالتي طوال الليل تقول لي: سمي هذه القصة بمقبرة الحياة يا عصام، ونحن نجونا بأعجوبة من هذه المقبرة بعدما دخلنا البيت صباح يوم التالي ورأيناه، ورأينا آية الله فينا بأن لنا بقية في العمر.

الأحد 29-10-2023

بعد يوم واحد من قصف البيت على رؤوسنا، فكرت أن أكتب عما حدث ثم قلت: لا شيء سيصف ما حصل معنا. سيكون شعوري بالخيانة طاغياً، أنني خنت كل الخوف والصراخ والموت، واختزلت تلك المشاعر ببعض كلمات، أشعر بالخيانة لتلك المشاعر. 

كان لا بد أن يتماسك أحد فينا ولا يبكي، أعلم أن البكاء رحمة لكن لا خيار، الحياة تفرض عليك أحياناً ما لا تستطيع احتماله. الجميع بكى، وعندما كان يأتي دوري كنت أحبس دمعي كأني سجان محترف.

اليوم الثالث بعد القصف، ويا ليتني بكيت مثلما فعل الجميع، يا ليتني خنت كل شيء ورميت دموعي، كل مشاعري محبوسة، عالقة في صدري، صوت صراخ أخوتي وأخواتي، نظرات أختي وهي تقول للمسعف إن أبي تحت الركام تعالَ واخرجه، وبكاء أمي وصراخها على أبي، الذهول في عيونهم، ارتجاف أيديهم، وكل اللمسات التي طمأنا بعضنا بها.

يا ليتني بكيت بصوت عال حتى نسيت من أكون.

الاثنين 30-10-2023

إمرأة تصرخ في المستشفى، تتوسل الطبيب لتقديم موعد عمليتها، عملية زرع صفيحة بلاتين في يدها اليسرى.

لم يدخل والدي غرفة العمليات حتى اللحظة، ثلاثة أيام بعد قصف البيت على رؤوسنا وهو بحاجة الى تدخل جراحي، طلب منه الممرض الصيام للتحضير للعملية منذ يومين. 

ذهبت للدكتور، سألته عن موعد العملية، فقال لي: لا أعرف موعد عملية والدك بالتحديد، ربما تكون بعد ساعة ربما في الغد، عدد الإصابات يزداد في كل لحظة ونوقف العمليات للطوارئ. ممرض آخر في الممر الجانبي قال للطاقم الطبي: إذا لم تكن هناك مسكنات للمرضى فلن أعمل، لا أريد تعذيب الناس.

70 حالة كسر تحتاج الى صفائح بلاتين في اليوم الواحد، والجميع هنا ينتظر دوره، هذا المكان أقرب الى المشرحة التي تتسارع أنفاسها لتبتلع أكبر عدد من أطنان اللحم. 

الممرضون والأطباء أصابتهم حالة من التبلّد، والبرود في الرد على أسئلة المرضى موجع.

منذ ثلاثة أيام  وأنا لم آكل الخبز إلا اليوم، المستشفى هنا في مكان بعيد عن مركز مدينة خان يونس، والمرضى بحاجة الى أكل صحي. قبل أيام، هدد الجيش الإسرائيلي مطعماً في وسط خان يونس بالقصف لأنه يوزع الطعام على الناس مجاناً. 

يقول والدي: لا أريد أخذ دور أحد، إذا كانت العملية اليوم سأكمل صيامي، أما إذا كانت غداُ فسأفطر على البسكويت. 

مرة أخرى أشعر بأنني أخون كل تلك المشاعر بالكتابة عنها، وهي أكبر من الكتابة، تحتاج فقط الى أن نصيح.

01.11.2023
زمن القراءة: 9 minutes

لا أحد يعلم متى يسقط الصاروخ فوق البيت، لا نعلم متى يشتد الوضع أكثر، ربما نضطر للنزوح مرة ثالثة، يبقى شخص واحد يحرسنا ونحن نياماً، ليوقظنا إذا اضطر الأمر فننجو بأنفسنا. 

أنا عصام هاني حجاج من فلسطين -غزة، عمري 27 سنة، درست الأدب الإنكليزي، أكتب الشعر منذ عام 2014، عملت كمدرب كتابة إبداعية للأطفال في قطاع غزة، مؤمن بفكرة المجاورة كطريقة للتعلم، وأعمل على نشرها مع التربوي منير فاشه في غزة منذ 2020.

عشت 6 حروب داخل قطاع غزة، فقدت الكثير من الأصدقاء والأقارب على يد الجيش الإسرائيلي، لأننا ندافع عن حقنا في الحياة الذي سلبه الاحتلال.

الخميس 19-10-2023

الدجاج البلدي يشبه صديقي منير، فالدجاجات الفلسطينية تجيد التكيف مع كل الظروف، كالإنسان الخالي من سموم المدنية الحديثة، والذي يعرف ذاته.  أما الدجاج الإسرائيلي، فأشبه بطلاب المدارس والصفوف، هم بالأقفاص التي يُلقَّنون من خلالها ما يصدقونه من دون تفكير، “القائمون” عليهم يخرجونهم كل صباح ليبحثوا عن رزقهم، ثم يعودون إلى المنزل متى نال منهم التعب. 

هذه المقاربة المتخيّلة راودتني في الساعة 12:15 ظهراً، وأنا أسرق القليل من الهواء وضوء الشمس. لم أقف خارجاً طويلاً، دفعتني دجاجات الجارة لأكتب سريعاً وحمتني من القصف أيضاً، فبعد خمس دقائق من التقاط صورة الدجاج،  قصفت الطائرات بقربنا، وتساقطت الحجارة على رؤوسنا.

 ربما نسمع بعد قليل خبراً عاجلاً: “جيش الاحتلال يستهدف دجاجات الجارة بعدما قتل الناس في غزة”.

الخميس 19-10-2023(2)

الموت يقترب أكثر، معالم الحياة هنا تختفي، مساحة ذاكرتي أصبحت ممتلئة واقتربت من نسيان وجوه أصدقائي وشوارع المدينة التي كنّا نمشي فيها.

الساعة 11 مساءً، تخترق رائحة الرماد والفسفور الأبيض أنوفنا، بدلاً من رائحة الزهور المزروعة على باب البيت. 

قبل يومين، وصلنا خبر أن بيتنا قُصف جزئياً، اليوم وصلنا خبر أن البيت كله قُصف. لا نعرف حقيقة الخبر، لكننا تابعنا عبر الأخبار أن حي الشجاعية أصبح مدينة أشباح كما وصفها المراسل. 

البلكونة في بيتنا التي كنت أنام فيها مُطلة على حدائق الجيران، هي مكان السهر مع الأصدقاء حتى طلوع الفجر، بينما أصوات الجيران لوقت متأخر تشهد على كل ندباتي.

كتبت وأنا في تلك البلكونة حتى جفّت أصابعي، أذكر طقم الأرائك الذي اشترته أمي قبل شهر، لونه فيروزي. أمي ذات ذوق رفيع في كل شيء، أذكر طلاء الجدران الذي عمل عليه والدي حديثاً، وصوت تبادلنا الصراخ. 

أذكر أنه في كل مرة يدخل فيها صديق إلى بلكونتي يقول: “في حد بدهن الحيط أسود”.

الآن، البيت كله أصبح رماداً، باللون الأسود.

الجمعة 20-10-2023

خطوات ثقيلة تأخذني إلى ملاذي سابقاً، إلى حجرات الذكريات، والوصول الأخير بعد ليلة مُنهِكةٍ خارج البيت، مكان المشاكل العائلية والجمعات التي تُشعر الإنسان بالدفء. 

صوت أمي من بعيد يقول: أجلب لنا الطحين معك.

ذهبنا إلى البيت بالسيارة، وقبل بلوغه بمسافة 300 متر توقفت السيارة بسبب حفر القذائف في الطرقات. عندما رأيت الشارع، بهت وجهي وذبلت عيناي، تعبير المراسل على الإذاعة أن حي الشجاعية أصبح مدينة أشباح كان صادقاً بشكل مرعب.

 الصدمة تعتلي وجوهنا وتسيطر عليها من دون سابق إنذار. في الطريق، بيوت الجيران خالية، منها ما هو تحت الأرض وأخرى كأنها متآكلة مع مرور وقت على تركها وحيدة، لكن الحقيقة أنها تُركت لينجو أصحابها من القصف. 

بيتنا أمامي الآن. رأيت الجزء العلوي منه خالياً، وكل شيء في الطابق مندفع إلى الشارع بفعل الانفجار، حائط البيت على الأرض، ولا توجد أبواب ولا نوافذ، بلكونتي دُمرت. بلكونة أبي مع جزء من سقف البيت دُمرت. نال الانفجار من كل شيء، عشر دقائق دخلنا خلالها الى البيت والمنطقة ثم غادرنا مجبرين. أعرف جيداً سياسة الأرض المحروقة، فكل شيء يتحرك في المكان سيُقصف، ونسبة نجاتي 1 في المئة، لكني أردت الذهاب. 

الجمعة 20-10-2023(2)

الساعة تقترب من منتصف الليل، صوت الانفجارات لم يهدأ منذ 14 يوماً. أنا وأخي ننام في بيت الدرج، أما باقي العائلة فينامون داخل البيت بالقرب من بيت الدرج أيضاً. نحن في البيت 16 شخصاً، لكل منّا قصته الخاصة به التي سيرويها يوماً ما. ينام الجميع عدا شخص ينام عندما نصحو. 

لا أحد يعلم متى يسقط الصاروخ فوق البيت، لا نعلم متى يشتد الوضع أكثر، ربما نضطر للنزوح مرة ثالثة، يبقى شخص واحد يحرسنا ونحن نياماً، ليوقظنا إذا اضطر الأمر فننجو بأنفسنا. 

أجفاني تلتصق ببعضها  البعض بسبب النعاس، لكن قذيفة سقطت قريباً قررت أن تفزع نومي، فيما الحجارة ضربت باب بيت الدرج.

أريد النوم مرتاح البال من دون الشعور بضرورة الهرب من قذيفة تلاحقني أينما ذهبت. 

اسمي عصام من غزة أحاول النوم في بيت الدرج، أطالب منظمة حقوق الإنسان بحقي في النوم من دون تهجّم القذائف على منزلي. كلام فارغ.

الاثنين 23/10/2023

الساعة 2:00 بعد منتصف الليل، يحاصرني الصحو على رغم النعاس القاتل، كما يحاصرني صوت القذائف، قلبي يُفتقُ على حالنا، ربما يكون الموت هيناً، ربما فقدنا هيبة الموت أو اعتدنا عليه. 

لم يؤلمني قلبي مثلما الآن، لم أعرف أن هناك وجعاً أشد من وجع الفقد.

لم تفارقني صورة “كنزي” ذات الأربع سنوات، براءة ضحكتها ووجهها الأبيض، كنزي سرق منها الاحتلال يدها اليمنى، قُطعت بالكامل، وكُسرت جمجمتها وكُسر حوضها وكُسرنا نحن عليها.  

الاثنين 23-10-2023(2)

تراودني فكرة الموت منذ أيام، أشعر بأنني في قاع من الوحل، وأننا في كذبة كبيرة لا أستطيع تصديقها. قلتها سابقاً: أنا لست خائفاً من الموت لكني خائف من الشعور بالحياة. 

لو أن العالم سيسمعني لدقيقة واحدة سيكون سؤالي: “لماذا نموت بهذه الطريقة البشعة؟”.

الأربعاء 25-10-2023

الشتاء مقبل، كنّا أنا والأصدقاء نشبّه شوارع مدينة غزة بشوارع باريس، متهكمين على رداءة البنية التحتية للمدينة. في الشتاء، تغرق الأحياء السكنية، تدخل المياه البيوت، وفي بعض الأوقات، كان السكان يتنقلون من مكان الى آخر عن طريق “الحسكات”. تغرق أنابيب الصرف الصحي وتبدأ الرائحة الكريهة بالفوحان في المكان.

محبو الشتاء ينتظرونه مثلهم مثل العشاق الذي يريدون عيش حالة فريدة تحت المطر. في بعض الأحيان، يتمكنون من عيش هذه التجربة لكنها خاطفة جداً، لأنهم يسرقون حبهم من الأباء. المدينة هنا لا تعترف بالعشاق إلا عن طريق الزواج، يسرقون القُبلات والعناق في الشوارع الضيقة أو على درج البنايات.

هذه المرة يتراسلون عبر رسائل الجوال تحت القصف الإسرائيلي من دون عناق، يقفون على طوابير ماء الشرب أو المخابز بالساعات للحصول على القليل من الماء والخبز.

البرد قارس جداً، بيوت مُدمرة بالكامل، بيوت فيها فتحات في الأسقف والجدران، ولا عناقات تخفّف البرد. 

من بيت الدرج إلى المدى البعيد الذي فيه رحمة الله أكبر من رحمة البشر، أشعر بالهذيان، يبدو أن الانفلونزا أصابتني، كعادتي لا أحب استخدام الأدوية لمساعدتي في الشفاء، يأتي المرض ثم يذهب كما أتى. أتعافى من دون تدخل لأنني أعرف قدرتي على الشفاء ولا أعرف صدقهم في صُنع الأدوية. أشعر أنني داخل علاقة مع فتاة لا تعرف ماذا تريد، مرة تريد أن نكون أصدقاء وأخرى عُشاقاً حتى إذا طال الوقت بقينا في المنتصف وبقيت ثقوب القلب تُلهبه. اليوم السادس عشر من العدوان على غزة أشعر بالرمادية، لا أنا في مكان آمن ولا أنا ميت.

الجمعة 27-10-2023

يوم الجمعة الساعة 6:15 مساءً، تحولت جلسة الحكايات في بيت خالتي إلى مقبرة جماعية. قصف الاحتلال الإسرائيلي البيت فوق رؤوسنا من دون سابق إنذار.

كنت أتحدث مع خالي أدهم من برلين لحظة الاعتداء على البيت، لحظة واحدة كنت أجلس فيها على كرسي على سطح البيت مع عائلتي، وفي لحظة واحدة وجدت نفسي تحت الركام، لا أدري متى قُصفنا، فقدت الوعي لثوانٍ ثم فتحت عينيّ، شعرت أني دُفنت وأنا حياً وسط أطنان من الدخان في فمي، سحابة الدخان التي كنت أراها عندما تُقصف البيوت كنت في داخلها. 

بدأت بالبحث عمن كان عندي لحظة الاعتداء، أختي، ابنة خالتي، ابن خالتي، وجدتهم وفتحت التسجيل لصديقتي ريف من الأردن وخالي كي يعرف العالم بهذا الاعتداء الهمجي. 

نزلت عن الدرج بعد عشر دقائق داخل سحب الدخان، بعدما نادى أخي من الطابق الأرض بأن الطريق مفتوح.  نزلنا إلى الطابق الأرضي، تفقدنا جميع من في البيت، الجميع قال نعم إلا والدي، بدأنا ننادي ونحفر في كل مكان حتى سمع صوتنا، صرنا نحمل الركام بأيدينا وأجسادنا المكسورة حتى نخرجه، دخل الجيران علينا كي يخرجونا من البيت لأنه من المحتمل أن يُقصف مرة ثانية كما العادة مع كل البيوت. 

لم نهتم لذلك وبقينا ساعة نحفر ونزيل الركام بأيدينا العارية حتى أخرجناه، الجميع أخذ قراراً في لحظة، لن نخرج من دونه لأننا نعرف جيداً أن المسعفين يخافون من الليل ولا تستطيع الإسعافات العمل ولن يأتي أحد إلا بعد أيام بسبب عدد الضحايا الكبير في اليوم الواحد.

وضعنا البنات في بيت الجيران، حملنا والدي على النقالة وتوجهنا به في سيارة الإسعاف الى مستشفى الشفاء مباشرة. هناك قاموا بالإسعافات الأولية، والنتيجة، كسر في القدم اليمنى واليد اليسرى. 

انتظر والدي  لأكثر من ثلاث ساعات، بعدما أخرجناه من تحت الأنقاض، على أرض المستشفى من دون شيء تحت جسده يخفف عنه الوجع، جن جنوني وأخذت ما أخذت، مرة بالقوة وأخرى باللين كي أخفف عنه. وبعد أكثر من خمس ساعات، حصلنا على فرشة ليتسلق عليها. بعد ساعة، قطب الطبيب رأسه من دون بنج بسبب قلة المستلزمات الطبية، ولأن البنج لحالات أصعب من حالته.

مستشفى الشفاء مليء بالناس من كل مكان، هم في الطرقات، في الشوارع الخلفية وأرضية المستشفى. الكثيرون نزحوا للاحتماء بالمستشفى، الكثير من الإصابات، الكثير من الموتى وسط خيمة في ساحة المستشفى، نشتمّ رائحتهم كل ثانية، داخل الخيمة يوجد طبق، طبق من أشلاء، طبق من أشلاء أطفال غزة في طبق كبير. 

في اليوم التالي، حُوِّل أبي إلى مستشفى الأوروبي لعمل عملية في قدمه ويده، وبعد التشخيص الثاني عرفنا أن عينه اليسرى تعاني من نزيف داخلي وتمزّق في القزحية وانخلاع في عدسة العين. ثلاثة أيام من دون تشخيص واضح لحالته وغداً العملية الجراحية، اليد ربما فيها مشكلة في الأعصاب، القدم بلاتين في عظمة الفخذ، هذا أيضاً بشكل مبدئي.

اسمي عصام هاني حجاج من غزة، خرجت من بيتي في الشجاعية مع عائلتي قبل أن يُقصف، إلى بيت خالتي في حي الزيتون ليُقصف علينا بيت خالتي. اسمي عصام من غزة، أعاني من إصابة في الرأس والكتف الأيمن، لم يتم فحصي حتى اللحظة لأني قادر على الحركة ولأن هناك من هم أكثر أهمية مني. اسم أخي أحمد، حُرق ظهره، اسم أختي شيماء نجت من الموت بأعجوبة وجرحت قدمها، اسم ابن خالتي أحمد، عمره 8 سنوات، جُرح رأسه، وخالتي طوال الليل تقول لي: سمي هذه القصة بمقبرة الحياة يا عصام، ونحن نجونا بأعجوبة من هذه المقبرة بعدما دخلنا البيت صباح يوم التالي ورأيناه، ورأينا آية الله فينا بأن لنا بقية في العمر.

الأحد 29-10-2023

بعد يوم واحد من قصف البيت على رؤوسنا، فكرت أن أكتب عما حدث ثم قلت: لا شيء سيصف ما حصل معنا. سيكون شعوري بالخيانة طاغياً، أنني خنت كل الخوف والصراخ والموت، واختزلت تلك المشاعر ببعض كلمات، أشعر بالخيانة لتلك المشاعر. 

كان لا بد أن يتماسك أحد فينا ولا يبكي، أعلم أن البكاء رحمة لكن لا خيار، الحياة تفرض عليك أحياناً ما لا تستطيع احتماله. الجميع بكى، وعندما كان يأتي دوري كنت أحبس دمعي كأني سجان محترف.

اليوم الثالث بعد القصف، ويا ليتني بكيت مثلما فعل الجميع، يا ليتني خنت كل شيء ورميت دموعي، كل مشاعري محبوسة، عالقة في صدري، صوت صراخ أخوتي وأخواتي، نظرات أختي وهي تقول للمسعف إن أبي تحت الركام تعالَ واخرجه، وبكاء أمي وصراخها على أبي، الذهول في عيونهم، ارتجاف أيديهم، وكل اللمسات التي طمأنا بعضنا بها.

يا ليتني بكيت بصوت عال حتى نسيت من أكون.

الاثنين 30-10-2023

إمرأة تصرخ في المستشفى، تتوسل الطبيب لتقديم موعد عمليتها، عملية زرع صفيحة بلاتين في يدها اليسرى.

لم يدخل والدي غرفة العمليات حتى اللحظة، ثلاثة أيام بعد قصف البيت على رؤوسنا وهو بحاجة الى تدخل جراحي، طلب منه الممرض الصيام للتحضير للعملية منذ يومين. 

ذهبت للدكتور، سألته عن موعد العملية، فقال لي: لا أعرف موعد عملية والدك بالتحديد، ربما تكون بعد ساعة ربما في الغد، عدد الإصابات يزداد في كل لحظة ونوقف العمليات للطوارئ. ممرض آخر في الممر الجانبي قال للطاقم الطبي: إذا لم تكن هناك مسكنات للمرضى فلن أعمل، لا أريد تعذيب الناس.

70 حالة كسر تحتاج الى صفائح بلاتين في اليوم الواحد، والجميع هنا ينتظر دوره، هذا المكان أقرب الى المشرحة التي تتسارع أنفاسها لتبتلع أكبر عدد من أطنان اللحم. 

الممرضون والأطباء أصابتهم حالة من التبلّد، والبرود في الرد على أسئلة المرضى موجع.

منذ ثلاثة أيام  وأنا لم آكل الخبز إلا اليوم، المستشفى هنا في مكان بعيد عن مركز مدينة خان يونس، والمرضى بحاجة الى أكل صحي. قبل أيام، هدد الجيش الإسرائيلي مطعماً في وسط خان يونس بالقصف لأنه يوزع الطعام على الناس مجاناً. 

يقول والدي: لا أريد أخذ دور أحد، إذا كانت العملية اليوم سأكمل صيامي، أما إذا كانت غداُ فسأفطر على البسكويت. 

مرة أخرى أشعر بأنني أخون كل تلك المشاعر بالكتابة عنها، وهي أكبر من الكتابة، تحتاج فقط الى أن نصيح.

01.11.2023
زمن القراءة: 9 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية