fbpx

احتجاجات الضواحي الفرنسيّة: تاريخ من الغضب وغياب العدالة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تقلّص حجم الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في فرنسا، لكن ما زال عدد من ضواحي باريس خصوصاً وباقي فرنسا في حالة ترقّب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تقلّص حجم الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في فرنسا، لكن ما زال عدد من ضواحي باريس خصوصاً وباقي فرنسا في حالة ترقّب. 

التحركات الأمنيّة لم تتراجع مع استمرار حملة الاعتقالات على خلفية حادثة مقتل الشاب الفرنسي من أصول جزائرية نائل مرزوق على يد أحد أفراد الشرطة الفرنسية، وما خلّفه من احتجاجات واسعة فرضت نقاشاً واسعاً حول ممارسات الشرطة وملف الأحياء والعدالة الاجتماعية والعنصرية.

حادثة استثنائية أم مألوفة

يعتبر بعض الباحثين أن تاريخ الشرطة الفرنسية ملازم لإرث الدولة الفرنسية الاستعماري، فهناك جهاز أمني بكامله تشكّل على مدار عقود على أنقاض الشرطة السياسية والجندرمة الفرنسية بحسبهم، بحيث اكتسبت الشرطة الفرنسية خبرة من تاريخها الاستعماري وبخاصة مع حرب التحرير الجزائرية، خبرة نقلتها من الضفة الجنوبية للمتوسط نحو الشمالية لتطورها في استجواب المهاجرين والمجرمين، وكل الرافضين لسياسات الضبط الاجتماعي التي كانت تحاول الدولة فرضها حينها.

يشير الباحث والمؤرخ ماتيو ريغوست صاحب كتاب “العدو الداخلي: الإرث الاستعماري والعسكري في النظام الأمني الفرنسي”، الى أنه وتقديراً لإدارته الثورة المسلّحة كمحافظ أعلى خلال حرب تحرير الجزائر، تم تعيين موريس بابون مديراً للشرطة في باريس عام 1958، لإخضاع “مخرّبي شمال إفريقيا”، على حدّ وصفه. وقد نقل بابون عقيدة الشرطة، وعدداً من العاملين فيها وأفكارها وممارساتها، من أرض الحرب الاستعمارية إلى العاصمة الفرنسية، حيث أدار مذبحة متظاهري 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1961 على النموذج القمعي نفسه الذي سبق واستُعمل ضد تظاهرات كانون الأول/ ديسمبر 1960 الشعبية في الجزائر. وظلّ بابون محافظاً للشرطة حتى عام 1967.

ومع تواصل تدفّق المهاجرين من البلدان المغاربية والأفريقية جنوب الصحراء، بدأ النقاش حول المهاجرين يطفو، نقاش برزت معه مخاوف حولهم ودعوات إلى إقصائهم وترحيلهم، فوجدت فرنسا حينها في المقاربة الأمنية حلّاً جذرياً، لتتالى عمليات قتل المهاجرين في حملات غير مبررة صنفت بأنها عنصرية تم فيها استهداف المهاجرين بسبب ملامحهم وجذورهم العرقية.

توضح الصحافية والباحثة في الحضارة الفرنسية سارة قريرة،  في حديثها الى “درج”، أنه يجب التنبه، عند الحديث عن عنف الشرطة، الى الإرث الاستعماري الذي نجده في خطاب الشرطة، والذي يتمثل بـ”بشتائم يطلقها بعض أفراد الشرطة على العرب، وتعود إلى فترة حرب التحرير الجزائرية”، والذي وثّقه كتاب وباحثون في فرنسا، مثل ماتيو ريغوست.

لكن طريقة تعامل الشرطة بشكل عام في فرنسا، أصبحت أكثر عنفاً في منذ 2016، مع محاولة تمرير “قانون الشغل”، وقد شهدنا ذلك أيضاً خلال احتجاجات “السترات الصفراء”، والتظاهرات ضد قانون التقاعد أو ضد “المسابح العظمى” في منطقة سانت سولين. لكن يكمن الفرق بحسب قريرة وباحثين آخرين في أن تعامل الشرطة العنيف حيال الفرنسيين البيض ظرفي، أي خلال الاحتجاجات، لكن التعامل مع شباب الأحياء الشعبية يوميّ. وهذا ما يجعل أطفال هذه الأحياء وشبابها من غير البيض يتعلّمون منذ سنواتهم الأولى مواجهة الشرطة. وما جرى لنائل ما كان ليحدث أبداً مع شاب في عمره في أحد أحياء باريس المركزية.

على مدار عقود، بنت الجمهورية الفرنسية علاقة سيطرة وإخضاع تقوم على عزل شباب الضواحي داخل الأحياء الشعبية، فيما يبقى المركز الباريسي بعيداً منهم. كما تقوم الشرطة بترسيخ استمرارية هذه العلاقة من خلال ترسانة قانونية تحميها، وهذا ما يفسر العنصرية والموت على يد الشرطة، موت يطاول “الجغرافيا العربية” في باريس، سواء في برباس، بيلفيل سانت دوني أو مونتبرناس، ولا يجد الأمن سوى العنف ضد  المهاجرين كحل لفرض الأمن حسب تبريره، فيما تكشف جميع الأحداث عن قتل مجاني ومقاربة عنصرية. 

من مونتبرناس إلى نانتير

في مطلع الثمانينات، هزّت حادثة مقتل شاب مغاربي على يد الشرطة الفرنسية في حي مونتبرناس، الجالية المغاربية في فرنسا، فتحرّكت المنظمات الحقوقية لوضع حدّ لعنصرية عناصر من الشرطة، وبدأت تتبلور ملامح حركيّة جديدة في المشهد الحقوقي الفرنسي، إذ لحن الفنان المغربي المعروف عبد الوهاب الدكالي آنذاك، أغنية تحدث فيها عن الموت المجاني الذي يواجهه العرب المغتربون.

في مونتبرناس 

 مات خويا يا بويا 

 برصاص قناص، عنصري يا بويا 

 بالحقد أعمى تربى وعاش، يكره الناس

 في مونتبرناس، سال دم أحمر دم أحمر،

 وبكات طيور الفجر 

و ذنب خويا يا بويا أنو عربي، عربي لونو أسمر

نانتير ليست فقط مجرد حي من أحياء الصفيح القائمة على تخوم باريس، تشكّل لضم العمال المغاربة الوافدين لإعادة إعمار فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ يعتبر الباحث في العلوم الاجتماعية أحمد نظيف، أن نانتير عاشت حركة ثقافية وسياسية أكثر من غيرها من الأحياء الشعبية في فرنسا، وفيها خاضت الحركة العمالية المغاربية نضالاتها الأولى ضد اللامساواة، ومن جامعة نانتير، بدأت الشرارة الأولى لثورة أيار/ مايو 1968، عندما احتل 150 طالباً، بقيادة دانيال بنديت، المقر الإداري المركزي لكلية الحقوق. 

يضيف نظيف،  أن “ماي 68” قلب فرنسا رأساً على عقب، إذ ساهمت العوامل الجديدة في دفع ظروف المهاجرين إلى الأمام، وانتشار صور أحياء الصفيح في التلفزيون والصحف، وبدا الأمر كأنه “عار” يلاحق الجمهورية. 

في بداية السبعينات، شرعت الدولة في بناء مساكن اجتماعية على أنقاض أحياء الصفيح، وبدت أكثر رفاهةً قياساً بالبؤس المسيطر عليها، لكنها حافظت على المنطق نفسه في عزل هؤلاء عن بقية المجتمع الفرنسي، بوصفهم جزءاً غريباً عن المجتمع. في الوقت نفسه، بدأت الحركة العمالية المغاربية تعي ذاتها ومشاكلها. 

في 21 أيار/ أيار 1973، وفي منطقة صناعية معزولة خلف خطوط السكك الحديد، اندلع الإضراب الأول للعمال غير الشرعيين في فرنسا، وقرر العمال المغاربة ورفاقهم البرتغاليون، الذين يفرغون الشاحنات في مصانع إعادة تدوير الورق في نانتير، التوقف عن العمل والتنديد بممارسة “العبودية” عليهم بسبب عدم تسوية وضعيتهم القانونية.

حصانة قانونيّة؟

شهدت فترة الخمسينات تدفّق عدد هائل من العمال المغاربة إلى فرنسا، ولم يكن العقل السياسي يتوقع أن الهجرة ستستمر، وأن العمال سيبقون هناك، على النقيض كان التفكير السائد بأن العمال سيعودون الى بلدانهم بعد انتهاء مسار إعادة الإعمار والمشاريع الضخمة التي يتم تدشينها من مصانع وطرقات وأبنية.

لم تكترث السلطات حينها لهم ولم تكيّف قوانينها بما يحميهم، خلافًا لذلك، أدارت ظهرها لمعاناتهم، وتركتهم في وضعية هشة من دون حماية اجتماعية أو تأمين صحي، ورغم الإنجازات المهمة التي حققتها لهم ثورة “مايو 68” مهنياً ونقابياً، ظلوا في غالبيتهم على هامش الأوليات، يعانون التهميش والعنصرية و”التحفير”، رغم أن دستور 1958 يضمن للمواطنين معاملة متساوية بصرف النظر عن الأصل أو العرق أو الدين.

التقاليد السياسية الفرنسية لا تعترف بمصطلح “أقلية عرقية” أو “عنصرية” في خطابها، وساهم هذا الطمس والإنكار في خلق فوارق بين الفرنسيين “البيض” والفرنسيين من جذور عربية أو أفريقية، فوارق لا تمتد فقط الى الأمن والشرطة، بل تتواصل لتشمل الصحة والإعلام والإدارات والسجون والتعليم، وتجعل الإنسان محل اتهام فقط بسبب جذوره، وهو ما يبرز بشكل أشد وضوحاً في التفتيش الأمني العشوائي، إذ يكفي أن تكون ملامحه عربية حتى يقع التدقيق في هويته من طرف الأمن.

على رغم أن هذا التدقيق هو إجراء إداري فقط، لكنه تحول منذ سنة 2017 إلى كابوس فعلي للمهاجرين، عندما تعرّض أربعة رجال من الشرطة الفرنسية في مدينة فيري شاتيون، إلى اعتداء بزجاجات المولوتوف، حادثة استغلها اليمين المتطرف ووظّفتها الحكومة، إذ اعتبرت أن الهدف من القانون هو” تخفيف القيود المفروضة على رجال الشرطة المتعلقة بإطلاق النار في حالة الدفاع الشرعي عن النفس، شريطة وجود تهديدٍ جدّي وبعد استخدام طلقات تحذيرية”.

تحوّل التدقيق في الهوية من مجرد إجراء روتيني الى استفزاز وتعنيف، إذ ازداد عدد حوادث إطلاق النار المميتة ضد المركبات، بمقدار خمسة أضعاف،  ليلقى حوالى 13 شخصاً حتفهم السنة الماضية على يد الشرطة الفرنسية.

التخريب هو الصوت الوحيد المسموع

 العرائض، الرسائل المفتوحة والمسيرات مسموعة، لم تستطع أن توصل الصوت المعترض للمهاجرين، بل كان التخريب صوتهم المسموع الوحيد، وهذا ما دفع بكثيرين الى التخريب والتحطيم. إذ يقول علي، مهاجر غير نظامي في فرنسا منذ تسع سنوات، لـ”درج”: “مرت سنوات من الاحتجاج والتوجه إلى جمعيات الهجرة وحقوق الإنسان ومكافحة العنصرية من دون جدوى”. 

في السياق ذاته، تضيف قريرة التي غطت الاحتجاجات، لـ “درج”، أنه لم تكن هناك فعلاً مطالب، فمن حملوا المطالب هم أولئك الذين شاركوا في “المسيرة البيضاء” التي دعت إليها والدة الشاب نائل، ما حدث خلال الاحتجاجات أشبه بانتفاضة عدمية لجيل يعيش على هامش المجتمع، جغرافياً واقتصادياً. والتهميش الجغرافي كما العنف المسلط من قبل الشرطة هو طبعاً إرث استعماري”.

تكبدت فرنسا خسائر هائلة إثر الاحتجاجات، إذ أصيب أكثر من 123 شرطياً ودركياً، فيما تجاوز عدد المعتقلين الألف بعد أسبوع من الاحتجاجات. وأشارت وزارة الداخلية الفرنسية إلى أن المتظاهرين أضرموا النيران في 871 موقعاً عاماً، و577 سيارة، وألحقوا أضراراً بـ74 مبنى خلال ليلة واحدة، بينما تجاوزت الخسائر أكثر من مليار يورو.

في عام 1983، توفي عبد النبي قميحة بعد رميه بالرصاص من قبل عنصريين في منطقة نانتير، واليوم بعد أربعة عقود، واجه نائل مرزوق المصير نفسه، وبين التاريخين سيرة أجيال من المهاجرين تدفع دمها وتموت على يد العنصريين والشرطة، وتغيب العدالة في دهاليز المحاكم وأروقتها وسط إنكار كامل من الشرطة الفرنسية وتبرير من اليمين المتطرف.

“نائل الأخ الصغير لكل نانتير”، “لا سلام بلا عدالة”، هذا ما كُتب على جدران ضاحية نانتير، التي تعاني من التهميش والعنصرية والقمع الأمني. 

من مرسيليا مروراً بليون ووصولاً إلى باريس، خط طويل، تغيب فيه العدالة ويعاني فيه المهاجرون من التهميش والعنصرية، ويجد أجيال من الفرنسيين من أصول مغاربية أنفسهم مشتتين في فرنسا التي ترفضهم وجذورهم العربية. “الموت أو العدالة”، هكذا كتب “الحرّاقة” والمهاجرون على جدران باريس ويبدو أن الحيرة لازالت قائمة.

17.07.2023
زمن القراءة: 7 minutes

تقلّص حجم الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في فرنسا، لكن ما زال عدد من ضواحي باريس خصوصاً وباقي فرنسا في حالة ترقّب.

تقلّص حجم الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في فرنسا، لكن ما زال عدد من ضواحي باريس خصوصاً وباقي فرنسا في حالة ترقّب. 

التحركات الأمنيّة لم تتراجع مع استمرار حملة الاعتقالات على خلفية حادثة مقتل الشاب الفرنسي من أصول جزائرية نائل مرزوق على يد أحد أفراد الشرطة الفرنسية، وما خلّفه من احتجاجات واسعة فرضت نقاشاً واسعاً حول ممارسات الشرطة وملف الأحياء والعدالة الاجتماعية والعنصرية.

حادثة استثنائية أم مألوفة

يعتبر بعض الباحثين أن تاريخ الشرطة الفرنسية ملازم لإرث الدولة الفرنسية الاستعماري، فهناك جهاز أمني بكامله تشكّل على مدار عقود على أنقاض الشرطة السياسية والجندرمة الفرنسية بحسبهم، بحيث اكتسبت الشرطة الفرنسية خبرة من تاريخها الاستعماري وبخاصة مع حرب التحرير الجزائرية، خبرة نقلتها من الضفة الجنوبية للمتوسط نحو الشمالية لتطورها في استجواب المهاجرين والمجرمين، وكل الرافضين لسياسات الضبط الاجتماعي التي كانت تحاول الدولة فرضها حينها.

يشير الباحث والمؤرخ ماتيو ريغوست صاحب كتاب “العدو الداخلي: الإرث الاستعماري والعسكري في النظام الأمني الفرنسي”، الى أنه وتقديراً لإدارته الثورة المسلّحة كمحافظ أعلى خلال حرب تحرير الجزائر، تم تعيين موريس بابون مديراً للشرطة في باريس عام 1958، لإخضاع “مخرّبي شمال إفريقيا”، على حدّ وصفه. وقد نقل بابون عقيدة الشرطة، وعدداً من العاملين فيها وأفكارها وممارساتها، من أرض الحرب الاستعمارية إلى العاصمة الفرنسية، حيث أدار مذبحة متظاهري 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1961 على النموذج القمعي نفسه الذي سبق واستُعمل ضد تظاهرات كانون الأول/ ديسمبر 1960 الشعبية في الجزائر. وظلّ بابون محافظاً للشرطة حتى عام 1967.

ومع تواصل تدفّق المهاجرين من البلدان المغاربية والأفريقية جنوب الصحراء، بدأ النقاش حول المهاجرين يطفو، نقاش برزت معه مخاوف حولهم ودعوات إلى إقصائهم وترحيلهم، فوجدت فرنسا حينها في المقاربة الأمنية حلّاً جذرياً، لتتالى عمليات قتل المهاجرين في حملات غير مبررة صنفت بأنها عنصرية تم فيها استهداف المهاجرين بسبب ملامحهم وجذورهم العرقية.

توضح الصحافية والباحثة في الحضارة الفرنسية سارة قريرة،  في حديثها الى “درج”، أنه يجب التنبه، عند الحديث عن عنف الشرطة، الى الإرث الاستعماري الذي نجده في خطاب الشرطة، والذي يتمثل بـ”بشتائم يطلقها بعض أفراد الشرطة على العرب، وتعود إلى فترة حرب التحرير الجزائرية”، والذي وثّقه كتاب وباحثون في فرنسا، مثل ماتيو ريغوست.

لكن طريقة تعامل الشرطة بشكل عام في فرنسا، أصبحت أكثر عنفاً في منذ 2016، مع محاولة تمرير “قانون الشغل”، وقد شهدنا ذلك أيضاً خلال احتجاجات “السترات الصفراء”، والتظاهرات ضد قانون التقاعد أو ضد “المسابح العظمى” في منطقة سانت سولين. لكن يكمن الفرق بحسب قريرة وباحثين آخرين في أن تعامل الشرطة العنيف حيال الفرنسيين البيض ظرفي، أي خلال الاحتجاجات، لكن التعامل مع شباب الأحياء الشعبية يوميّ. وهذا ما يجعل أطفال هذه الأحياء وشبابها من غير البيض يتعلّمون منذ سنواتهم الأولى مواجهة الشرطة. وما جرى لنائل ما كان ليحدث أبداً مع شاب في عمره في أحد أحياء باريس المركزية.

على مدار عقود، بنت الجمهورية الفرنسية علاقة سيطرة وإخضاع تقوم على عزل شباب الضواحي داخل الأحياء الشعبية، فيما يبقى المركز الباريسي بعيداً منهم. كما تقوم الشرطة بترسيخ استمرارية هذه العلاقة من خلال ترسانة قانونية تحميها، وهذا ما يفسر العنصرية والموت على يد الشرطة، موت يطاول “الجغرافيا العربية” في باريس، سواء في برباس، بيلفيل سانت دوني أو مونتبرناس، ولا يجد الأمن سوى العنف ضد  المهاجرين كحل لفرض الأمن حسب تبريره، فيما تكشف جميع الأحداث عن قتل مجاني ومقاربة عنصرية. 

من مونتبرناس إلى نانتير

في مطلع الثمانينات، هزّت حادثة مقتل شاب مغاربي على يد الشرطة الفرنسية في حي مونتبرناس، الجالية المغاربية في فرنسا، فتحرّكت المنظمات الحقوقية لوضع حدّ لعنصرية عناصر من الشرطة، وبدأت تتبلور ملامح حركيّة جديدة في المشهد الحقوقي الفرنسي، إذ لحن الفنان المغربي المعروف عبد الوهاب الدكالي آنذاك، أغنية تحدث فيها عن الموت المجاني الذي يواجهه العرب المغتربون.

في مونتبرناس 

 مات خويا يا بويا 

 برصاص قناص، عنصري يا بويا 

 بالحقد أعمى تربى وعاش، يكره الناس

 في مونتبرناس، سال دم أحمر دم أحمر،

 وبكات طيور الفجر 

و ذنب خويا يا بويا أنو عربي، عربي لونو أسمر

نانتير ليست فقط مجرد حي من أحياء الصفيح القائمة على تخوم باريس، تشكّل لضم العمال المغاربة الوافدين لإعادة إعمار فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ يعتبر الباحث في العلوم الاجتماعية أحمد نظيف، أن نانتير عاشت حركة ثقافية وسياسية أكثر من غيرها من الأحياء الشعبية في فرنسا، وفيها خاضت الحركة العمالية المغاربية نضالاتها الأولى ضد اللامساواة، ومن جامعة نانتير، بدأت الشرارة الأولى لثورة أيار/ مايو 1968، عندما احتل 150 طالباً، بقيادة دانيال بنديت، المقر الإداري المركزي لكلية الحقوق. 

يضيف نظيف،  أن “ماي 68” قلب فرنسا رأساً على عقب، إذ ساهمت العوامل الجديدة في دفع ظروف المهاجرين إلى الأمام، وانتشار صور أحياء الصفيح في التلفزيون والصحف، وبدا الأمر كأنه “عار” يلاحق الجمهورية. 

في بداية السبعينات، شرعت الدولة في بناء مساكن اجتماعية على أنقاض أحياء الصفيح، وبدت أكثر رفاهةً قياساً بالبؤس المسيطر عليها، لكنها حافظت على المنطق نفسه في عزل هؤلاء عن بقية المجتمع الفرنسي، بوصفهم جزءاً غريباً عن المجتمع. في الوقت نفسه، بدأت الحركة العمالية المغاربية تعي ذاتها ومشاكلها. 

في 21 أيار/ أيار 1973، وفي منطقة صناعية معزولة خلف خطوط السكك الحديد، اندلع الإضراب الأول للعمال غير الشرعيين في فرنسا، وقرر العمال المغاربة ورفاقهم البرتغاليون، الذين يفرغون الشاحنات في مصانع إعادة تدوير الورق في نانتير، التوقف عن العمل والتنديد بممارسة “العبودية” عليهم بسبب عدم تسوية وضعيتهم القانونية.

حصانة قانونيّة؟

شهدت فترة الخمسينات تدفّق عدد هائل من العمال المغاربة إلى فرنسا، ولم يكن العقل السياسي يتوقع أن الهجرة ستستمر، وأن العمال سيبقون هناك، على النقيض كان التفكير السائد بأن العمال سيعودون الى بلدانهم بعد انتهاء مسار إعادة الإعمار والمشاريع الضخمة التي يتم تدشينها من مصانع وطرقات وأبنية.

لم تكترث السلطات حينها لهم ولم تكيّف قوانينها بما يحميهم، خلافًا لذلك، أدارت ظهرها لمعاناتهم، وتركتهم في وضعية هشة من دون حماية اجتماعية أو تأمين صحي، ورغم الإنجازات المهمة التي حققتها لهم ثورة “مايو 68” مهنياً ونقابياً، ظلوا في غالبيتهم على هامش الأوليات، يعانون التهميش والعنصرية و”التحفير”، رغم أن دستور 1958 يضمن للمواطنين معاملة متساوية بصرف النظر عن الأصل أو العرق أو الدين.

التقاليد السياسية الفرنسية لا تعترف بمصطلح “أقلية عرقية” أو “عنصرية” في خطابها، وساهم هذا الطمس والإنكار في خلق فوارق بين الفرنسيين “البيض” والفرنسيين من جذور عربية أو أفريقية، فوارق لا تمتد فقط الى الأمن والشرطة، بل تتواصل لتشمل الصحة والإعلام والإدارات والسجون والتعليم، وتجعل الإنسان محل اتهام فقط بسبب جذوره، وهو ما يبرز بشكل أشد وضوحاً في التفتيش الأمني العشوائي، إذ يكفي أن تكون ملامحه عربية حتى يقع التدقيق في هويته من طرف الأمن.

على رغم أن هذا التدقيق هو إجراء إداري فقط، لكنه تحول منذ سنة 2017 إلى كابوس فعلي للمهاجرين، عندما تعرّض أربعة رجال من الشرطة الفرنسية في مدينة فيري شاتيون، إلى اعتداء بزجاجات المولوتوف، حادثة استغلها اليمين المتطرف ووظّفتها الحكومة، إذ اعتبرت أن الهدف من القانون هو” تخفيف القيود المفروضة على رجال الشرطة المتعلقة بإطلاق النار في حالة الدفاع الشرعي عن النفس، شريطة وجود تهديدٍ جدّي وبعد استخدام طلقات تحذيرية”.

تحوّل التدقيق في الهوية من مجرد إجراء روتيني الى استفزاز وتعنيف، إذ ازداد عدد حوادث إطلاق النار المميتة ضد المركبات، بمقدار خمسة أضعاف،  ليلقى حوالى 13 شخصاً حتفهم السنة الماضية على يد الشرطة الفرنسية.

التخريب هو الصوت الوحيد المسموع

 العرائض، الرسائل المفتوحة والمسيرات مسموعة، لم تستطع أن توصل الصوت المعترض للمهاجرين، بل كان التخريب صوتهم المسموع الوحيد، وهذا ما دفع بكثيرين الى التخريب والتحطيم. إذ يقول علي، مهاجر غير نظامي في فرنسا منذ تسع سنوات، لـ”درج”: “مرت سنوات من الاحتجاج والتوجه إلى جمعيات الهجرة وحقوق الإنسان ومكافحة العنصرية من دون جدوى”. 

في السياق ذاته، تضيف قريرة التي غطت الاحتجاجات، لـ “درج”، أنه لم تكن هناك فعلاً مطالب، فمن حملوا المطالب هم أولئك الذين شاركوا في “المسيرة البيضاء” التي دعت إليها والدة الشاب نائل، ما حدث خلال الاحتجاجات أشبه بانتفاضة عدمية لجيل يعيش على هامش المجتمع، جغرافياً واقتصادياً. والتهميش الجغرافي كما العنف المسلط من قبل الشرطة هو طبعاً إرث استعماري”.

تكبدت فرنسا خسائر هائلة إثر الاحتجاجات، إذ أصيب أكثر من 123 شرطياً ودركياً، فيما تجاوز عدد المعتقلين الألف بعد أسبوع من الاحتجاجات. وأشارت وزارة الداخلية الفرنسية إلى أن المتظاهرين أضرموا النيران في 871 موقعاً عاماً، و577 سيارة، وألحقوا أضراراً بـ74 مبنى خلال ليلة واحدة، بينما تجاوزت الخسائر أكثر من مليار يورو.

في عام 1983، توفي عبد النبي قميحة بعد رميه بالرصاص من قبل عنصريين في منطقة نانتير، واليوم بعد أربعة عقود، واجه نائل مرزوق المصير نفسه، وبين التاريخين سيرة أجيال من المهاجرين تدفع دمها وتموت على يد العنصريين والشرطة، وتغيب العدالة في دهاليز المحاكم وأروقتها وسط إنكار كامل من الشرطة الفرنسية وتبرير من اليمين المتطرف.

“نائل الأخ الصغير لكل نانتير”، “لا سلام بلا عدالة”، هذا ما كُتب على جدران ضاحية نانتير، التي تعاني من التهميش والعنصرية والقمع الأمني. 

من مرسيليا مروراً بليون ووصولاً إلى باريس، خط طويل، تغيب فيه العدالة ويعاني فيه المهاجرون من التهميش والعنصرية، ويجد أجيال من الفرنسيين من أصول مغاربية أنفسهم مشتتين في فرنسا التي ترفضهم وجذورهم العربية. “الموت أو العدالة”، هكذا كتب “الحرّاقة” والمهاجرون على جدران باريس ويبدو أن الحيرة لازالت قائمة.

17.07.2023
زمن القراءة: 7 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية