fbpx

الخناق يضيق على السودانيين.. عن الخصوصيّة في زمن الحرب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم تكتفِ الحرب بتدمير سُبل العيش وسلاسل الإمداد التي جعلت قرابة 18 مليوناً يعانون من الجوع الشديد، بينهم 4.9 مليون فرد على خطوة واحدة من المجاعة وإنما أعدمت الخصوصية الفردية والأسرية تماماً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عند اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 نيسان/ أبريل 2023، كنتُ مستقراً مع أسرتي في مدينة الحصاحيصا بولاية الجزيرة المحاذية للعاصمة الخرطوم.

 بدأت أفقد الأمل في استرداد مكتبتي من الخرطوم مع توسّع نطاق القتال واتخاذه طابعاً انتقامياً. ومع أن العلاقة بين أي قارئ وكتبه عاطفية، وفقدانها يُشعرك وكأن جزءاً حيوياً من جسدك بُتر، إلا أن فقداني الخصوصية بسبب النزاع يُعد أسوأ من ذلك.

غدت الشقة التي أقطن فيها مسكناً دائماً وأحياناً مؤقتاً لبعض أقاربي ومعارفي، ومع ذلك ظلت أسرتي تُقدم الدعوة لمزيد من الأهل الراغبين في الفرار من العنف لمشاركتنا السكن، بحكم قرب الحصاحيصا جغرافياً من الخرطوم. 

لم يُلبِّ الكثير دعوتنا ربما لمعرفتهم بأننا سننتقل إلى مدينة أخرى بمجرد إكمال زوجتي فترة الامتياز، وهي تدريب لمدة عام في مستشفى تعليمي لأي طبيب متخرج حديثاً.

بحلول أيلول/ سبتمبر 2023، انتقلنا إلى مدينة كسلا شرق السودان بغرض استخراج وثائق الهوية والجوازات، ومنها إلى بورتسودان التي سكنا فيها مع أقارب زوجتي لفترة وجيزة، قبل أن تغادر هي وطفلنا البلاد، بينما فضّلت العودة إلى مدينة الدندر وسط السودان عند أقربائي، على أمل أن أتبعهما لاحقاً، لكن الشيء الثابت في بلادي هو أن الأوضاع تذهب دائماً في الاتجاه الأسوأ.

يظهر تأثير فقدان الخصوصية في التكدّر الذي لازم السودانيين منذ نشوب النزاع، والحدة في النقاش والانزواء عن الآخرين، وعادة ما أُفضل الأخير بحكم أنه الأقل ضرراً لمن يحيط بك. 

الوضع يزداد سوءاً

بدأت أتابع عن كثب أوضاع الفارين من منازلهم هرباً من العنف، منذ موجة النزوح الأولى، بالتركيز على فقدانهم الخصوصية واضطرابات ما بعد الصدمة. كانت جُل نقاشاتي مع زملائي ومعارفي النازحين الذين استقروا مع أصهارهم وأقربائهم، عنها وعن التدابير التي اتخذوها حيالها.

كانت إجاباتهم صاعقة: لم يفعلوا شيئاً، لكن لمست عندهم آمالاً قوية في العودة إلى منازلهم خلال فترة قصيرة، وربما لهذا تعايشوا مع انعدام الخصوصية. 

مع طول أمد النزاع، وتحديداً في مطلع هذا العام، أعدت النقاشات ذاتها عبر تطبيقات التراسل الاجتماعي مع بعض الذين يعيشون في مجتمعات مستضيفة، وكانت إجابتهم صاعقة أيضاً: لاحظوا أنهم يميلون إلى العنف المنزلي. قال أحد زملائي: “أصبحت أُعنّف زوجتي لفظياً وأخشى أن يتحوّل هذا إلى عنف بدني”.

ويزداد الوضع سوءاً في أكثر من 7 آلاف موقع يقيم فيه النازحون الذين تصل نسبة النساء والفتيات منهم إلى 53 في المئة، إذ دفع تزايد استغلال النساء فيها بوحدة مكافحة العنف ضد الطفل والمرأة، إلى البحث عن تدابير تشمل تدريب مسؤولي مراكز الإيواء وإيجاد آليات رقابة وتفعيل القوانين.

تقول النازحة هدى التي اكتفت باسمها الأول فقط، لـ “درج”، وهي أم لطفل عمره ثلاث سنوات، إنها تعرضت لتحرش جنسي في مركز إيواء بمديضنة بورتسودان التي اتخذها الجيش مركزاً لإدارة شؤون البلاد، من دون أن تتقّدم بدعوى جنائية لتلافي وصمة العار.

تشير هدى إلى أنها أخبرت زوجها، قبل فترة وجيزة، بخشيتها من التعود على حياة النزوح بكل مآسيها، في ظل تلاشي ذكرياتها عن البيت.

وتضيف: “في السابق، كنت أستعيد ذكرياتي مع أسرتي لأشعر بالدفء، ولأعطي لنفسي الأمل بالعودة إلى المنزل، لكني الآن أُفكر في كيفية تفادي التحرش والاستغلال، لا أحد يستحق أن يعيش في هذا الكابوس الدائم”.

تتوقع الأمم المتحدة ارتفاع أعداد اللواتي يتعرضن لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي، إلى أكثر من 6.7 مليون امرأة وفتاة هذا العام. وأُرجح أن هذا الارتفاع يعود بصورة رئيسية إلى البطالة وفقدان العمل وتآكل المدخرات مع تدهور قيمة العملة المحلية وانعدام الخصوصية.

اضطراب اجتماعي

تشير إحصاءات منظمة الهجرة الدولية إلى أن 67 في المئة من النازحين بسبب الحرب الحالية، يقيمون مع المجتمعات المضيفة؛ أي أنهم يسكنون مع أقربائهم وأصهارهم ومعارفهم، وهذا يعني فقدان النازحين والأسر المستضيفة الخصوصية التي كانوا يتمتعون بها قبل الحرب.

إضافة إلى ذلك، يقيم ملايين النازحين في مراكز إيواء مؤقتة سواء في المدارس أو في خيم مهترئة قرب المؤسسات العامة، في ظل أوضاع تفتقر إلى وجود أدنى نوع من الخصوصية الفردية أو الأسرية.

كل الأوضاع في السودان تؤكد أننا في خضم اضطراب اجتماعي قد تكون نتائجه أفظع من القتال، ولن تكون الأسر في مأمن من التشتت مع تقلص المساحات الآمنة. وقد بدأت آثار هذا الاضطراب تظهر في النقاشات اليومية التي أجريها هذه الفترة في مدينة بورتسودان، التي عُدت إليها للمرة الثالثة منذ اندلاع الحرب.

تتضاعف مآسي السودانيين مع توسع نطاق النزاع جغرافياً والتوزيع الانتقائي للأسلحة بدعم من الجيش وتشجيعه في ما عُرف بالمقاومة الشعبية المسلحة، علاوة على الاستقطاب الأهلي الحاد وانتشار الكراهية وتخوين الكيانات المدنية الداعية لإيقاف الحرب والناشطة في إغاثة المتضررين منها.

تقول الاختصاصية النفسية، مروة علي، إن انتهاك الخصوصية مثل توقف العلاقة الجنسية بين الزوجين وعدم قدرة الفتاة على ارتداء ما ترغب من الملابس، ومثل هذه التفاصيل الصغيرة تولد شعوراً بعدم الأمان على رغم وجود هؤلاء الأشخاص بين أسرهم.

وتوضح، لـ “درج”، أن انعدام الخصوصية يُمكن أن يصيب الشخص باضطرابات عدة، على رأسها الاكتئاب الذي يتغلغل داخل الفرد الذي واجه سابقاً تحديات بسبب الحرب، مثل فقدان العمل والمنزل وانعدام الأمل بتوقف النزاع في وقت قريب والتعرض للاستغلال، إضافة إلى الخوف الهستيري والهلع واللامبالاة، وهي اضطرابات قد تتفاقم إن لم يتلقَّ النازحون لدعم. 

لم تكتفِ الحرب بتدمير سُبل العيش وسلاسل الإمداد التي جعلت قرابة 18 مليوناً يعانون من الجوع الشديد، بينهم 4.9 مليون فرد على خطوة واحدة من المجاعة وإنما أعدمت الخصوصية الفردية والأسرية تماماً.

13.05.2024
زمن القراءة: 4 minutes

لم تكتفِ الحرب بتدمير سُبل العيش وسلاسل الإمداد التي جعلت قرابة 18 مليوناً يعانون من الجوع الشديد، بينهم 4.9 مليون فرد على خطوة واحدة من المجاعة وإنما أعدمت الخصوصية الفردية والأسرية تماماً.

عند اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 نيسان/ أبريل 2023، كنتُ مستقراً مع أسرتي في مدينة الحصاحيصا بولاية الجزيرة المحاذية للعاصمة الخرطوم.

 بدأت أفقد الأمل في استرداد مكتبتي من الخرطوم مع توسّع نطاق القتال واتخاذه طابعاً انتقامياً. ومع أن العلاقة بين أي قارئ وكتبه عاطفية، وفقدانها يُشعرك وكأن جزءاً حيوياً من جسدك بُتر، إلا أن فقداني الخصوصية بسبب النزاع يُعد أسوأ من ذلك.

غدت الشقة التي أقطن فيها مسكناً دائماً وأحياناً مؤقتاً لبعض أقاربي ومعارفي، ومع ذلك ظلت أسرتي تُقدم الدعوة لمزيد من الأهل الراغبين في الفرار من العنف لمشاركتنا السكن، بحكم قرب الحصاحيصا جغرافياً من الخرطوم. 

لم يُلبِّ الكثير دعوتنا ربما لمعرفتهم بأننا سننتقل إلى مدينة أخرى بمجرد إكمال زوجتي فترة الامتياز، وهي تدريب لمدة عام في مستشفى تعليمي لأي طبيب متخرج حديثاً.

بحلول أيلول/ سبتمبر 2023، انتقلنا إلى مدينة كسلا شرق السودان بغرض استخراج وثائق الهوية والجوازات، ومنها إلى بورتسودان التي سكنا فيها مع أقارب زوجتي لفترة وجيزة، قبل أن تغادر هي وطفلنا البلاد، بينما فضّلت العودة إلى مدينة الدندر وسط السودان عند أقربائي، على أمل أن أتبعهما لاحقاً، لكن الشيء الثابت في بلادي هو أن الأوضاع تذهب دائماً في الاتجاه الأسوأ.

يظهر تأثير فقدان الخصوصية في التكدّر الذي لازم السودانيين منذ نشوب النزاع، والحدة في النقاش والانزواء عن الآخرين، وعادة ما أُفضل الأخير بحكم أنه الأقل ضرراً لمن يحيط بك. 

الوضع يزداد سوءاً

بدأت أتابع عن كثب أوضاع الفارين من منازلهم هرباً من العنف، منذ موجة النزوح الأولى، بالتركيز على فقدانهم الخصوصية واضطرابات ما بعد الصدمة. كانت جُل نقاشاتي مع زملائي ومعارفي النازحين الذين استقروا مع أصهارهم وأقربائهم، عنها وعن التدابير التي اتخذوها حيالها.

كانت إجاباتهم صاعقة: لم يفعلوا شيئاً، لكن لمست عندهم آمالاً قوية في العودة إلى منازلهم خلال فترة قصيرة، وربما لهذا تعايشوا مع انعدام الخصوصية. 

مع طول أمد النزاع، وتحديداً في مطلع هذا العام، أعدت النقاشات ذاتها عبر تطبيقات التراسل الاجتماعي مع بعض الذين يعيشون في مجتمعات مستضيفة، وكانت إجابتهم صاعقة أيضاً: لاحظوا أنهم يميلون إلى العنف المنزلي. قال أحد زملائي: “أصبحت أُعنّف زوجتي لفظياً وأخشى أن يتحوّل هذا إلى عنف بدني”.

ويزداد الوضع سوءاً في أكثر من 7 آلاف موقع يقيم فيه النازحون الذين تصل نسبة النساء والفتيات منهم إلى 53 في المئة، إذ دفع تزايد استغلال النساء فيها بوحدة مكافحة العنف ضد الطفل والمرأة، إلى البحث عن تدابير تشمل تدريب مسؤولي مراكز الإيواء وإيجاد آليات رقابة وتفعيل القوانين.

تقول النازحة هدى التي اكتفت باسمها الأول فقط، لـ “درج”، وهي أم لطفل عمره ثلاث سنوات، إنها تعرضت لتحرش جنسي في مركز إيواء بمديضنة بورتسودان التي اتخذها الجيش مركزاً لإدارة شؤون البلاد، من دون أن تتقّدم بدعوى جنائية لتلافي وصمة العار.

تشير هدى إلى أنها أخبرت زوجها، قبل فترة وجيزة، بخشيتها من التعود على حياة النزوح بكل مآسيها، في ظل تلاشي ذكرياتها عن البيت.

وتضيف: “في السابق، كنت أستعيد ذكرياتي مع أسرتي لأشعر بالدفء، ولأعطي لنفسي الأمل بالعودة إلى المنزل، لكني الآن أُفكر في كيفية تفادي التحرش والاستغلال، لا أحد يستحق أن يعيش في هذا الكابوس الدائم”.

تتوقع الأمم المتحدة ارتفاع أعداد اللواتي يتعرضن لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي، إلى أكثر من 6.7 مليون امرأة وفتاة هذا العام. وأُرجح أن هذا الارتفاع يعود بصورة رئيسية إلى البطالة وفقدان العمل وتآكل المدخرات مع تدهور قيمة العملة المحلية وانعدام الخصوصية.

اضطراب اجتماعي

تشير إحصاءات منظمة الهجرة الدولية إلى أن 67 في المئة من النازحين بسبب الحرب الحالية، يقيمون مع المجتمعات المضيفة؛ أي أنهم يسكنون مع أقربائهم وأصهارهم ومعارفهم، وهذا يعني فقدان النازحين والأسر المستضيفة الخصوصية التي كانوا يتمتعون بها قبل الحرب.

إضافة إلى ذلك، يقيم ملايين النازحين في مراكز إيواء مؤقتة سواء في المدارس أو في خيم مهترئة قرب المؤسسات العامة، في ظل أوضاع تفتقر إلى وجود أدنى نوع من الخصوصية الفردية أو الأسرية.

كل الأوضاع في السودان تؤكد أننا في خضم اضطراب اجتماعي قد تكون نتائجه أفظع من القتال، ولن تكون الأسر في مأمن من التشتت مع تقلص المساحات الآمنة. وقد بدأت آثار هذا الاضطراب تظهر في النقاشات اليومية التي أجريها هذه الفترة في مدينة بورتسودان، التي عُدت إليها للمرة الثالثة منذ اندلاع الحرب.

تتضاعف مآسي السودانيين مع توسع نطاق النزاع جغرافياً والتوزيع الانتقائي للأسلحة بدعم من الجيش وتشجيعه في ما عُرف بالمقاومة الشعبية المسلحة، علاوة على الاستقطاب الأهلي الحاد وانتشار الكراهية وتخوين الكيانات المدنية الداعية لإيقاف الحرب والناشطة في إغاثة المتضررين منها.

تقول الاختصاصية النفسية، مروة علي، إن انتهاك الخصوصية مثل توقف العلاقة الجنسية بين الزوجين وعدم قدرة الفتاة على ارتداء ما ترغب من الملابس، ومثل هذه التفاصيل الصغيرة تولد شعوراً بعدم الأمان على رغم وجود هؤلاء الأشخاص بين أسرهم.

وتوضح، لـ “درج”، أن انعدام الخصوصية يُمكن أن يصيب الشخص باضطرابات عدة، على رأسها الاكتئاب الذي يتغلغل داخل الفرد الذي واجه سابقاً تحديات بسبب الحرب، مثل فقدان العمل والمنزل وانعدام الأمل بتوقف النزاع في وقت قريب والتعرض للاستغلال، إضافة إلى الخوف الهستيري والهلع واللامبالاة، وهي اضطرابات قد تتفاقم إن لم يتلقَّ النازحون لدعم. 

لم تكتفِ الحرب بتدمير سُبل العيش وسلاسل الإمداد التي جعلت قرابة 18 مليوناً يعانون من الجوع الشديد، بينهم 4.9 مليون فرد على خطوة واحدة من المجاعة وإنما أعدمت الخصوصية الفردية والأسرية تماماً.

13.05.2024
زمن القراءة: 4 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية