fbpx

الذاكرة الجمعيّة للنساء في الحرب…”اختبأت في الغسالة وأغلقت أذنيّ”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نكتب في ملف “الذاكرة الجمعية للنساء في الحرب” كل ما لا يُتوقع في الحروب، أشياء النساء والفتيات التي تبدو هامشية، وتجارب المقاومة والاستمرار والانتصار الشخصي، التجارب الشخصية مع الموت والخوف والنجاة والحياة والحب، المشاعر بعد النجاة، نكتب كل ما كان علينا قولها في لحظة ما، لكن لم تسنح الفرصة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عشت عام 2014 أول حرب لي في غزة، وما رافقها من خوف وصراخ وبكاء سيلاحقني إلى الأبد، خوف تحوّل إلى جنيّ أسفل سريري يتربص بي كل ليلة، لم أتوقف يوماً عن الخوف من ذلك الجنيّ وانتظاراللحظة التي ينقضّ فيها عليَّ.

بدأت حرب 2014 عند الساعة الواحدة فجر الثامن من تموز/ يوليو، لن أنسى هذا التاريخ يوماً كما لن أنسى تاريخ أيّ من تلك الحروب. كأن حياتنا عبارة عن حروب مستمرة تتخلّلها أوقات متباعدة من الهدوء أو الترقّب، ترقّب الحرب المقبلة.

في ذلك اليوم، نزلنا مباشرة الى الطابق السفلي من بيتنا في مدينة رفح، معتقدين أن احتمال نجاتنا قد يكون أكبر، مع أننا نعلم جيداً أن الصاروخ إذا نزل فوق المنزل سيحطّم كل ما فيه، ويتركنا جثثاً وأشلاءً. وللتحايل على فكرة الموت، كانت أمي تحاول ضمّنا أنا وإخوتي كلما سمعنا صاروخاً يسقط فوق أحد بيوت الحي.

“بديش أموت الآن”

في أحد الأيام، ضرب صاروخٌ تحذيري بيت جيراننا، ما يعني وجوب إخلاء البيت في ثوانٍ، لم نستطع الإخلاء حينها، لأن الوقت المتاح لا يتعدى العشر ثوانٍ، والعشر ثواني قيمتها صفر، وهي القيمة الأخلاقية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يمنحك وقتاً حتى لاستيعاب فكرة أن كل شيء سيُهدم فوق رأسك. لم نستطع الإخلاء حينها، وكعادة أمي ضمّت كل إخوتي في حضنها، ولشدة خوفي لم أجد إلا غسالة البيت لأختبئ فيها، كل ما فكرت به في تلك اللحظة بعدما أغلقت أذنيّ بقوة، الخوف من الموت، مرددة: “أمانة، بديش أموت الآن، بديش أموت الآن”

بعدها، بقيتُ لساعة أو أكثر محدّقة في سقف البيت، بينما مشت والدتي مرتجفة تتفقّد أجسادنا، واحداً تلو الآخر، للتأكّد من أننا كاملون وغير مصابين.

كل تساؤلاتي عن الحياة، طرحتها في غزة وفي سن مبكّرة، إذ لم أجرّب أي شكلٍ آخر للحياة. وللمناسبة، لم يلتبس على عقلي الفرق بين معنى الحياة ومعنى الحصار، فهما وجهان، صورتان في صورة واحدة. الحصار هو أبلغ وأقصى معنى لموت حياة الإنسان في أي مكان من هذا العالم، والحقيقة أن حياتنا ليست معلّقة كغزيين وحسب، بل تحوّلت الى شيء بلا اسمٍ أو صفة.

لطالما شعرت، خلال 19 عاماً عشتها في غزة، بأني ضائعة في عقلي وجسدي وفي الزمن حتى، يائسة جداً للهروب الى الخارج. محاولة تلو الأخرى لإيجاد طريق للنجاة، حرفياً كنت أشعر بأن جسدي يذوب وعقلي يفقد اتزانه. لذلك، لطالما آمنت بضرورة الخروج، لتتاح لي فرصة النظر إلى تاريخي النفسي والاجتماعي، هذا أمر لا ننتبه إليه إلا عندما نخرج من المكان الذي نشأنا فيه.

أن تكوني امرأة ولدت في غزة

إنها منظومة فرضت علينا إهمال هذا التاريخ، وعدم التعامل معه، إنها منظومة لا تعطي بالاً لصراعاتنا النفسية التي توازي صراعاتنا مع الخارج، والصراعات لا تعني الحروب وحسب للنساء والفتيات، فهناك صراعات أخرى نعيشها حتى داخل الحروب، كطريقة لباسي في مجتمع محافظ كغزة، والحجاب الذي فُرضَ عليّ في سن صغيرة عندما أتتني الدورة الشهرية للمرة الأولى.

ليس هذا وحسب، بل صراعي وسط الحروب للالتحاق بكلية الصحافة والإعلام، لكن لم يكن هذا الخيار متاحاً لي كامرأة وُلدت في غزة.

بعد ثلاثة حروب اختبرتها، خرجت من قطاع غزة بندوب نفسية غائرة وصدمات نفسية ترافقني حتى الآن. عادت هذه الجروح كلها مع السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، حملتُ معي هذا الخوف من الفقدان، طيلة الوقت، لكن لم يمنع هذا الخوف موت خالتيَّ بصاروخ قتلهما وأطفالهما الثمانية.

مذاك، تغلق الأيام أبوابها كلها، وتغرس أصابعها في قلبي كل صباح وأنا في مكان آخر بعيداً عن عائلتي، التي ما زالت عالقة في الحروب المتتالية.

هكذا، وبعد خروجي من غزة لم تصبح الأمور أكثر سهولة! أتنفس الحزن ذاته  في كل مرة تصل إلينا اخبار عن رحيل أحد معارفنا أو أقاربنا، وكأن المسافة زادت من ثقل الأخبار فصارت تؤلم أكثر.

الصلاة ليست كافية

في كل ليلة، أذهب الى فراشي وأنتظر مجزرة جديدة، أتفقّد تلغرام لأتابع أسماء الموتى، أنا التي سبقتهم نحو النجاة، آسفة على ذلك، آسفة على النجاة من دونهم، من دون خالتيَّ وأبنائهما الثمانية، آسفة لأن كل صلواتي لهم لم تكن كافية.
وكي أقاوم هذه القسوة كلها، أتخيل أني سأستيقظ غداً وأرى الناس كلهم كما تركتهم في ذاكرتي عندما غادرت غزة، سأرى الشوارع والحارات والمخيم ومطاعم مفضلة، وبحر غزة. سأرى زحمة الناس في السوق، سأرى أصدقائي كلهم، كاملين. ستزورني ذكرياتي معهم وأبتسم، سنزور أماكننا المفضّلة ونتناول طعاماً نحبه كما اعتدنا أن نفعل سويّاً ودوماً، سأتذكر الناس من دون أن أبكي، سأتذكرهم جميعاً ذكرى مسافر لا ذكرى مودّع للأبد، شيء ما داخل عقلي يستمر بالنحيب، هذا كله مجرد كابوس، سينتهي…

07.06.2024
زمن القراءة: 4 minutes

نكتب في ملف “الذاكرة الجمعية للنساء في الحرب” كل ما لا يُتوقع في الحروب، أشياء النساء والفتيات التي تبدو هامشية، وتجارب المقاومة والاستمرار والانتصار الشخصي، التجارب الشخصية مع الموت والخوف والنجاة والحياة والحب، المشاعر بعد النجاة، نكتب كل ما كان علينا قولها في لحظة ما، لكن لم تسنح الفرصة.

عشت عام 2014 أول حرب لي في غزة، وما رافقها من خوف وصراخ وبكاء سيلاحقني إلى الأبد، خوف تحوّل إلى جنيّ أسفل سريري يتربص بي كل ليلة، لم أتوقف يوماً عن الخوف من ذلك الجنيّ وانتظاراللحظة التي ينقضّ فيها عليَّ.

بدأت حرب 2014 عند الساعة الواحدة فجر الثامن من تموز/ يوليو، لن أنسى هذا التاريخ يوماً كما لن أنسى تاريخ أيّ من تلك الحروب. كأن حياتنا عبارة عن حروب مستمرة تتخلّلها أوقات متباعدة من الهدوء أو الترقّب، ترقّب الحرب المقبلة.

في ذلك اليوم، نزلنا مباشرة الى الطابق السفلي من بيتنا في مدينة رفح، معتقدين أن احتمال نجاتنا قد يكون أكبر، مع أننا نعلم جيداً أن الصاروخ إذا نزل فوق المنزل سيحطّم كل ما فيه، ويتركنا جثثاً وأشلاءً. وللتحايل على فكرة الموت، كانت أمي تحاول ضمّنا أنا وإخوتي كلما سمعنا صاروخاً يسقط فوق أحد بيوت الحي.

“بديش أموت الآن”

في أحد الأيام، ضرب صاروخٌ تحذيري بيت جيراننا، ما يعني وجوب إخلاء البيت في ثوانٍ، لم نستطع الإخلاء حينها، لأن الوقت المتاح لا يتعدى العشر ثوانٍ، والعشر ثواني قيمتها صفر، وهي القيمة الأخلاقية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يمنحك وقتاً حتى لاستيعاب فكرة أن كل شيء سيُهدم فوق رأسك. لم نستطع الإخلاء حينها، وكعادة أمي ضمّت كل إخوتي في حضنها، ولشدة خوفي لم أجد إلا غسالة البيت لأختبئ فيها، كل ما فكرت به في تلك اللحظة بعدما أغلقت أذنيّ بقوة، الخوف من الموت، مرددة: “أمانة، بديش أموت الآن، بديش أموت الآن”

بعدها، بقيتُ لساعة أو أكثر محدّقة في سقف البيت، بينما مشت والدتي مرتجفة تتفقّد أجسادنا، واحداً تلو الآخر، للتأكّد من أننا كاملون وغير مصابين.

كل تساؤلاتي عن الحياة، طرحتها في غزة وفي سن مبكّرة، إذ لم أجرّب أي شكلٍ آخر للحياة. وللمناسبة، لم يلتبس على عقلي الفرق بين معنى الحياة ومعنى الحصار، فهما وجهان، صورتان في صورة واحدة. الحصار هو أبلغ وأقصى معنى لموت حياة الإنسان في أي مكان من هذا العالم، والحقيقة أن حياتنا ليست معلّقة كغزيين وحسب، بل تحوّلت الى شيء بلا اسمٍ أو صفة.

لطالما شعرت، خلال 19 عاماً عشتها في غزة، بأني ضائعة في عقلي وجسدي وفي الزمن حتى، يائسة جداً للهروب الى الخارج. محاولة تلو الأخرى لإيجاد طريق للنجاة، حرفياً كنت أشعر بأن جسدي يذوب وعقلي يفقد اتزانه. لذلك، لطالما آمنت بضرورة الخروج، لتتاح لي فرصة النظر إلى تاريخي النفسي والاجتماعي، هذا أمر لا ننتبه إليه إلا عندما نخرج من المكان الذي نشأنا فيه.

أن تكوني امرأة ولدت في غزة

إنها منظومة فرضت علينا إهمال هذا التاريخ، وعدم التعامل معه، إنها منظومة لا تعطي بالاً لصراعاتنا النفسية التي توازي صراعاتنا مع الخارج، والصراعات لا تعني الحروب وحسب للنساء والفتيات، فهناك صراعات أخرى نعيشها حتى داخل الحروب، كطريقة لباسي في مجتمع محافظ كغزة، والحجاب الذي فُرضَ عليّ في سن صغيرة عندما أتتني الدورة الشهرية للمرة الأولى.

ليس هذا وحسب، بل صراعي وسط الحروب للالتحاق بكلية الصحافة والإعلام، لكن لم يكن هذا الخيار متاحاً لي كامرأة وُلدت في غزة.

بعد ثلاثة حروب اختبرتها، خرجت من قطاع غزة بندوب نفسية غائرة وصدمات نفسية ترافقني حتى الآن. عادت هذه الجروح كلها مع السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، حملتُ معي هذا الخوف من الفقدان، طيلة الوقت، لكن لم يمنع هذا الخوف موت خالتيَّ بصاروخ قتلهما وأطفالهما الثمانية.

مذاك، تغلق الأيام أبوابها كلها، وتغرس أصابعها في قلبي كل صباح وأنا في مكان آخر بعيداً عن عائلتي، التي ما زالت عالقة في الحروب المتتالية.

هكذا، وبعد خروجي من غزة لم تصبح الأمور أكثر سهولة! أتنفس الحزن ذاته  في كل مرة تصل إلينا اخبار عن رحيل أحد معارفنا أو أقاربنا، وكأن المسافة زادت من ثقل الأخبار فصارت تؤلم أكثر.

الصلاة ليست كافية

في كل ليلة، أذهب الى فراشي وأنتظر مجزرة جديدة، أتفقّد تلغرام لأتابع أسماء الموتى، أنا التي سبقتهم نحو النجاة، آسفة على ذلك، آسفة على النجاة من دونهم، من دون خالتيَّ وأبنائهما الثمانية، آسفة لأن كل صلواتي لهم لم تكن كافية.
وكي أقاوم هذه القسوة كلها، أتخيل أني سأستيقظ غداً وأرى الناس كلهم كما تركتهم في ذاكرتي عندما غادرت غزة، سأرى الشوارع والحارات والمخيم ومطاعم مفضلة، وبحر غزة. سأرى زحمة الناس في السوق، سأرى أصدقائي كلهم، كاملين. ستزورني ذكرياتي معهم وأبتسم، سنزور أماكننا المفضّلة ونتناول طعاماً نحبه كما اعتدنا أن نفعل سويّاً ودوماً، سأتذكر الناس من دون أن أبكي، سأتذكرهم جميعاً ذكرى مسافر لا ذكرى مودّع للأبد، شيء ما داخل عقلي يستمر بالنحيب، هذا كله مجرد كابوس، سينتهي…

07.06.2024
زمن القراءة: 4 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية