fbpx

الذاكرة الجمعيّة للنساء في الحرب: “لا يمكن أن أخاف الحرب أو الرجال المتحرّشين !”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نكتب في ملف “الذاكرة الجمعية للنساء في الحرب” كل ما لا يُتوقع في الحروب، أشياء النساء والفتيات التي تبدو هامشية، تجارب المقاومة والاستمرار والانتصار الشخصي، التجارب الشخصية مع الموت والخوف والنجاة والحياة والحب، المشاعر بعد النجاة، نكتب كل ما كان علينا قوله في لحظة ما لكن لم تسنح الفرصة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبيل الحرب بقليل، وحين كنا نسمع القيل والقال عن التظاهرات ولا نفهم شيئاً مما يحدث، كنت صغيرة، وكانت هناك حرب صغيرة طاحنة في داخلي، حرب غير منطقية بالنسبة الى طفلة في الحادية عشرة من العمر، لأنها حرب بين مجهول ومعلوم متمثلٍ بعقلي الصغير غير الناضج. أما الجمهول، فهو شيء ينمو داخل جوفي، ويحاول أن يستولي عليّ… كان الأنوثة، لم أدركها إلا متأخرة، ولم أفهم أن حضورها يستلزم معركة، ليس لأنها صعبة المراس بل لأن العالم الذي نشأت فيه حاول بمختلف الوسائل أن يقولبها في شكل صغير سخيف كتمثال من البورسلان لفتاة مبتسمة ببلاهة، أما هي فجبارة وعنيدة كتمثال من بازلت.

لسوء حظي، تزامن إطلاق أول رصاصة مع انطلاق شعلة مراهقتي، حينها كنت من هواة المشي وأبيتُ أن أستقلّ الحافلة للذهاب الى المدرسة، فالمشي بالنسبة إلي كان ولا يزال أشبه بطقس عبادة. كان الطريق الى المدرسة يمر بمنعطفات عدة، إذ تتبدّل ملامحه من حي هادئ وشجر وزهور الى سوق مكتظ يليه شارع شعبي عشوائي الى أن أصل الى سوق آخر أكثر تحضراً، وأخيراً الى المدرسة.

عبرت هذه المراحل وكأنها رحلة أستخدم فيها كل حواسي لأحفظ الطريق، لا أنسى رائحة الهواء في الصباح، صوت محركات الحافلات التي تقلّ الأطفال إلى المدارس، النسمة الباردة التي يقشعرّ لها بدني صيفاً شتاءً، صوت رصاص بعيداً، والكثير من الروائح الغريبة. لكن، ما لا يمكن نسيانه هو وجوه الناس الهائمة في اللاشيء، والتي تنذر بخطر محدق، كنت صغيرة جداً على أن أفهم أي نذير شؤم.

الخوف من المشي في دمشق

رفضت والدتي أن نذهب مشياً إلى المدرسة بعد انفجار منطقة القزاز، كنت آنذاك خائفة جداً بالفعل من أن أمشي من جديد، إذ إنني تعرضت لتحرش في طريق عودتي وحيدة، ولكنني خفت أن أخبرها خشية أن تمنعني من المشي. كان أخي يعود مع أصدقائه وأنا أرجع وحدي أو مع صديقاتي، لكن للأسف عدت يومها وحدي، حينها مرّ ذاك الحادث عرضياً، ولم أفهم أثره في نفسي إلا بعد أعوام طويلة. تعاملت معه ومع أنوثتي بأقسى ما يمكن، معاقبة نفسي بحرمانها من نفسها، وبطقوس رهبنة دفنت أنوثتي في صندوق، لأنني فضّلت حريتي عليها، كيف أعود بالباص الى المنزل؟ لا وألف لا، لن يدري أحد بخيبتي تلك. بعدها، تحولت تدريجياً الى هاوية جمع شظايا ومقذوفات وبقايا حرب، ولبست الجينز الواسع وقصصت شعري الطويل اللامع في ثورة صغيرة، ولكنها لم تكن إلا صرخة استغاثة.

يوم تفجير القزاز في دمشق، أذكر أننا عدنا الى المنزل جرياً، متدافعين مع أولاد المدارس المذعورين، فكرنا أنا وأخي في طريقة لنحمي المنزل من الانفجارات اللاحقة، فدفعنا الكنبة نحو الباب لنحكم إغلاقه واختبأنا في الخزانة، مخبّئين معنا حبات من فاكهة الإجاص. لا أذكر أنني أكلت تلك الإجاصة يومها، لكنني أذكر أنني شعرت بالأمومة نحو أخي، وكأنني يجب أن أحميه. كنت مذعورة من الحرب، لكن أخي كان يضحك عليها، لذلك كتمت خوفي يومها وضحكت معه، لا يمكن أن أخاف لا من الحرب ولا من الرجال المتحرشين! لاحقاً حين ذهب مع صديقه ليجمعا شظايا القذائف وفوارغ الرصاص، أوقفهما بعض الجنود وطردوهما، ولحسن حظنا عادا يومها.

استمتع أخي بجمع مخلفات الحرب، فصرت أجمعها أنا أيضاً، لكنني لم أكن مسرورة، فتلك كانت هواية الكثير من الأطفال في سوريا، أما أنا فقد كانت هوايتي المشي والإصغاء الى صوت الرصاص والانفجارات، ومحاولة التفريق بين صوت القنابل والصواريخ، أيّها التي تطلق وأيّها التي تنزل على رؤوس الناس.

 كنت أفشل دوماً في سماع صوت القذائف التي تنزل قريبة منا، حين أكون نائمة. أذكر والدي حين كان يقول لي: “نزلت قذيفة براس الحارة، الحمدلله كنتِ نائمة بابا، لم تحسّي بشيء”.

الحرب…السهل الممتنع

كان يتملّكني الحزن حين يقول “لم تشعري بشيء”، لقد تمنيت من كل قلبي لو أحس أكثر بالحرب، كانت السهل الممتنع، فهي حولي وبعيدة مني. لم نكن ممن تضرروا بشكل مباشر من الحرب، حاولت عائلتي أن تبعدنا عمّا قد يعرضنا للأذى، القنوات التلفزيونية والأحاديث السياسية والمنطقة السكنية، ونجحت في ذلك إلى حد كبير.

 بدا بيتنا ذا قبة وهمية تحمي من الرصاص، فحين تحدث طلاب صفي عن شظايا ورصاص يخترق نوافذهم، لم تكن لدي قصة، كنت أمشي كل يوم وأنظر لعلّني أنال رصاصة أو شظية في جسدي، احتجت أن أشعر بذلك الشعور حين تخترق الحرب جسدك، وتترك فيه ندبة.

تمنيت لو أنني رُميت بالرصاص بدلاً من أن يتم التحرش بي في الشارع الفارغ من الناس، ما هي تلك القصة السخيفة المخزية، أن يتعرض لي رجل ما ومن ثم يختفي بعدما أدفعه وأهرب! لا يمكنني أن أحكي قصة كهذه، ماذا لو فهموها بطريقة خاطئة، ماذا لو اتهموا لباسي أو مشيتي؟ كنت أتوق لأن أحكي قصة، قصة مثيرة عن الحرب فقط، عن البارود والرصاص! لربما كنت أريد أن أشعر كطفلة أنني جزء من شيء أكبر مني، فقد كنت غارقة في وحدتي وأسراري وهزائمي التي لا يعرف عنها أحد.

تحقق حلمي بأسخف طريقة ممكنة بعد طول انتظار، ففي أحد مشاويري نحو المعهد، في أيام الدراسة الأخيرة، وسنوات القذائف الأخيرة، سمعت جلبة وسقط حجر على يدي وكأن أحداً رماني به، توقفت لأمسك الحجر، وإذ به شظية صغيرة جداً كحبة الحمّص، تركت على يدي أثر حرق صغير كمن أطفأ سيجارة في يدي. في تلك اللحظة، رأيت الناس يركضون، فركضت معهم، كانت قذيفة وقعت في مكان قريب جداً، لم أسمع صوتها تلك المرة، ولكنني شعرت بحماسة لا مثيل لها! فها أنذا أركض مع الناس وأشاركهم مشاعر الخوف والقلق، وها أنذا أختبئ في ظل محلّ غريب استقبلنا بلهفة، وها أنذا أشاركهم الحديث عن ويلات القذائف وعن الشظية التي أحرقت يدي، وعن الخوف الصغير الذي اختلقته. وها هم يدعون لي بالسلامة وينظرون الى الحرق السخيف في يدي وكأنه جرح عميق، ولا يأبهون لكونه يشبه حرق سيجارة ليس إلا، بل يشعرون به كجرح جمعي أصابنا جميعاً. 

الشظية التي خلصتني من العار

وأخيراً بعد سبع سنوات من الحرب، باركتني آلهة الحرب بذبيحة دموية، عمدتني بالنار أخيراً، حينها فقط صرت سورية بهوية. أن تصبح سورياً يعني أن تتعمد بالدموع والنار، أن تلفظ لفظة ثورة بفخر أو ألا تلفظها إطلاقاً، أن تبصق على الإسفلت وأن تقبّل الحجارة القديمة. تلك الشظية الصغيرة خلّصتني من عار ألا تكون لدي قصة، وصارت هويتي وشهادة ولادتي.

أما حكايتي الصغيرة التي أخفيتها عن أمي، فلم أحكها إطلاقاً، ظلت تنمو بداخلي بالتوازي مع أنوثتي التي نمت مشوّهة. اليوم، أدرك أنها ندبة حرب أكبر من عقب سيجارة، ليتني استطعت أن أشعر وقتها أنها حرب ضارية وليست حربي وحدي. اليوم أفهم أن الحرب كانت في نظرنا جميعاً غير مفهومة تماماً، جميعنا كنا نظن أنها نار وبارود. أما بعد ذلك، فلا أدري إن فكّر أحدنا ملياً بما بعد الحرب، إلا أنني متأكدة أن الجميع يهيمون على وجوههم، شاعرين بالمشاعر ذاتها، تعود لي ذكرى الوجوه الهائمة كل يوم، أولئك الذين رأيت وجوههم بداية الحرب، هم كل يوم حولي، وجوه مكسورة تحمل هزيمة كبيرة واحدة تصبغهم بلون واحد، وهزائم صغيرة عدة في عيونهم لا يعرفها سواهم.

ما زلت أفرح قليلاً بقصتي الصغيرة، التي صارت دعابة أحكيها عن الحرب. ولكن، لم يدرك أحد أنني ما زلت فخورة بها، وأنها وسام على صدري وذاكرة لن تُمحى، فقد كانت كفيلة بأن تجعلني أشعر بأنني جزء من وطني الحزين المشوّه!

15.06.2024
زمن القراءة: 5 minutes

نكتب في ملف “الذاكرة الجمعية للنساء في الحرب” كل ما لا يُتوقع في الحروب، أشياء النساء والفتيات التي تبدو هامشية، تجارب المقاومة والاستمرار والانتصار الشخصي، التجارب الشخصية مع الموت والخوف والنجاة والحياة والحب، المشاعر بعد النجاة، نكتب كل ما كان علينا قوله في لحظة ما لكن لم تسنح الفرصة.

قبيل الحرب بقليل، وحين كنا نسمع القيل والقال عن التظاهرات ولا نفهم شيئاً مما يحدث، كنت صغيرة، وكانت هناك حرب صغيرة طاحنة في داخلي، حرب غير منطقية بالنسبة الى طفلة في الحادية عشرة من العمر، لأنها حرب بين مجهول ومعلوم متمثلٍ بعقلي الصغير غير الناضج. أما الجمهول، فهو شيء ينمو داخل جوفي، ويحاول أن يستولي عليّ… كان الأنوثة، لم أدركها إلا متأخرة، ولم أفهم أن حضورها يستلزم معركة، ليس لأنها صعبة المراس بل لأن العالم الذي نشأت فيه حاول بمختلف الوسائل أن يقولبها في شكل صغير سخيف كتمثال من البورسلان لفتاة مبتسمة ببلاهة، أما هي فجبارة وعنيدة كتمثال من بازلت.

لسوء حظي، تزامن إطلاق أول رصاصة مع انطلاق شعلة مراهقتي، حينها كنت من هواة المشي وأبيتُ أن أستقلّ الحافلة للذهاب الى المدرسة، فالمشي بالنسبة إلي كان ولا يزال أشبه بطقس عبادة. كان الطريق الى المدرسة يمر بمنعطفات عدة، إذ تتبدّل ملامحه من حي هادئ وشجر وزهور الى سوق مكتظ يليه شارع شعبي عشوائي الى أن أصل الى سوق آخر أكثر تحضراً، وأخيراً الى المدرسة.

عبرت هذه المراحل وكأنها رحلة أستخدم فيها كل حواسي لأحفظ الطريق، لا أنسى رائحة الهواء في الصباح، صوت محركات الحافلات التي تقلّ الأطفال إلى المدارس، النسمة الباردة التي يقشعرّ لها بدني صيفاً شتاءً، صوت رصاص بعيداً، والكثير من الروائح الغريبة. لكن، ما لا يمكن نسيانه هو وجوه الناس الهائمة في اللاشيء، والتي تنذر بخطر محدق، كنت صغيرة جداً على أن أفهم أي نذير شؤم.

الخوف من المشي في دمشق

رفضت والدتي أن نذهب مشياً إلى المدرسة بعد انفجار منطقة القزاز، كنت آنذاك خائفة جداً بالفعل من أن أمشي من جديد، إذ إنني تعرضت لتحرش في طريق عودتي وحيدة، ولكنني خفت أن أخبرها خشية أن تمنعني من المشي. كان أخي يعود مع أصدقائه وأنا أرجع وحدي أو مع صديقاتي، لكن للأسف عدت يومها وحدي، حينها مرّ ذاك الحادث عرضياً، ولم أفهم أثره في نفسي إلا بعد أعوام طويلة. تعاملت معه ومع أنوثتي بأقسى ما يمكن، معاقبة نفسي بحرمانها من نفسها، وبطقوس رهبنة دفنت أنوثتي في صندوق، لأنني فضّلت حريتي عليها، كيف أعود بالباص الى المنزل؟ لا وألف لا، لن يدري أحد بخيبتي تلك. بعدها، تحولت تدريجياً الى هاوية جمع شظايا ومقذوفات وبقايا حرب، ولبست الجينز الواسع وقصصت شعري الطويل اللامع في ثورة صغيرة، ولكنها لم تكن إلا صرخة استغاثة.

يوم تفجير القزاز في دمشق، أذكر أننا عدنا الى المنزل جرياً، متدافعين مع أولاد المدارس المذعورين، فكرنا أنا وأخي في طريقة لنحمي المنزل من الانفجارات اللاحقة، فدفعنا الكنبة نحو الباب لنحكم إغلاقه واختبأنا في الخزانة، مخبّئين معنا حبات من فاكهة الإجاص. لا أذكر أنني أكلت تلك الإجاصة يومها، لكنني أذكر أنني شعرت بالأمومة نحو أخي، وكأنني يجب أن أحميه. كنت مذعورة من الحرب، لكن أخي كان يضحك عليها، لذلك كتمت خوفي يومها وضحكت معه، لا يمكن أن أخاف لا من الحرب ولا من الرجال المتحرشين! لاحقاً حين ذهب مع صديقه ليجمعا شظايا القذائف وفوارغ الرصاص، أوقفهما بعض الجنود وطردوهما، ولحسن حظنا عادا يومها.

استمتع أخي بجمع مخلفات الحرب، فصرت أجمعها أنا أيضاً، لكنني لم أكن مسرورة، فتلك كانت هواية الكثير من الأطفال في سوريا، أما أنا فقد كانت هوايتي المشي والإصغاء الى صوت الرصاص والانفجارات، ومحاولة التفريق بين صوت القنابل والصواريخ، أيّها التي تطلق وأيّها التي تنزل على رؤوس الناس.

 كنت أفشل دوماً في سماع صوت القذائف التي تنزل قريبة منا، حين أكون نائمة. أذكر والدي حين كان يقول لي: “نزلت قذيفة براس الحارة، الحمدلله كنتِ نائمة بابا، لم تحسّي بشيء”.

الحرب…السهل الممتنع

كان يتملّكني الحزن حين يقول “لم تشعري بشيء”، لقد تمنيت من كل قلبي لو أحس أكثر بالحرب، كانت السهل الممتنع، فهي حولي وبعيدة مني. لم نكن ممن تضرروا بشكل مباشر من الحرب، حاولت عائلتي أن تبعدنا عمّا قد يعرضنا للأذى، القنوات التلفزيونية والأحاديث السياسية والمنطقة السكنية، ونجحت في ذلك إلى حد كبير.

 بدا بيتنا ذا قبة وهمية تحمي من الرصاص، فحين تحدث طلاب صفي عن شظايا ورصاص يخترق نوافذهم، لم تكن لدي قصة، كنت أمشي كل يوم وأنظر لعلّني أنال رصاصة أو شظية في جسدي، احتجت أن أشعر بذلك الشعور حين تخترق الحرب جسدك، وتترك فيه ندبة.

تمنيت لو أنني رُميت بالرصاص بدلاً من أن يتم التحرش بي في الشارع الفارغ من الناس، ما هي تلك القصة السخيفة المخزية، أن يتعرض لي رجل ما ومن ثم يختفي بعدما أدفعه وأهرب! لا يمكنني أن أحكي قصة كهذه، ماذا لو فهموها بطريقة خاطئة، ماذا لو اتهموا لباسي أو مشيتي؟ كنت أتوق لأن أحكي قصة، قصة مثيرة عن الحرب فقط، عن البارود والرصاص! لربما كنت أريد أن أشعر كطفلة أنني جزء من شيء أكبر مني، فقد كنت غارقة في وحدتي وأسراري وهزائمي التي لا يعرف عنها أحد.

تحقق حلمي بأسخف طريقة ممكنة بعد طول انتظار، ففي أحد مشاويري نحو المعهد، في أيام الدراسة الأخيرة، وسنوات القذائف الأخيرة، سمعت جلبة وسقط حجر على يدي وكأن أحداً رماني به، توقفت لأمسك الحجر، وإذ به شظية صغيرة جداً كحبة الحمّص، تركت على يدي أثر حرق صغير كمن أطفأ سيجارة في يدي. في تلك اللحظة، رأيت الناس يركضون، فركضت معهم، كانت قذيفة وقعت في مكان قريب جداً، لم أسمع صوتها تلك المرة، ولكنني شعرت بحماسة لا مثيل لها! فها أنذا أركض مع الناس وأشاركهم مشاعر الخوف والقلق، وها أنذا أختبئ في ظل محلّ غريب استقبلنا بلهفة، وها أنذا أشاركهم الحديث عن ويلات القذائف وعن الشظية التي أحرقت يدي، وعن الخوف الصغير الذي اختلقته. وها هم يدعون لي بالسلامة وينظرون الى الحرق السخيف في يدي وكأنه جرح عميق، ولا يأبهون لكونه يشبه حرق سيجارة ليس إلا، بل يشعرون به كجرح جمعي أصابنا جميعاً. 

الشظية التي خلصتني من العار

وأخيراً بعد سبع سنوات من الحرب، باركتني آلهة الحرب بذبيحة دموية، عمدتني بالنار أخيراً، حينها فقط صرت سورية بهوية. أن تصبح سورياً يعني أن تتعمد بالدموع والنار، أن تلفظ لفظة ثورة بفخر أو ألا تلفظها إطلاقاً، أن تبصق على الإسفلت وأن تقبّل الحجارة القديمة. تلك الشظية الصغيرة خلّصتني من عار ألا تكون لدي قصة، وصارت هويتي وشهادة ولادتي.

أما حكايتي الصغيرة التي أخفيتها عن أمي، فلم أحكها إطلاقاً، ظلت تنمو بداخلي بالتوازي مع أنوثتي التي نمت مشوّهة. اليوم، أدرك أنها ندبة حرب أكبر من عقب سيجارة، ليتني استطعت أن أشعر وقتها أنها حرب ضارية وليست حربي وحدي. اليوم أفهم أن الحرب كانت في نظرنا جميعاً غير مفهومة تماماً، جميعنا كنا نظن أنها نار وبارود. أما بعد ذلك، فلا أدري إن فكّر أحدنا ملياً بما بعد الحرب، إلا أنني متأكدة أن الجميع يهيمون على وجوههم، شاعرين بالمشاعر ذاتها، تعود لي ذكرى الوجوه الهائمة كل يوم، أولئك الذين رأيت وجوههم بداية الحرب، هم كل يوم حولي، وجوه مكسورة تحمل هزيمة كبيرة واحدة تصبغهم بلون واحد، وهزائم صغيرة عدة في عيونهم لا يعرفها سواهم.

ما زلت أفرح قليلاً بقصتي الصغيرة، التي صارت دعابة أحكيها عن الحرب. ولكن، لم يدرك أحد أنني ما زلت فخورة بها، وأنها وسام على صدري وذاكرة لن تُمحى، فقد كانت كفيلة بأن تجعلني أشعر بأنني جزء من وطني الحزين المشوّه!

15.06.2024
زمن القراءة: 5 minutes
آخر القصص
مجتمع “أختي أميرة”
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 21.06.2024
في سوريا… الشوق إلى الأم شأن سياسيّ! 
عمّار المأمون - كاتب سوري | 21.06.2024
الحج: لماذا بات رحلة الى الموت؟
سمر فيصل - صحافية سعودية | 20.06.2024

اشترك بنشرتنا البريدية