fbpx

السيسي في ماسبيرو: سياسة القبح انتقاماً من المدينة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أبراج مثلث ماسبيرو لا تراعي طبيعة وسط المدينة. العاصمة الجديدة لا تعرف متوسطي ومحدودي الدخل، والتراث المعماري للقاهرة يعيش أسوأ حالاته.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تقدم السؤال الجمالي ما سواه من أسئلة السياسة والاقتصاد والعمران التي أثارها نبأ هدم خمس عمارات، هي كل ما تبقى مما تقرر هدمه في مثلث ماسبيرو وسط القاهرة. لكن تقدمه هذا؛ والذي برز بصورة واضحة في التعليقات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لم يكن، مجرد تعبير عن انشغال لافت بما هو “الجميل”، بقدر ما هو إشارة إلى أن بقية الأسئلة، على أهميتها، ستغدو أكثر كثافة، وربما “قيمة” إذا ما قُورنت به، بحيث يصبح ما حصل لمثلث ماسبيرو تعبيراً دالاً على ما حدث في مصر منذ 25 كانون الثاني/ يناير 2011 حتى اللحظة.

كلمة ماسبيرو، نفسها، مجرد اللفظ، إذ وضعت، بمفردها أسفل الصورة التي تقارن ما يُهدم، وما يُبنى، تستدعي، تلقائياً، أحداثاً ووقائع تعود لذلك العام، وأخرى حصلت في أيام الهدم، فمن ذلك العام، يحضر: اعتصام ماسبيرو الأول (5 آذار/ مارس)، اعتصام ماسبيرو الثاني (8 أيار/ مايو)، مذبحة ماسبيرو (9 تشرين الأول/ أكتوبر)، أما ما رافق الهدم، فهي تظاهرات العاملين في مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري (ماسبيرو)؛ المتواصلة من بداية كانون الثاني الماضي، حتى الآن؛ والمتوقع استمرارها، وتناميها.

وماسبيرو، الذي سميت المنطقة والمبنى باسمه، هو جاستون ماسبيرو (1846- 1916)، عالم الآثار الفرنسي الشهير.

تزامن مع طرح السؤال الجمالي نشر مقالين وحوار صحافي، ما كشف بجلاء حضور كل الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيه، بحيث يتبين مدى الوعي بخطورة ما حصل لمثلث ماسبيرو كعلامة على واقع “الجمهورية الجديدة” ومشروعها.

 الأول مقال مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، “قصتى مع مشروع توشكى“، وفيه يعود إلى عام 1997، مؤكداً “عدم وجود دراسات تفصيلية لدى الحكومة حول المشروع (وقتها)”، لافتاً إلى أن ما دعاه إلى الكتابة عن وقائع شارك فيها في تلك الفترة، هو “الخشية” من أن تكون النسخة الجديدة؛ كما السابقة، أي بلا دراسات كافية، ولهذا قدم ملاحظاته سائلاً: هل يستفيد مشروع توشكى فى صيغته الجديدة من هذه الملاحظات؟

في المقال الثاني، “رسالة لوزير الإسكان..الاجتهاد في الحلم واجب” تبدي ليلى إبراهيم شلبي استغرابها من خبر قيام “الدكتور عاصم الجزار، وزير الإسكان والمرافق، بزيارة للعاصمة الأمريكية واشنطن وزيارة لمستشفى “كليفلاند كلينك” للتعرف والاطلاع على أحدث التكنولوجيا المستخدمة في تصميم المستشفيات العالمية بغرض إنشاء مستشفى عالمي متعدد التخصصات، ليكون قلب المدينة الطبية المخطط لها حديثاً بالعاصمة الإدارية الجديدة”، ووجه الاستغراب أن الوفد غاب عنه أي تمثيل لوزارة الصحة ولكليات الطب؛ الأمر الذي كان واضحاً أيضاً في أطراف مذكرة التفاهم، فهم: هيئة المجتمعات العمرانية وتحالف عالمي مصري يضم ثلاث من كبريات الشركات. ثم تكشف شلبي عن مفارقة كبرى، فهي تعمل في “معهد القلب القومى”؛ الذي تصفه بأنه “أكبر مؤسسة (طبية) خدمية في مصر”، وقد ضاق مبنى المعهد عن مواصلة تقديم الخدمة للأعداد المتزايدة، وبات إنشاء مبنى جديد ضرورة ملحة، لكن وزارة الإسكان امتنعت عن منح إدارة المعهد قطعة أرض كي يقام عليها مبنى جديد.

أما الحوار فكان مع جليلة القاضي، أستاذ التخطيط العمراني بجامعة باريس، وجاءت عناوينه الرئيسية على هذا النحو:

أبراج مثلث ماسبيرو لا تراعي طبيعة وسط المدينة. العاصمة الجديدة لا تعرف متوسطي ومحدودي الدخل، التراث المعماري للقاهرة يعيش أسوأ حالاته.

مخطط 2050 لم يشر إلى إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة الجاري تنفيذها الآن. تلك فكرة ظهرت فجأة في افتتاح فرع قناة السويس في 2015. وبالتالي ما يحدث حاليًا هو مشاريع مدرجة في المخطط وأخرى مستحدثة لا علاقة لها بالتخطيط العمراني.

وفيه أكدت، القاضي، بالتفصيل، ما قدمه السيد في شهادته، عن أنه منذ مشروعي توشكى وشرق العوينات “لم يتم عقد نقاش مجتمعي يشارك فيه ممثلو فئات الشعب المختلفة والمتخصصون، كالنقابات المهنية، (مثل) نقابة المهندسين وجمعية المخططين وجمعية المعماريين ولجنة العمارة في المجلس الأعلى للثقافة”، فمع مشروعي توشكى وشرق العوينات “امتنعت الدولة عن مناقشة المشاريع. كما تم حظر اجتماعات المتخصصين”.

أسئلة “المثلث” كلها، كما كلمات الثلاثي: السيد، شلبي، القاضي، تتقاطع عند سؤال مركزي: هل هناك “خطة، برنامج، مشروع لدى السلطة الحاكمة في مصر يتم تنفيذه بوتيرة هائلة التسارع؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فما هي ملامح ذلك كما تبدت في المثلث؟

تحتاج محاولة الإجابة إلى الرجوع لبعض ما طرحه ديفيد هارفي، وروث جلاس، ونيل سميث، ووضع إزاء قصة المثلث مذ تولى الرئيس عبد الفتاح السلطة (8 حزيران/ يونيو، 2014).

يطرح المنظر الاجتماعي والجغرافي البريطاني، ديفيد هارفي، في كتابه “الليبرالية الجديدة (موجز تاريخي)” (مكتبة العبيكان، السعودية، 2008، نقله إلى العربية: مجاب الإمام) أسئلة عن القصة السياسية/ الاقتصادية لليبرالية الجديدة: من أين جاءت، وكيف انتشرت بمثل تلك الشمولية على المسرح العالمي، وكيف تحققت، ومَنْ حققها؟، ويجيب عليها، بعد أن يكون قد قدم تعريفه، حيث “الليبرالية الجديدة في المقام الأول نظرية في الممارسات السياسية والاقتصادية، تقول إن الطريقة الأمثل لتحسين الوضع الإنساني تكمن في إطلاق الحريات والمهارات التجارية الإبداعية للفرد، ضمن إطار مؤسساتي عام يتصف بحمايته الشديدة حقوق الملكية الخاصة، وحرية التجارة، وحرية الأسواق الاقتصادية. ويقتصر دور الدولة في هذه النظرية على إيجاد ذلك الإطار المؤسساتي الملائم لتلك الممارسات وصونه. يتحتم على الدولة، مثلاً، ضمان قيمة الموارد المالية وسلامتها؛ وعليها إقامة الهيكليات والوظائف العسكرية والدفاعية والأمنية والقضائية المطلوبة لحماية حقوق الملكية الفردية، واستخدام القوة إن اقتضت الحاجة لضمان عمل الأسواق بالصورة الملائمة. عليها أيضاً، في حال لم يكن هناك سوق اقتصادي (في مجالات مثل الأراضي أو الماء أو التعليم أو الرعاية الصحية أو الضمان الاجتماعي أو تلوث البيئة)، إيجاد هذه الأسواق، ولو من طريق التدخل المباشر إن لزم الأمر”.

العودة إلى هارفي تستوجبها فرضية أن “الجمهورية الجديدة”، التي شرع السيسي في بنائها، هي النسخة المصرية من الليبرالية الجديدة، فكثيراً ما يصادف قارئ الـ”موجز” الذي يقدمه هارفي تطابقاً إلى حد بعيد مع السياسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التفصيلية المطبقة في مصر طوال السنوات السبع الماضية، وما حصل لمثلث ماسبيرو ليس سوى نموذج دال للغاية على ذلك، كما سيتبين من سرد قصته.

فحين يكتب هارفي: “إن الليبرالية الجديدة تعتبر العلاقات التبادلية في السوق الاقتصادي قيمة أخلاقية بحد ذاتها، قادرة على أن تكون دليل عمل للفعل الإنساني بصيغه وأشكاله كافة، وبديلاً عن كل المعتقدات الأخلاقية التي سبق اعتناقها”، فإن السيسي يترجم ذلك بصورة أكثر حدة حين يقول “أنا معنديش حاجة اسمها ببلاش“، وقد كررها بصيغ متنوعة، وأكثر تحديداً “هعمل لكم كل حاجة بس مش ببلاش… ادفع بقى“.

الفرضية التي يهدينا إليها هارفي أن الليبرالية الجديدة وجدت سبل تحققها عبر أسلوبين مختلفين: في الأول يتم بناء “قبول للأفكار” وفي الثاني يتم فرض “الإذعان”، وهكذا يشرح في إجابته على سؤال: كيف تحققت الليبرالية الجديدة، ومَنْ حققها؟ فيذكر أنه “في دول مثل تشيلي والأرجنتين في السبعينات، تبقى الإجابة بسيطة بقدر ما هي سريعة وأكيدة ووحشية: انقلاب عسكري تدعمه الطبقات العليا التقليدية (بالاشتراك مع حكومة الولايات المتحدة)، يتلوه قمع عنيف لمختلف أشكال التضامن الناشئة داخل الحركة العمالية والحركات الاجتماعية المدينية، التي تهدد سلطتها. لكن الثورة الليبرالية، المنسوبة عادة إلى تاتشر وريجان بعد عام 1979، كان لا بد أن تتحقق بالطرق الديمقراطية، لأن تحولا بهذا الحجم والأهمية يقتضي بناء قبول سياسي مسبق بين طيف واسع من عموم الجماهير يكفي للفوز بالانتخابات”.

ثم يفصل جانب من الطريق الثاني “الديموقراطي” فيذكر أنه “نموذجياً، تنبن الموافقة على أرضية ما سمّاه غرامشي “الحس العام” (وهو تعريفاَ ما يتم تقبله بشكل بدهي ومشترك)، ويبنى الحس العام بدوره على ممارسات ضاربة قدماً في عمليات الاشتراك الثقافي، المتجذرة غالباً في صلب التقاليد الإقليمية أو القومية الدفينة”.

ولأهمية “مفهوم” الحس العام، ينبه، هارفي، إلى أنه “يمكن للحس العام أن يكون مضللا إلى أبعد الحدود، بحيث يحجب مشاكل حقيقية أو يخفيها تحت غطاء تحيزات ثقافية متنوعة. كما يمكن تجييش القيم الثقافية والتقليدية (كالإيمان بالله والوطن أو آراء معينة حول وضع المرأة في المجتمع)، والمخاوف (من “الآخرين” أو من الشيوعيين أو المهاجرين أو الأجانب)، لإخفاء حقائق مغايرة أخرى.

فرضيتنا تتقدم ببطء، فالنسخة “السيسوية” من “النيوليبرالية” هجين استغل ظرفاً اجتماعياً وسياسياً خاصاً ليكتسح أي مقاومة أمامه، فليست “النسخة السيسوية” خالصة، نقية، فهي تجمع سمات من النموذجين، لـ”تبدع” نموذجها.

وكمثال نقرأ كيف تعامل السيسي مع رجال الأعمال المصريين، وهو يخاطبهم “هتدفعوا يعنى هتدفعوا وإن خدت جنيه مني يبقالك الكلام“، في ضوء سؤال هارفي وإجابته التاليين: “كيف تفاوضت الليبرالية الجديدة مع حلفائها وخصومها لإحداث التحول وإزاحة الليبرالية المتجذرة على هذا النحو الشامل؟ في بعض الحالات، تكمن الإجابة إلى حد بعيد في استخدام القوة (سواء العسكرية، كما في تشيلي، أم المالية، عبر عمليات صندوق النقد الدولي في موزامبيق أو الفلبين). وبمقدور الإكراه أحيانا إحداث حالة من القدرية، أو حتى القنوط، تدفع إلى تقبل فكرة أن ليس ثمة بديل”.

إقرأوا أيضاً:

السيسي وحقوق الإنسان

أما “رؤية” السيسي للديمقراطية ولحقوق الإنسان، فما كتبه هارفي يعبر عنها بدقة تامة، حين يذكر أن  “الليبراليين الجدد (يعتبرون) الديمقراطية ترفا لا يتحقق إلا في ظل توافر شرطي الثراء النسبي، ووجود طبقة وسطى كبيرة ومتماسكة تضمن الاستقرار السياسي. لذلك يحبذ الليبراليون الجدد حكم النخب والخبراء، ويفضلون الحكم بمقتضى أوامر تنفيذية وقرارات قضائية/ قانونية، بدلا عن عملية صناعة القرار الديمقرطية والبرلمانية”.

استفاد هارفي من “مفهوم” الـ”Gentrification”، وهو مصطلح إذا ترجم إلى اللغة العربية لا يطرح المعنى الواسع والمطابق للمعنى الذي يُقصد منه عند تداوله باللغة الإنكليزية. وهو، في الأساس، مصطلح جديد حتى على اللغة الإنكليزية نفسها. إذ أن روث جلاس (Ruth Glass) (1912- 1990)، وهي عالمة اجتماع ألمانية المولد وبريطانية الجنسية، كانت أول من استعمله عام 1964. وقد تمت ترجمته، واستخدامه عربيا على أنه “الإحلال العمراني الطبقي”، وكانت تعني به أن الطبقات المتوسطة تغزو المناطق السكنية للطبقة العاملة، وهي ظاهرة حدثت تدريجيا في كثير من المدن منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى سبعينياته، وما زالت تحدث حتى يومنا هذا في معظم مدن العالم، وقد استخدمه الكثير من الجغرافيين والمختصين بالعلوم الإنسانية لتحليل ودراسة السياسات الاقتصادية، وأشكال الرأسمالية الجديدة، وكيف تضْمن الاستثمارات الرأسية الربح السريع على حساب الطبقات العاملة، والأقل فقراً، بالاستيلاء تدريجياً على مساكنهم، وطردهم، وعزلهم، حيث يبحث المستثمرون عمن يستطيع أن يتكلف بمصاريف أعلى لزيادة أرباحهم، ويلجأ المستثمرون إلى الاستثمار العقاري سواء بالتمليك أو بالإيجار، لأن المكاسب الربحية فيه أعلى وأضمن.

وفي مجال العمارة والتنظيم المديني، وكما ذهب كثر من الباحثين، وبينهم عرب ولبنانيون، تمت ترجمته بـ”البرْجوَزة“، ليُقصد به ظاهرة ديناميكية مدينية تطرأ على مناطق وأحياء الطبقات الفقيرة، التي تتجاهلها الدولة، فتنتج ديناميكيات اجتماعية- مدينية جذرية فيها، بحيث تتحول المباني التراثية والقديمة التي يسكنها فقراء المدينة إلى مناطق سكن جديدة للطبقات الغنية ومتاجر لها وغير ذلك. وعادة ما تجذب هذه الأحياء “المُبرجوَزة” استثمارات ونشاطات اقتصادية جديدة فترتفع الإيجارات، ويصبح سكن الطبقات الفقيرة فيها شبه مستحيل. وهذا ما حصل فعلاً في منطقة وسط بيروت، بعد مشروع شركة “سوليدير”، وكما تحاول شركة “الإسماعيلية”، منطقة وسط القاهرة، دون ان تحقق نجاحا حتى الآن.

ظلت سياسات “الإحلال العمراني الطبقي” عصية على التطبيق في مصر لثلاثة عقود على الأقل، فخلال تلك الفترة كان يحدث العكس، تماماً، كانت الطبقات العليا، تهجر الأحياء “الراقية” في القاهرة إلى مدن جديدة، وصفتها القاضي بأنها “مدن نخبوية، لا تستطيع العيش فيها إن لم تكن لديك سيارة خاصة ودخل أعلى من المتوسط”.

ثم أنها (القاضي) بتأكيدها على أنه يجب على “كل المدن الجديدة أن تكون مثل المدن القديمة تضم كافة الطبقات الاجتماعية وتحتوي على الأنشطة اللازمة بشكل أفضل لتمثل بؤر جاذبة”. تنبه إلى أن هذا لا يحدث حاليًا فـ “قد أخفقت المدن الجديدة في تحقيق ذلك،..، فنسبة كبيرة من مساكنها خالية، وتصل نسبة الإشغال في بعضها إلى 75 في المئة وذلك لأسباب مختلفة، منها عدم استكمال البناء، وعدم البيع، أو كون بعضها يمثل أوعية ادخارية”.

هكذا كان الحال حين وصل السيسي للحكم، ومع وصوله باتت سياسات “الإحلال العمراني الطبقي” تمتلك قوة هائلة من النسخة “السيسوية” من “النيوليبرالية”، وباتت حيرة، القاضي، ضمن هذه الفرضية، إذ تستغرب، وتقول: “هناك مفارقة غريبة إنه حاليًا يتم إنشاء العاصمة الإدارية. وبالتالي دورها هو تخفيف الضغط على القاهرة الحالية. لكن الحاصل حاليًا أنه يتم الضغط على المدينة القديمة بتنفيذ مشاريع عقارية متعددة. بينما الجديدة لم يسكنها أحد بسبب الأسعار التي لا تتناسب مع الطبقات المتوسطة المفترض أن تكون مستهدفة. يتم بناء أبراج في عدد من الأماكن وإنشاء كباري وتوسيع طرق. وذلك شيء غير مفهوم في الحقيقة”.

“إن الليبرالية الجديدة تعتبر العلاقات التبادلية في السوق الاقتصادي قيمة أخلاقية بحد ذاتها، قادرة على أن تكون دليل عمل للفعل الإنساني بصيغه وأشكاله كافة، وبديلاً عن كل المعتقدات الأخلاقية التي سبق اعتناقها”.

ولكي تكون الصورة اكثر تعيينا تسترجع، القاضي، وصف الدكتور ميلاد حنا (1924- 2012) البليغ: “مساكن بلا سكان وسكان بلا مساكن”، لتؤكد أنه هناك في مصر 12 مليون مسكن أو شقة فارغة لا تجد سكانًا. بينما لدينا سكان يبحثون عن مساكن تتفق مع دخلهم ولا يجدون.

السيسي يحل المعضلة، فوفقاً لهارفي، فإن الليبرالية الجديدة “عليها في حال لم يكن هناك سوق اقتصادي (في مجالات مثل الأراضي…)، إيجاد هذه الأسواق، ولو عن طريق التدخل المباشر إن لزم الأمر”.

و”المباشر” هذا، هواية عند السيسي، ونسخته الشائعة من النيوليبرالية، كما سنراها، في صورتها الخالصة: مثلث ماسبيرو.

القاهرة في 2014 ليست لندن في 1964 التي درستها جلاس وزملاؤها في كتابهم “العمدة” (لندن: جوانب التغيير London: aspects of change)، لكن بإمكان المدينتين أن تشتركا في وصفها هذا “لا يمكن أبداً أن تؤخذ (لندن/ القاهرة) كأمر مسلم به. المدينة شاسعة للغاية، ومعقدة للغاية، ومتناقضة للغاية، ومزاجية للغاية لدرجة تجعلها مألوفة تمامًا. وهناك لحظات تبرز فيها الملامح المعروفة لمنظر بلدتها بشكل مدهش، كما قد تبرز للسائح الأجنبي أو الوافد الذي عاد أخيرًا إلى وطنه”.

لكن القاهرة عام 2014 كانت مقبلة على ما حصل لغيرها: “واحداً تلو الآخر، تعرضت أحياء الطبقة العاملة في لندن للغزو من قبل الطبقات الوسطى – العليا والدنيا. بمجرد أن تبدأ عملية “التحسين” هذه في منطقة ما، فإنها تستمر بسرعة حتى يتم تهجير كل أو معظم “المحتلين” الأصليين من الطبقة العاملة ويتغير الطابع الاجتماعي للمقاطعة بالكامل”.

وهذا ما حصل لمثلث ماسبيرو، وغيره، ولكن ماسبيرو كان بالغ التعبير عن النيوليبرالية السيسوية أكثر من سواه.

نقطة تحوّل

تأخرت الليبرالية الجديدة أربعة عقود حتى باتت بإمكانها أن تصدر نسختها “السيسوية”. يحدد هارفي البداية بهذه الجملة المعبرة: “قد ينظر المؤرخون المستقبليون إلى سنوات 1978- 1980 باعتبارها نقطة تحول ثورية في تاريخ العالم الاجتماعي والاقتصادي”. وفي تلك السنوات كان هارفي يشرف على أطروحة الباحث الأميركي لنيل الدكتوراه، نيل سميث، وأنتج هذا الباحث مفهوما متطورا لمفهوم جلاس، فالفارق الزمنى حدثت به تغييرات “جذرية” بحيث أصبح “التغيير/ التحسين/ التطوير” أكثر عمقا و”وحشية”، فبعد نحو ثلاثة عقود من موجة الدراسات التي أطلقتها جلاس، أصدر سميث “الحدود الحضرية الجديدة: التحسين والمدينة الانتقامية “( The New Urban Frontier: Gentrification and the Revanchist City )، وركز بحثه على “كيفية تدفق رأس المال داخل وخارج الأحياء، وكيف أن الاستثمارات المالية في السعي لتحقيق أرباح طويلة الأجل قد خلقت حوافز لإعادة تطوير جيوب معينة في المدينة”، وكان سؤاله المركزي: ما هو سبب إعادة تطوير بعض المناطق وعدم إعادة تطوير مناطق أخرى؟، وكانت إجابته: إنها “فجوة الإيجار، الفجوة بين الإيجار الحالي الذي يتقاضاه المالك لوحداتهم، والإيجار المحتمل الذي يمكن تحصيله إذا تم إعادة تطوير الوحدات. كلما اتسعت الفجوة، زادت المساحة المخصصة لإعادة التطوير. يحدث التحسين عندما تكون الفجوة واسعة بما يكفي بحيث يستطيع المطوون شراء مناطق رخيصة الثمن، ويمكنهم دفع تكاليف البناء وأرباح إعادة التأهيل، ويمكنهم دفع فائدة على قروض الرهن العقاري والبناء، ومن ثم يمكنهم بيع المنتج النهائي بسعر البيع الذي ينتج أرباحا هائلة”.

الآن يمكن سرد قصة مثلث ماسبيرو.

قصة المثلث

وهكذا في أي منطقة في أي مدينة حين يكون شاغلو العقارات عقبة أمام التطوير، وأمام الأرباح الناتجة عنها ستتم إزالتهم بصورة وحشية وانتقامية.

قبل 25 كانون الثاني 2011، بأيام، حمل الدكتور مصطفى مدبولي، الذي كان وقتها رئيس “الهيئة العامة للتخطيط العمراني”، أوراقه، وذهب إلى جمعية المهندسين المصرية، ليلقي على أعضائها محاضرة بعنوان “القاهرة 2050- إستراتيجية التنمية العمرانية لإقليم القاهرة الكبرى”، وقد نشرت نصها مجلة الجمعية في عددها الصادر بعد شهرين، وجاء في مقدمة نص المحاضرة: “تم تكليف الهيئة العامة للتخطيط العمراني عام 2008 بإعداد الرؤية المستقبلية والمخطط الاستراتيجي بعيد المدى لإقليم القاهرة الكبرى حتى 2050″، وأنه قد “تعاونت عدة جهات دولية ومحلية في إعداد المشروع وتمت الاستعانة بالخبرات العالمية والدولية والمحلية لتوفير الدعم الفني والإداري ومتابعة المشروع، والجهات الدولية، هي: الحكومة اليابانية ممثلة من خلال الوكالة الدولية للتعاون الدولي (JICA)، البرنامد الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP)، برنامج الأمم المتحدة للمستطونات البشرية (UNHABITAT)، والبنك الدولي”.

في العام التالي، وعقب فوز مرشح الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، محمد مرسي، بمنصب الرئاسة، وتشكيل الدكتور هشام قنديل لوزارته (2أغسطس 2012) تمت إقالة مدبولي، وبعدها بشهرين، نشرت وزراة الإسكان، التي تولاها الدكتور طارق وفيق (العضو في جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة)، نسخة “جديدة” من “استراتيجية” مدبولي، لكن المقارنة بين النسختين لن تلاحظ إلا تغييرات بالغة الهامشية، فنسخة الدكتور وفيق حملت تاريخ (2052)، وهو تغيير ربما حمل آمالا بالغة الغرابة، مثل الصورتين الوحيدتين المتضمنتين في النسخة الجديدة، فهماً لميدان التحرير أثناء أيام “الثورة” (28 يناير- 11 فبراير) والجزء الأعظم من الصورة يشغله مصلون مسلمون ساجدون، دون ذلك لا تغيير هام بين النسختين إلا أن نسخة الدكتور وفيق كانت بالغة الوضوح، فهي تفتتح بهذه الكلمات: “كونت ظاهرة العولمة الإطار الرئيسى للاقتصاد العالمى فى العقدين الأخريين ويعتبر تحرير التجارة الدولية، وتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتقدم العلمى التكنولوجى وتعاظم دور الشركات الدولية أهم ركائز المناخ الاقتصادي العالمي، إلا أن القاهرة الكبرى تمتلك مقومات ثرية تؤهلها لتحقيق مرتبة مهمة في ظل توزيع القوة والنفوذ على مستوى العالم مما ينعكس بشكل إيجابي على رفع مستوى معيشة المواطنين”، ثم هذا العنوان الفرعي: “مصر وحتمية العولمة”.

إقرأوا أيضاً:

بعد أقل من عامين، عاد الدكتور مدبولي وزيراً للإسكان في مجلس الوزراء الذي ترأسه إبراهيم محلب (1 آذار 2014)، وكانت معه في الحكومة ليلى إسكندر وزيرة للبيئة، وفي تعديل وزاري (17 حزيران 2014)؛ اقتضاه فوز المشير عبد الفتاح السيسي بمنصب الرئاسة، أضحت وزيرة دولة للتطوير الحضاري والعشوائيات، وشرعت فوراً في خطوات جادة للتعامل مع ماسبيرو، خطوات دفعت رئيس مجلس الوزراء إلى الجلوس مع عدد من سكان المنطقة، وعدد من المنظمات الأهلية التي تشكلت لدعم السكان، هكذا نقرأ في خبر عنوانه “محلب يطلق شارة البدء لتطوير منطقة ماسبيرو” (26 أيلول/ سبتمبر 2014)، ونقرأ فيه، أيضاً، ما يبدو اعتراضاً من الدكتور مدبولي، فهو “صاحب الاستراتيجية” ووزير الإسكان، وإسكندر “تتفاوض”. لذلك يشير الخبر إلى أن “الدكتور مصطفى مدبولي وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، كان طالب في اجتماعه أخيراً مع محافظ القاهرة بتشكيل المحافظة لجنة حصر لتدقيق الملكيات فى منطقة ماسبيرو، والتأكد من المسطحات الموجودة وجهات الملكية، مؤكداً أن الإشكالية الحقيقية ستكون في الملكيات المفتتة، والخاصة بامتلاك بعض المواطنين لمساحات صغيرة في المنطقة، فضلا عن حصر نهائى للمستأجرين، بحيث يتم حصر الأملاك والشاغلين بشكل عام”.

ونلاحظ، أيضا، أن محلب قد أفرط في الحديث إلى “المعينين” بالأمور، فها هو يذهب بنفسه إلى ماسبيرو الآخر (مبنى الإذاعة والتلفزيون)، وقبل ذلك ذهب إلى عمال مصانع غزل المحلة. ونعرف الآن أن ماسبيرو الآخر ما زال يتظاهر، وأن المصانع على حالها، وربما سيتم بيعها، قريبا، لكن المثلث، جرى اكتساحه، تماما، وهنا ستبدو ملاحظات نيل سميث شديدة الصواب.

مضت إسكندر في خطوات إضافية، فبعد ثلاثة أشهر من “تفاوضهما” مع السكان أعلنت أن “الحكومة تخطط لطرح مناقصة عالمية لتطوير منطقة مثلث ماسبيرو”، ثم في آب/ أغسطس 2015 تم الإعلان عن “اختيار 9 شركات عالمية للتأهيل لمسابقة تطوير مثلث ماسبيرو”، لكن بعدها بأقل من شهر قدم محلب إستقالة حكومته للسيسي، الذي كلف شريف إسماعيل بتشكيل حكومة جديدة، خلت من إسكندر، وأصبح مثلث ماسبيرو في قبضة الدكتور مدبولي، الذي ظل وزيراً للإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، وقام بعدها بنحو شهرين بإعلان نتائج الفائزين في مسابقة تطوير مثلث ماسبيرو، الذي كان عضواً في لجنة تحكيمها “الدولية”، وقد حجبت اللجنة الجائزة الأولى، بينما حصل على الجائزة الثانية مكتب فوستر وشركاه الأميركي. وفي الحفل قال مدبولي، وهو يشير إلى إسكندر: “مهما تغير الأشخاص فالدولة مستمرة في تنفيذ خططها وأهدافها، وعلى رأس أهدافنا هنا أن يستفيد الجميع من تطوير منطقة مثلث ماسبيرو، وتأكيد أن أحداً لن يتأذى من عملية التطوير، هناك ثوابت واضحة في المسابقة، منها مراعاة طبيعة هذه المنطقة، ورغبات الشاغلين للوحدات، التي يجب أن نحرص على تحقيقها في عملية التطوير، مع محاولة الوصول إلى أفضل الحلول وأشكال التخطيط التي توصلنا إلى هذه المعادلة الصعبة”.

وفي بيان فوزه، أشار مكتب فوستر وشركاه، كما في المخطط الذي نشرته، إلى أن الأهمية الأولى في المشروع كانت لإعادة سكان المنطقة إليها “حيث سيتمكن “معظم” سكان المنطقة الحاليين، والبالغ عددهم 14 ألفاً من السكن في تلك الشقق الجديدة”. في المخطط تظهر مبان من طبقتين، تحتل المساحة الداخلية (شارعي 26 يوليو والجلاء)، وعبر هذا المفهوم يتم “الاحتفاظ بطابع المنطقة الفريد وسماتها المكانية”، مع التأكيد على بقاء مساحات مجتمعية مفتوحة (تشكل) المركز المركزي الأكثر خصوصية من المخطط. يسمح ذلك للسكان الحاليين بالمنطقة بالحفاظ على علاقات العمل المكانية المتداخلة الخاصة بهم”. بالإضافة إلى أنه ستملأ المرحلة الأولى المساحات الفارغة داخل المنطقة بالخضرة لتعزيز المجال العام النابض بالحياة في المجتمع. سيؤدي ذلك إلى تحسين نوعية الحياة في المنطقة وإفادة المجتمع الحالي على الفور. بعد ذلك، سيتم بناء أجزاء من المناطق السكنية والتجارية جنباً إلى جنب مع إنشاء نموذج تنمية مستدام”.

بقى مخطط المهندس المعماري الشهير فوستر نورمان في أدراج الدكتور مدبولي، حتى قدم المهندس شريف إسماعيل إستقالة حكومته، وكلف السيسي مدبولي بتشكيل الحكومة، وعقب أدائها القسم (16 يوليو 2018) بأقل من شهر، جرى الكشف عن أنه تقرر الاستغناء عن مشروع فوستر، وجاء الإعلان عبر تصريحات صحفية للمهندس خالد صديق، المدير التنفيذي لصندوق تطوير المناطق العشوائية، وهو، بحسب التعريف به على الموقع الرسمي للصندوق، “حاصل على بكالوريوس هندسة وعلوم عسكرية قسم مدنى من الكلية الفنية العسكرية، خبرة ستة وعشرون عاما من تنفيذ المشروعات الهندسية، كما تولى عدداً من المناصب المدنية كمدير عام لشركات الشعفار للاستثمارات العقارية والمقاولات العامة بدولة الامارات العربية”.

في التحقيق الصحفي الذي أعلن فيه صديق الاستغناء عن نتيجة المسابقة الدولية، التي كان وزيره، ثم رئيس مجلس الوزراء، عضوا فيها، جرى الكشف عن أنه “يعكف ثلاثة مهندسون من كل من هيئة التخطيط العمراني ووزارة الإسكان وصندوق تطوير المناطق العشوائية على وضع عدة تصميمات لتخطيط منطقة مثلث ماسبيرو، وسيتم اختيار المخطط الأفضل الذي يراعي السكان الراغبين في العودة للمنطقة بعد التطوير، حيث من المستهدف تسكين نحو 80 شاغلًا بالمنطقة، وأنه “تم الاستغناء عن مخطط “فوستر” بسبب إلغاء وزارة التخطيط الحضاري والعشوائيات نفسها في نهاية عام 2015، وهو ما أدى لتغيير خطط تعويض الأهالي في المنطقة، وتغير معطيات المخطط، حيث تخلت العديد من الشركات المالكة في المثلث عن أراضيها، مما استلزم ضرورة وضع مخطط جديد للمنطقة يراعي المعطيات الجديدة”.

المعطيات الجديدة انتظرت ستة أشهر حتى تظهر ملامحها؛ ففي 9 كانون الثاني 2019 أصدر الدكتور مدبولي (رئيس مجلس الوزراء)، بصفته رئيس المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية قرار رقم (1) لسنة 2019، بشأن نزعة ملكية الأراضي بمنطقة مثلث ماسبيرو للمنفعة العامة بغرض إعادة التخطيط، وفي مادته الأولى “يُستولى بطريق التنفيذ المباشر على الأراضي اللازمة لتنفيذ المشروع المشار إليه في المادة السابقة، والمبين موقعها وحدودها وأسماء ملاكها الظاهرين بالمذكرة والرسم التخطيطي الإجمالي والكشوف المرفقة”. أما المذكرة الإيضاحية لوزارة التنمية المحلية، فكانت حاسمة في إظهار النيوليبرالية السيسوية بأكثر صورها “انتقاما” حيث ذكرت أنه “تواجه عملية التطوير العديد من التحديات ذات الصلة بالاستغلال الأمثل للأراضي والبنية التحتية والخدمات وعلاقة ذلك بالنطاق الأشمل للمدينة، ولما كانت هناك دراسة طموحة بشأن تلك المنطقة تهدف إلى: إضافة علامة تجارية جديدة لمدينة القاهرة. توفير قطب لجذب الاستثمارات وتحقيق الديناميكية اقتصادية للقاهرة الكبرى. تحسين وجهة النيل وضمان تحقيق رؤية القاهرة. توفير فرص عمل لقاطني القاهرة”.

وحتى تتضح الصورة تماما كشف المهندس أحمد كمال، المشرف على مشروع مثلث ماسبيرو، في حوار مع قناة فضائية مصرية، تملك حصة الأغلبية في أسهمها “جهات سيادية” أن “المنطقة كانت ضمن قائمة المناطق الخطرة أمنيا“، وأن من سيعدون من سكان المنطقة سيشغلون ثلاث عمارات فقط، من ما قارب على الانتهاء.

الأكثر دلالة على “التطورات الجديدة” كان صدور قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1779 لسنة 2021 بشأن إنشاء صندوق التنمية الحضرية (2 أغسطس 2021) والذي أصبح بموجبه صندوق تطوير المناطق العشوائية نسيا منسيا، فبحسب المادة الثامنة عشر من القرار “يحل الصندوق (التنمية الحضرية) محل صندوق تطوير المناطق العشوائية فيما له من حقوق وما عليه من التزامات”

الآن هناك “التنمية الحضرية”، والعشوائيات في خبر كان، وهكذا حين يعلن الصندوق الجديد قرارا بالمنفعة العامة لأي منطقة في مصر لن تتعالي الأصوات “لسنا عشوائيات”، فالعشوائيات أنتهت.

الصندوق الجديد وجد للرد على تساؤلات، القاضي: ما الذي يدفعني لإزالة أحياء سكنية حالتها جيدة وبها طبقات وسطى وليست عشوائيات وليست بالمناطق المهددة؟

ومعه سيظهر ما عنته جلاس “واحدًا تلو الآخر سيجري الغزو”. وما قصده سميث من الانتقام، الذي ظهر بجلاء في ماسبيرو (الخطرة أمنيا)، وسيتعزز النموذج الهجين للنيوليبرالية السيسوية، حتى تتجمع خيوط مقاومته، التي ستولدها هذه السياسات، دون شك.

برز، إذاً، السؤال الجمالي، في المقدمة، وربما يحتاج لمساحة أخرى لتبيان دلالة بروزه، وما يستبطنه من توابع بناء بهذا العلو، وهذه الكثافة، في قلب المدينة، وبخاصة مسائل الزحام، والتكدس والتلوث، فهل هناك أدنى عقل في إضافة آلاف السيارات، وعشرات آلاف المارة، ليمروا من ذات الثقب الصغير على شكل مثلث؟

إقرأوا أيضاً:

17.02.2022
زمن القراءة: 17 minutes

أبراج مثلث ماسبيرو لا تراعي طبيعة وسط المدينة. العاصمة الجديدة لا تعرف متوسطي ومحدودي الدخل، والتراث المعماري للقاهرة يعيش أسوأ حالاته.

تقدم السؤال الجمالي ما سواه من أسئلة السياسة والاقتصاد والعمران التي أثارها نبأ هدم خمس عمارات، هي كل ما تبقى مما تقرر هدمه في مثلث ماسبيرو وسط القاهرة. لكن تقدمه هذا؛ والذي برز بصورة واضحة في التعليقات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لم يكن، مجرد تعبير عن انشغال لافت بما هو “الجميل”، بقدر ما هو إشارة إلى أن بقية الأسئلة، على أهميتها، ستغدو أكثر كثافة، وربما “قيمة” إذا ما قُورنت به، بحيث يصبح ما حصل لمثلث ماسبيرو تعبيراً دالاً على ما حدث في مصر منذ 25 كانون الثاني/ يناير 2011 حتى اللحظة.

كلمة ماسبيرو، نفسها، مجرد اللفظ، إذ وضعت، بمفردها أسفل الصورة التي تقارن ما يُهدم، وما يُبنى، تستدعي، تلقائياً، أحداثاً ووقائع تعود لذلك العام، وأخرى حصلت في أيام الهدم، فمن ذلك العام، يحضر: اعتصام ماسبيرو الأول (5 آذار/ مارس)، اعتصام ماسبيرو الثاني (8 أيار/ مايو)، مذبحة ماسبيرو (9 تشرين الأول/ أكتوبر)، أما ما رافق الهدم، فهي تظاهرات العاملين في مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري (ماسبيرو)؛ المتواصلة من بداية كانون الثاني الماضي، حتى الآن؛ والمتوقع استمرارها، وتناميها.

وماسبيرو، الذي سميت المنطقة والمبنى باسمه، هو جاستون ماسبيرو (1846- 1916)، عالم الآثار الفرنسي الشهير.

تزامن مع طرح السؤال الجمالي نشر مقالين وحوار صحافي، ما كشف بجلاء حضور كل الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيه، بحيث يتبين مدى الوعي بخطورة ما حصل لمثلث ماسبيرو كعلامة على واقع “الجمهورية الجديدة” ومشروعها.

 الأول مقال مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، “قصتى مع مشروع توشكى“، وفيه يعود إلى عام 1997، مؤكداً “عدم وجود دراسات تفصيلية لدى الحكومة حول المشروع (وقتها)”، لافتاً إلى أن ما دعاه إلى الكتابة عن وقائع شارك فيها في تلك الفترة، هو “الخشية” من أن تكون النسخة الجديدة؛ كما السابقة، أي بلا دراسات كافية، ولهذا قدم ملاحظاته سائلاً: هل يستفيد مشروع توشكى فى صيغته الجديدة من هذه الملاحظات؟

في المقال الثاني، “رسالة لوزير الإسكان..الاجتهاد في الحلم واجب” تبدي ليلى إبراهيم شلبي استغرابها من خبر قيام “الدكتور عاصم الجزار، وزير الإسكان والمرافق، بزيارة للعاصمة الأمريكية واشنطن وزيارة لمستشفى “كليفلاند كلينك” للتعرف والاطلاع على أحدث التكنولوجيا المستخدمة في تصميم المستشفيات العالمية بغرض إنشاء مستشفى عالمي متعدد التخصصات، ليكون قلب المدينة الطبية المخطط لها حديثاً بالعاصمة الإدارية الجديدة”، ووجه الاستغراب أن الوفد غاب عنه أي تمثيل لوزارة الصحة ولكليات الطب؛ الأمر الذي كان واضحاً أيضاً في أطراف مذكرة التفاهم، فهم: هيئة المجتمعات العمرانية وتحالف عالمي مصري يضم ثلاث من كبريات الشركات. ثم تكشف شلبي عن مفارقة كبرى، فهي تعمل في “معهد القلب القومى”؛ الذي تصفه بأنه “أكبر مؤسسة (طبية) خدمية في مصر”، وقد ضاق مبنى المعهد عن مواصلة تقديم الخدمة للأعداد المتزايدة، وبات إنشاء مبنى جديد ضرورة ملحة، لكن وزارة الإسكان امتنعت عن منح إدارة المعهد قطعة أرض كي يقام عليها مبنى جديد.

أما الحوار فكان مع جليلة القاضي، أستاذ التخطيط العمراني بجامعة باريس، وجاءت عناوينه الرئيسية على هذا النحو:

أبراج مثلث ماسبيرو لا تراعي طبيعة وسط المدينة. العاصمة الجديدة لا تعرف متوسطي ومحدودي الدخل، التراث المعماري للقاهرة يعيش أسوأ حالاته.

مخطط 2050 لم يشر إلى إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة الجاري تنفيذها الآن. تلك فكرة ظهرت فجأة في افتتاح فرع قناة السويس في 2015. وبالتالي ما يحدث حاليًا هو مشاريع مدرجة في المخطط وأخرى مستحدثة لا علاقة لها بالتخطيط العمراني.

وفيه أكدت، القاضي، بالتفصيل، ما قدمه السيد في شهادته، عن أنه منذ مشروعي توشكى وشرق العوينات “لم يتم عقد نقاش مجتمعي يشارك فيه ممثلو فئات الشعب المختلفة والمتخصصون، كالنقابات المهنية، (مثل) نقابة المهندسين وجمعية المخططين وجمعية المعماريين ولجنة العمارة في المجلس الأعلى للثقافة”، فمع مشروعي توشكى وشرق العوينات “امتنعت الدولة عن مناقشة المشاريع. كما تم حظر اجتماعات المتخصصين”.

أسئلة “المثلث” كلها، كما كلمات الثلاثي: السيد، شلبي، القاضي، تتقاطع عند سؤال مركزي: هل هناك “خطة، برنامج، مشروع لدى السلطة الحاكمة في مصر يتم تنفيذه بوتيرة هائلة التسارع؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فما هي ملامح ذلك كما تبدت في المثلث؟

تحتاج محاولة الإجابة إلى الرجوع لبعض ما طرحه ديفيد هارفي، وروث جلاس، ونيل سميث، ووضع إزاء قصة المثلث مذ تولى الرئيس عبد الفتاح السلطة (8 حزيران/ يونيو، 2014).

يطرح المنظر الاجتماعي والجغرافي البريطاني، ديفيد هارفي، في كتابه “الليبرالية الجديدة (موجز تاريخي)” (مكتبة العبيكان، السعودية، 2008، نقله إلى العربية: مجاب الإمام) أسئلة عن القصة السياسية/ الاقتصادية لليبرالية الجديدة: من أين جاءت، وكيف انتشرت بمثل تلك الشمولية على المسرح العالمي، وكيف تحققت، ومَنْ حققها؟، ويجيب عليها، بعد أن يكون قد قدم تعريفه، حيث “الليبرالية الجديدة في المقام الأول نظرية في الممارسات السياسية والاقتصادية، تقول إن الطريقة الأمثل لتحسين الوضع الإنساني تكمن في إطلاق الحريات والمهارات التجارية الإبداعية للفرد، ضمن إطار مؤسساتي عام يتصف بحمايته الشديدة حقوق الملكية الخاصة، وحرية التجارة، وحرية الأسواق الاقتصادية. ويقتصر دور الدولة في هذه النظرية على إيجاد ذلك الإطار المؤسساتي الملائم لتلك الممارسات وصونه. يتحتم على الدولة، مثلاً، ضمان قيمة الموارد المالية وسلامتها؛ وعليها إقامة الهيكليات والوظائف العسكرية والدفاعية والأمنية والقضائية المطلوبة لحماية حقوق الملكية الفردية، واستخدام القوة إن اقتضت الحاجة لضمان عمل الأسواق بالصورة الملائمة. عليها أيضاً، في حال لم يكن هناك سوق اقتصادي (في مجالات مثل الأراضي أو الماء أو التعليم أو الرعاية الصحية أو الضمان الاجتماعي أو تلوث البيئة)، إيجاد هذه الأسواق، ولو من طريق التدخل المباشر إن لزم الأمر”.

العودة إلى هارفي تستوجبها فرضية أن “الجمهورية الجديدة”، التي شرع السيسي في بنائها، هي النسخة المصرية من الليبرالية الجديدة، فكثيراً ما يصادف قارئ الـ”موجز” الذي يقدمه هارفي تطابقاً إلى حد بعيد مع السياسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التفصيلية المطبقة في مصر طوال السنوات السبع الماضية، وما حصل لمثلث ماسبيرو ليس سوى نموذج دال للغاية على ذلك، كما سيتبين من سرد قصته.

فحين يكتب هارفي: “إن الليبرالية الجديدة تعتبر العلاقات التبادلية في السوق الاقتصادي قيمة أخلاقية بحد ذاتها، قادرة على أن تكون دليل عمل للفعل الإنساني بصيغه وأشكاله كافة، وبديلاً عن كل المعتقدات الأخلاقية التي سبق اعتناقها”، فإن السيسي يترجم ذلك بصورة أكثر حدة حين يقول “أنا معنديش حاجة اسمها ببلاش“، وقد كررها بصيغ متنوعة، وأكثر تحديداً “هعمل لكم كل حاجة بس مش ببلاش… ادفع بقى“.

الفرضية التي يهدينا إليها هارفي أن الليبرالية الجديدة وجدت سبل تحققها عبر أسلوبين مختلفين: في الأول يتم بناء “قبول للأفكار” وفي الثاني يتم فرض “الإذعان”، وهكذا يشرح في إجابته على سؤال: كيف تحققت الليبرالية الجديدة، ومَنْ حققها؟ فيذكر أنه “في دول مثل تشيلي والأرجنتين في السبعينات، تبقى الإجابة بسيطة بقدر ما هي سريعة وأكيدة ووحشية: انقلاب عسكري تدعمه الطبقات العليا التقليدية (بالاشتراك مع حكومة الولايات المتحدة)، يتلوه قمع عنيف لمختلف أشكال التضامن الناشئة داخل الحركة العمالية والحركات الاجتماعية المدينية، التي تهدد سلطتها. لكن الثورة الليبرالية، المنسوبة عادة إلى تاتشر وريجان بعد عام 1979، كان لا بد أن تتحقق بالطرق الديمقراطية، لأن تحولا بهذا الحجم والأهمية يقتضي بناء قبول سياسي مسبق بين طيف واسع من عموم الجماهير يكفي للفوز بالانتخابات”.

ثم يفصل جانب من الطريق الثاني “الديموقراطي” فيذكر أنه “نموذجياً، تنبن الموافقة على أرضية ما سمّاه غرامشي “الحس العام” (وهو تعريفاَ ما يتم تقبله بشكل بدهي ومشترك)، ويبنى الحس العام بدوره على ممارسات ضاربة قدماً في عمليات الاشتراك الثقافي، المتجذرة غالباً في صلب التقاليد الإقليمية أو القومية الدفينة”.

ولأهمية “مفهوم” الحس العام، ينبه، هارفي، إلى أنه “يمكن للحس العام أن يكون مضللا إلى أبعد الحدود، بحيث يحجب مشاكل حقيقية أو يخفيها تحت غطاء تحيزات ثقافية متنوعة. كما يمكن تجييش القيم الثقافية والتقليدية (كالإيمان بالله والوطن أو آراء معينة حول وضع المرأة في المجتمع)، والمخاوف (من “الآخرين” أو من الشيوعيين أو المهاجرين أو الأجانب)، لإخفاء حقائق مغايرة أخرى.

فرضيتنا تتقدم ببطء، فالنسخة “السيسوية” من “النيوليبرالية” هجين استغل ظرفاً اجتماعياً وسياسياً خاصاً ليكتسح أي مقاومة أمامه، فليست “النسخة السيسوية” خالصة، نقية، فهي تجمع سمات من النموذجين، لـ”تبدع” نموذجها.

وكمثال نقرأ كيف تعامل السيسي مع رجال الأعمال المصريين، وهو يخاطبهم “هتدفعوا يعنى هتدفعوا وإن خدت جنيه مني يبقالك الكلام“، في ضوء سؤال هارفي وإجابته التاليين: “كيف تفاوضت الليبرالية الجديدة مع حلفائها وخصومها لإحداث التحول وإزاحة الليبرالية المتجذرة على هذا النحو الشامل؟ في بعض الحالات، تكمن الإجابة إلى حد بعيد في استخدام القوة (سواء العسكرية، كما في تشيلي، أم المالية، عبر عمليات صندوق النقد الدولي في موزامبيق أو الفلبين). وبمقدور الإكراه أحيانا إحداث حالة من القدرية، أو حتى القنوط، تدفع إلى تقبل فكرة أن ليس ثمة بديل”.

إقرأوا أيضاً:

السيسي وحقوق الإنسان

أما “رؤية” السيسي للديمقراطية ولحقوق الإنسان، فما كتبه هارفي يعبر عنها بدقة تامة، حين يذكر أن  “الليبراليين الجدد (يعتبرون) الديمقراطية ترفا لا يتحقق إلا في ظل توافر شرطي الثراء النسبي، ووجود طبقة وسطى كبيرة ومتماسكة تضمن الاستقرار السياسي. لذلك يحبذ الليبراليون الجدد حكم النخب والخبراء، ويفضلون الحكم بمقتضى أوامر تنفيذية وقرارات قضائية/ قانونية، بدلا عن عملية صناعة القرار الديمقرطية والبرلمانية”.

استفاد هارفي من “مفهوم” الـ”Gentrification”، وهو مصطلح إذا ترجم إلى اللغة العربية لا يطرح المعنى الواسع والمطابق للمعنى الذي يُقصد منه عند تداوله باللغة الإنكليزية. وهو، في الأساس، مصطلح جديد حتى على اللغة الإنكليزية نفسها. إذ أن روث جلاس (Ruth Glass) (1912- 1990)، وهي عالمة اجتماع ألمانية المولد وبريطانية الجنسية، كانت أول من استعمله عام 1964. وقد تمت ترجمته، واستخدامه عربيا على أنه “الإحلال العمراني الطبقي”، وكانت تعني به أن الطبقات المتوسطة تغزو المناطق السكنية للطبقة العاملة، وهي ظاهرة حدثت تدريجيا في كثير من المدن منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى سبعينياته، وما زالت تحدث حتى يومنا هذا في معظم مدن العالم، وقد استخدمه الكثير من الجغرافيين والمختصين بالعلوم الإنسانية لتحليل ودراسة السياسات الاقتصادية، وأشكال الرأسمالية الجديدة، وكيف تضْمن الاستثمارات الرأسية الربح السريع على حساب الطبقات العاملة، والأقل فقراً، بالاستيلاء تدريجياً على مساكنهم، وطردهم، وعزلهم، حيث يبحث المستثمرون عمن يستطيع أن يتكلف بمصاريف أعلى لزيادة أرباحهم، ويلجأ المستثمرون إلى الاستثمار العقاري سواء بالتمليك أو بالإيجار، لأن المكاسب الربحية فيه أعلى وأضمن.

وفي مجال العمارة والتنظيم المديني، وكما ذهب كثر من الباحثين، وبينهم عرب ولبنانيون، تمت ترجمته بـ”البرْجوَزة“، ليُقصد به ظاهرة ديناميكية مدينية تطرأ على مناطق وأحياء الطبقات الفقيرة، التي تتجاهلها الدولة، فتنتج ديناميكيات اجتماعية- مدينية جذرية فيها، بحيث تتحول المباني التراثية والقديمة التي يسكنها فقراء المدينة إلى مناطق سكن جديدة للطبقات الغنية ومتاجر لها وغير ذلك. وعادة ما تجذب هذه الأحياء “المُبرجوَزة” استثمارات ونشاطات اقتصادية جديدة فترتفع الإيجارات، ويصبح سكن الطبقات الفقيرة فيها شبه مستحيل. وهذا ما حصل فعلاً في منطقة وسط بيروت، بعد مشروع شركة “سوليدير”، وكما تحاول شركة “الإسماعيلية”، منطقة وسط القاهرة، دون ان تحقق نجاحا حتى الآن.

ظلت سياسات “الإحلال العمراني الطبقي” عصية على التطبيق في مصر لثلاثة عقود على الأقل، فخلال تلك الفترة كان يحدث العكس، تماماً، كانت الطبقات العليا، تهجر الأحياء “الراقية” في القاهرة إلى مدن جديدة، وصفتها القاضي بأنها “مدن نخبوية، لا تستطيع العيش فيها إن لم تكن لديك سيارة خاصة ودخل أعلى من المتوسط”.

ثم أنها (القاضي) بتأكيدها على أنه يجب على “كل المدن الجديدة أن تكون مثل المدن القديمة تضم كافة الطبقات الاجتماعية وتحتوي على الأنشطة اللازمة بشكل أفضل لتمثل بؤر جاذبة”. تنبه إلى أن هذا لا يحدث حاليًا فـ “قد أخفقت المدن الجديدة في تحقيق ذلك،..، فنسبة كبيرة من مساكنها خالية، وتصل نسبة الإشغال في بعضها إلى 75 في المئة وذلك لأسباب مختلفة، منها عدم استكمال البناء، وعدم البيع، أو كون بعضها يمثل أوعية ادخارية”.

هكذا كان الحال حين وصل السيسي للحكم، ومع وصوله باتت سياسات “الإحلال العمراني الطبقي” تمتلك قوة هائلة من النسخة “السيسوية” من “النيوليبرالية”، وباتت حيرة، القاضي، ضمن هذه الفرضية، إذ تستغرب، وتقول: “هناك مفارقة غريبة إنه حاليًا يتم إنشاء العاصمة الإدارية. وبالتالي دورها هو تخفيف الضغط على القاهرة الحالية. لكن الحاصل حاليًا أنه يتم الضغط على المدينة القديمة بتنفيذ مشاريع عقارية متعددة. بينما الجديدة لم يسكنها أحد بسبب الأسعار التي لا تتناسب مع الطبقات المتوسطة المفترض أن تكون مستهدفة. يتم بناء أبراج في عدد من الأماكن وإنشاء كباري وتوسيع طرق. وذلك شيء غير مفهوم في الحقيقة”.

“إن الليبرالية الجديدة تعتبر العلاقات التبادلية في السوق الاقتصادي قيمة أخلاقية بحد ذاتها، قادرة على أن تكون دليل عمل للفعل الإنساني بصيغه وأشكاله كافة، وبديلاً عن كل المعتقدات الأخلاقية التي سبق اعتناقها”.

ولكي تكون الصورة اكثر تعيينا تسترجع، القاضي، وصف الدكتور ميلاد حنا (1924- 2012) البليغ: “مساكن بلا سكان وسكان بلا مساكن”، لتؤكد أنه هناك في مصر 12 مليون مسكن أو شقة فارغة لا تجد سكانًا. بينما لدينا سكان يبحثون عن مساكن تتفق مع دخلهم ولا يجدون.

السيسي يحل المعضلة، فوفقاً لهارفي، فإن الليبرالية الجديدة “عليها في حال لم يكن هناك سوق اقتصادي (في مجالات مثل الأراضي…)، إيجاد هذه الأسواق، ولو عن طريق التدخل المباشر إن لزم الأمر”.

و”المباشر” هذا، هواية عند السيسي، ونسخته الشائعة من النيوليبرالية، كما سنراها، في صورتها الخالصة: مثلث ماسبيرو.

القاهرة في 2014 ليست لندن في 1964 التي درستها جلاس وزملاؤها في كتابهم “العمدة” (لندن: جوانب التغيير London: aspects of change)، لكن بإمكان المدينتين أن تشتركا في وصفها هذا “لا يمكن أبداً أن تؤخذ (لندن/ القاهرة) كأمر مسلم به. المدينة شاسعة للغاية، ومعقدة للغاية، ومتناقضة للغاية، ومزاجية للغاية لدرجة تجعلها مألوفة تمامًا. وهناك لحظات تبرز فيها الملامح المعروفة لمنظر بلدتها بشكل مدهش، كما قد تبرز للسائح الأجنبي أو الوافد الذي عاد أخيرًا إلى وطنه”.

لكن القاهرة عام 2014 كانت مقبلة على ما حصل لغيرها: “واحداً تلو الآخر، تعرضت أحياء الطبقة العاملة في لندن للغزو من قبل الطبقات الوسطى – العليا والدنيا. بمجرد أن تبدأ عملية “التحسين” هذه في منطقة ما، فإنها تستمر بسرعة حتى يتم تهجير كل أو معظم “المحتلين” الأصليين من الطبقة العاملة ويتغير الطابع الاجتماعي للمقاطعة بالكامل”.

وهذا ما حصل لمثلث ماسبيرو، وغيره، ولكن ماسبيرو كان بالغ التعبير عن النيوليبرالية السيسوية أكثر من سواه.

نقطة تحوّل

تأخرت الليبرالية الجديدة أربعة عقود حتى باتت بإمكانها أن تصدر نسختها “السيسوية”. يحدد هارفي البداية بهذه الجملة المعبرة: “قد ينظر المؤرخون المستقبليون إلى سنوات 1978- 1980 باعتبارها نقطة تحول ثورية في تاريخ العالم الاجتماعي والاقتصادي”. وفي تلك السنوات كان هارفي يشرف على أطروحة الباحث الأميركي لنيل الدكتوراه، نيل سميث، وأنتج هذا الباحث مفهوما متطورا لمفهوم جلاس، فالفارق الزمنى حدثت به تغييرات “جذرية” بحيث أصبح “التغيير/ التحسين/ التطوير” أكثر عمقا و”وحشية”، فبعد نحو ثلاثة عقود من موجة الدراسات التي أطلقتها جلاس، أصدر سميث “الحدود الحضرية الجديدة: التحسين والمدينة الانتقامية “( The New Urban Frontier: Gentrification and the Revanchist City )، وركز بحثه على “كيفية تدفق رأس المال داخل وخارج الأحياء، وكيف أن الاستثمارات المالية في السعي لتحقيق أرباح طويلة الأجل قد خلقت حوافز لإعادة تطوير جيوب معينة في المدينة”، وكان سؤاله المركزي: ما هو سبب إعادة تطوير بعض المناطق وعدم إعادة تطوير مناطق أخرى؟، وكانت إجابته: إنها “فجوة الإيجار، الفجوة بين الإيجار الحالي الذي يتقاضاه المالك لوحداتهم، والإيجار المحتمل الذي يمكن تحصيله إذا تم إعادة تطوير الوحدات. كلما اتسعت الفجوة، زادت المساحة المخصصة لإعادة التطوير. يحدث التحسين عندما تكون الفجوة واسعة بما يكفي بحيث يستطيع المطوون شراء مناطق رخيصة الثمن، ويمكنهم دفع تكاليف البناء وأرباح إعادة التأهيل، ويمكنهم دفع فائدة على قروض الرهن العقاري والبناء، ومن ثم يمكنهم بيع المنتج النهائي بسعر البيع الذي ينتج أرباحا هائلة”.

الآن يمكن سرد قصة مثلث ماسبيرو.

قصة المثلث

وهكذا في أي منطقة في أي مدينة حين يكون شاغلو العقارات عقبة أمام التطوير، وأمام الأرباح الناتجة عنها ستتم إزالتهم بصورة وحشية وانتقامية.

قبل 25 كانون الثاني 2011، بأيام، حمل الدكتور مصطفى مدبولي، الذي كان وقتها رئيس “الهيئة العامة للتخطيط العمراني”، أوراقه، وذهب إلى جمعية المهندسين المصرية، ليلقي على أعضائها محاضرة بعنوان “القاهرة 2050- إستراتيجية التنمية العمرانية لإقليم القاهرة الكبرى”، وقد نشرت نصها مجلة الجمعية في عددها الصادر بعد شهرين، وجاء في مقدمة نص المحاضرة: “تم تكليف الهيئة العامة للتخطيط العمراني عام 2008 بإعداد الرؤية المستقبلية والمخطط الاستراتيجي بعيد المدى لإقليم القاهرة الكبرى حتى 2050″، وأنه قد “تعاونت عدة جهات دولية ومحلية في إعداد المشروع وتمت الاستعانة بالخبرات العالمية والدولية والمحلية لتوفير الدعم الفني والإداري ومتابعة المشروع، والجهات الدولية، هي: الحكومة اليابانية ممثلة من خلال الوكالة الدولية للتعاون الدولي (JICA)، البرنامد الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP)، برنامج الأمم المتحدة للمستطونات البشرية (UNHABITAT)، والبنك الدولي”.

في العام التالي، وعقب فوز مرشح الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، محمد مرسي، بمنصب الرئاسة، وتشكيل الدكتور هشام قنديل لوزارته (2أغسطس 2012) تمت إقالة مدبولي، وبعدها بشهرين، نشرت وزراة الإسكان، التي تولاها الدكتور طارق وفيق (العضو في جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة)، نسخة “جديدة” من “استراتيجية” مدبولي، لكن المقارنة بين النسختين لن تلاحظ إلا تغييرات بالغة الهامشية، فنسخة الدكتور وفيق حملت تاريخ (2052)، وهو تغيير ربما حمل آمالا بالغة الغرابة، مثل الصورتين الوحيدتين المتضمنتين في النسخة الجديدة، فهماً لميدان التحرير أثناء أيام “الثورة” (28 يناير- 11 فبراير) والجزء الأعظم من الصورة يشغله مصلون مسلمون ساجدون، دون ذلك لا تغيير هام بين النسختين إلا أن نسخة الدكتور وفيق كانت بالغة الوضوح، فهي تفتتح بهذه الكلمات: “كونت ظاهرة العولمة الإطار الرئيسى للاقتصاد العالمى فى العقدين الأخريين ويعتبر تحرير التجارة الدولية، وتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتقدم العلمى التكنولوجى وتعاظم دور الشركات الدولية أهم ركائز المناخ الاقتصادي العالمي، إلا أن القاهرة الكبرى تمتلك مقومات ثرية تؤهلها لتحقيق مرتبة مهمة في ظل توزيع القوة والنفوذ على مستوى العالم مما ينعكس بشكل إيجابي على رفع مستوى معيشة المواطنين”، ثم هذا العنوان الفرعي: “مصر وحتمية العولمة”.

إقرأوا أيضاً:

بعد أقل من عامين، عاد الدكتور مدبولي وزيراً للإسكان في مجلس الوزراء الذي ترأسه إبراهيم محلب (1 آذار 2014)، وكانت معه في الحكومة ليلى إسكندر وزيرة للبيئة، وفي تعديل وزاري (17 حزيران 2014)؛ اقتضاه فوز المشير عبد الفتاح السيسي بمنصب الرئاسة، أضحت وزيرة دولة للتطوير الحضاري والعشوائيات، وشرعت فوراً في خطوات جادة للتعامل مع ماسبيرو، خطوات دفعت رئيس مجلس الوزراء إلى الجلوس مع عدد من سكان المنطقة، وعدد من المنظمات الأهلية التي تشكلت لدعم السكان، هكذا نقرأ في خبر عنوانه “محلب يطلق شارة البدء لتطوير منطقة ماسبيرو” (26 أيلول/ سبتمبر 2014)، ونقرأ فيه، أيضاً، ما يبدو اعتراضاً من الدكتور مدبولي، فهو “صاحب الاستراتيجية” ووزير الإسكان، وإسكندر “تتفاوض”. لذلك يشير الخبر إلى أن “الدكتور مصطفى مدبولي وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، كان طالب في اجتماعه أخيراً مع محافظ القاهرة بتشكيل المحافظة لجنة حصر لتدقيق الملكيات فى منطقة ماسبيرو، والتأكد من المسطحات الموجودة وجهات الملكية، مؤكداً أن الإشكالية الحقيقية ستكون في الملكيات المفتتة، والخاصة بامتلاك بعض المواطنين لمساحات صغيرة في المنطقة، فضلا عن حصر نهائى للمستأجرين، بحيث يتم حصر الأملاك والشاغلين بشكل عام”.

ونلاحظ، أيضا، أن محلب قد أفرط في الحديث إلى “المعينين” بالأمور، فها هو يذهب بنفسه إلى ماسبيرو الآخر (مبنى الإذاعة والتلفزيون)، وقبل ذلك ذهب إلى عمال مصانع غزل المحلة. ونعرف الآن أن ماسبيرو الآخر ما زال يتظاهر، وأن المصانع على حالها، وربما سيتم بيعها، قريبا، لكن المثلث، جرى اكتساحه، تماما، وهنا ستبدو ملاحظات نيل سميث شديدة الصواب.

مضت إسكندر في خطوات إضافية، فبعد ثلاثة أشهر من “تفاوضهما” مع السكان أعلنت أن “الحكومة تخطط لطرح مناقصة عالمية لتطوير منطقة مثلث ماسبيرو”، ثم في آب/ أغسطس 2015 تم الإعلان عن “اختيار 9 شركات عالمية للتأهيل لمسابقة تطوير مثلث ماسبيرو”، لكن بعدها بأقل من شهر قدم محلب إستقالة حكومته للسيسي، الذي كلف شريف إسماعيل بتشكيل حكومة جديدة، خلت من إسكندر، وأصبح مثلث ماسبيرو في قبضة الدكتور مدبولي، الذي ظل وزيراً للإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، وقام بعدها بنحو شهرين بإعلان نتائج الفائزين في مسابقة تطوير مثلث ماسبيرو، الذي كان عضواً في لجنة تحكيمها “الدولية”، وقد حجبت اللجنة الجائزة الأولى، بينما حصل على الجائزة الثانية مكتب فوستر وشركاه الأميركي. وفي الحفل قال مدبولي، وهو يشير إلى إسكندر: “مهما تغير الأشخاص فالدولة مستمرة في تنفيذ خططها وأهدافها، وعلى رأس أهدافنا هنا أن يستفيد الجميع من تطوير منطقة مثلث ماسبيرو، وتأكيد أن أحداً لن يتأذى من عملية التطوير، هناك ثوابت واضحة في المسابقة، منها مراعاة طبيعة هذه المنطقة، ورغبات الشاغلين للوحدات، التي يجب أن نحرص على تحقيقها في عملية التطوير، مع محاولة الوصول إلى أفضل الحلول وأشكال التخطيط التي توصلنا إلى هذه المعادلة الصعبة”.

وفي بيان فوزه، أشار مكتب فوستر وشركاه، كما في المخطط الذي نشرته، إلى أن الأهمية الأولى في المشروع كانت لإعادة سكان المنطقة إليها “حيث سيتمكن “معظم” سكان المنطقة الحاليين، والبالغ عددهم 14 ألفاً من السكن في تلك الشقق الجديدة”. في المخطط تظهر مبان من طبقتين، تحتل المساحة الداخلية (شارعي 26 يوليو والجلاء)، وعبر هذا المفهوم يتم “الاحتفاظ بطابع المنطقة الفريد وسماتها المكانية”، مع التأكيد على بقاء مساحات مجتمعية مفتوحة (تشكل) المركز المركزي الأكثر خصوصية من المخطط. يسمح ذلك للسكان الحاليين بالمنطقة بالحفاظ على علاقات العمل المكانية المتداخلة الخاصة بهم”. بالإضافة إلى أنه ستملأ المرحلة الأولى المساحات الفارغة داخل المنطقة بالخضرة لتعزيز المجال العام النابض بالحياة في المجتمع. سيؤدي ذلك إلى تحسين نوعية الحياة في المنطقة وإفادة المجتمع الحالي على الفور. بعد ذلك، سيتم بناء أجزاء من المناطق السكنية والتجارية جنباً إلى جنب مع إنشاء نموذج تنمية مستدام”.

بقى مخطط المهندس المعماري الشهير فوستر نورمان في أدراج الدكتور مدبولي، حتى قدم المهندس شريف إسماعيل إستقالة حكومته، وكلف السيسي مدبولي بتشكيل الحكومة، وعقب أدائها القسم (16 يوليو 2018) بأقل من شهر، جرى الكشف عن أنه تقرر الاستغناء عن مشروع فوستر، وجاء الإعلان عبر تصريحات صحفية للمهندس خالد صديق، المدير التنفيذي لصندوق تطوير المناطق العشوائية، وهو، بحسب التعريف به على الموقع الرسمي للصندوق، “حاصل على بكالوريوس هندسة وعلوم عسكرية قسم مدنى من الكلية الفنية العسكرية، خبرة ستة وعشرون عاما من تنفيذ المشروعات الهندسية، كما تولى عدداً من المناصب المدنية كمدير عام لشركات الشعفار للاستثمارات العقارية والمقاولات العامة بدولة الامارات العربية”.

في التحقيق الصحفي الذي أعلن فيه صديق الاستغناء عن نتيجة المسابقة الدولية، التي كان وزيره، ثم رئيس مجلس الوزراء، عضوا فيها، جرى الكشف عن أنه “يعكف ثلاثة مهندسون من كل من هيئة التخطيط العمراني ووزارة الإسكان وصندوق تطوير المناطق العشوائية على وضع عدة تصميمات لتخطيط منطقة مثلث ماسبيرو، وسيتم اختيار المخطط الأفضل الذي يراعي السكان الراغبين في العودة للمنطقة بعد التطوير، حيث من المستهدف تسكين نحو 80 شاغلًا بالمنطقة، وأنه “تم الاستغناء عن مخطط “فوستر” بسبب إلغاء وزارة التخطيط الحضاري والعشوائيات نفسها في نهاية عام 2015، وهو ما أدى لتغيير خطط تعويض الأهالي في المنطقة، وتغير معطيات المخطط، حيث تخلت العديد من الشركات المالكة في المثلث عن أراضيها، مما استلزم ضرورة وضع مخطط جديد للمنطقة يراعي المعطيات الجديدة”.

المعطيات الجديدة انتظرت ستة أشهر حتى تظهر ملامحها؛ ففي 9 كانون الثاني 2019 أصدر الدكتور مدبولي (رئيس مجلس الوزراء)، بصفته رئيس المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية قرار رقم (1) لسنة 2019، بشأن نزعة ملكية الأراضي بمنطقة مثلث ماسبيرو للمنفعة العامة بغرض إعادة التخطيط، وفي مادته الأولى “يُستولى بطريق التنفيذ المباشر على الأراضي اللازمة لتنفيذ المشروع المشار إليه في المادة السابقة، والمبين موقعها وحدودها وأسماء ملاكها الظاهرين بالمذكرة والرسم التخطيطي الإجمالي والكشوف المرفقة”. أما المذكرة الإيضاحية لوزارة التنمية المحلية، فكانت حاسمة في إظهار النيوليبرالية السيسوية بأكثر صورها “انتقاما” حيث ذكرت أنه “تواجه عملية التطوير العديد من التحديات ذات الصلة بالاستغلال الأمثل للأراضي والبنية التحتية والخدمات وعلاقة ذلك بالنطاق الأشمل للمدينة، ولما كانت هناك دراسة طموحة بشأن تلك المنطقة تهدف إلى: إضافة علامة تجارية جديدة لمدينة القاهرة. توفير قطب لجذب الاستثمارات وتحقيق الديناميكية اقتصادية للقاهرة الكبرى. تحسين وجهة النيل وضمان تحقيق رؤية القاهرة. توفير فرص عمل لقاطني القاهرة”.

وحتى تتضح الصورة تماما كشف المهندس أحمد كمال، المشرف على مشروع مثلث ماسبيرو، في حوار مع قناة فضائية مصرية، تملك حصة الأغلبية في أسهمها “جهات سيادية” أن “المنطقة كانت ضمن قائمة المناطق الخطرة أمنيا“، وأن من سيعدون من سكان المنطقة سيشغلون ثلاث عمارات فقط، من ما قارب على الانتهاء.

الأكثر دلالة على “التطورات الجديدة” كان صدور قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1779 لسنة 2021 بشأن إنشاء صندوق التنمية الحضرية (2 أغسطس 2021) والذي أصبح بموجبه صندوق تطوير المناطق العشوائية نسيا منسيا، فبحسب المادة الثامنة عشر من القرار “يحل الصندوق (التنمية الحضرية) محل صندوق تطوير المناطق العشوائية فيما له من حقوق وما عليه من التزامات”

الآن هناك “التنمية الحضرية”، والعشوائيات في خبر كان، وهكذا حين يعلن الصندوق الجديد قرارا بالمنفعة العامة لأي منطقة في مصر لن تتعالي الأصوات “لسنا عشوائيات”، فالعشوائيات أنتهت.

الصندوق الجديد وجد للرد على تساؤلات، القاضي: ما الذي يدفعني لإزالة أحياء سكنية حالتها جيدة وبها طبقات وسطى وليست عشوائيات وليست بالمناطق المهددة؟

ومعه سيظهر ما عنته جلاس “واحدًا تلو الآخر سيجري الغزو”. وما قصده سميث من الانتقام، الذي ظهر بجلاء في ماسبيرو (الخطرة أمنيا)، وسيتعزز النموذج الهجين للنيوليبرالية السيسوية، حتى تتجمع خيوط مقاومته، التي ستولدها هذه السياسات، دون شك.

برز، إذاً، السؤال الجمالي، في المقدمة، وربما يحتاج لمساحة أخرى لتبيان دلالة بروزه، وما يستبطنه من توابع بناء بهذا العلو، وهذه الكثافة، في قلب المدينة، وبخاصة مسائل الزحام، والتكدس والتلوث، فهل هناك أدنى عقل في إضافة آلاف السيارات، وعشرات آلاف المارة، ليمروا من ذات الثقب الصغير على شكل مثلث؟

إقرأوا أيضاً:

17.02.2022
زمن القراءة: 17 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية