fbpx

“المقاومة”: عن مظلومية لا تتسع لغير الانتصارات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مفهوم “المقاومة” الذي تتبناه الميلشيات في الشرق الأوسط، ذو علاقة وطيدة مع المظلوميّة و”النصر الإلهي”، الذي تتبناه “حماس” و”حزب الله”، على رغم الخسائر البشرية والمادية الفادحة، التي تلحق بلبنان وقطاع غزة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في مراسلات مع قادة حركة “حماس” خارج غزة، طبقاً لتقريرٍ نشرته جريدة “وول ستريت جورنال” الأميركية في 10 يونيو/حزيران الماضي؛ استلهم يحيى السنوار قائد الحركة في غزة، حرب التحرير الجزائرية وشهداءها المليون، وكربلاء التي شهدت مقتل حفيد النبي محمد، الإمام الحسين، مع كل أنصاره ورجال عائلته (عدا واحد) عام 680 ميلادية. 

في هذه الرسائل، يعتبر السنوار حركته منتصرة، إذ، حسب ما نسب إليه، حشرت إسرائيل في كارثة علاقات عامة، وأفشلت خططها للقضاء على الحركة.

 “حماس” كذّبت التقرير، لكن، سواء صدقت  “وول ستريت جورنال” أَم لا، ففي لغتها عموماً، لا وزن يُذكر لمعاناة أهل غزة، الذين خسروا خلال تسعة أشهر، عشرات الآلاف من الأرواح، وتخطت الإصابات بينهم المائة ألف، ناهيك بالدمار الهائل والمجاعة المحدقة، في وجه آلة حربٍ إسرائيلية، لا تفعل إلا المزيد مما هو معتاد من قتل عشوائي وعقاب جماعي، وتستخدم “حماس” أيضاً، منطقاً معتاداً من ذلك. 

الاستعداد للموت !

في ندوة مع مركز “الزيتونة” للدراسات والاستشارات في بيرو ت يوم الأربعاء 26 يونيو/حزيران الماضي، تحدث خالد مشعل رئيس “حماس” في الخارج وقائدها التاريخي، عن القتال الجاري: ” الذين كانوا خارج المعركة، وينتظرون هزيمة المقاومة، ماذا سيكون وزنهم بعد انتهاء طوفان الأقصى وانتصار المقاومة في غزة؟”، وبما أن “النصر” قد تحقق بالفعل؛ حسب مشعل، فإن”خيارات المواجهة مع الكيان الإسرائيلي ومقاومته، أثبتت أنها هي التي تربكه وتضعفه، بعكس ما ادّعى أنصار…التسوية السلمية”. 

وأردف مشعل “البعض يقول إن أثمان المقاومة كبيرة، وهذا صحيح، فغزة تدمرت،  لكن، منذ متى كان التحرير وكانت المقاومة وإنجاز الأهداف الوطنية، بدون أثمان؟”، مضيفاً  أنه وبعد “طوفان الأقصى “هذه المعركة (التي) غيّرت كل عناصر المشهد…وحركت السكون الذي كان حاصلاً للقضية الفلسطينية، ووضعت القضية الفلسطينية في مكانة متقدمة في التعاطف والاهتمام العالميين”، فإن “السيناريو الأقرب للتحقق، هو انهيار هذا الكيان وتفككه…وربما رفع اليد الدولية عنه…وربما انهياره مرةً واحدة”.

  لا شك في إخلاص مشعل في ما قال، هو الذي تعرض لمحاولة اغتيال إسرائيلية بالسم في الأردن، كادت تودي بحياته عام 1997، لكن واقعية منطقه أمر آخر. 

الاستعداد للموت من أجل القضية وتقديم الأقربين لها، حاضران أيضاً عند إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي ل”حماس”، فبعد استشهاد أخته مع عائلتها أواخر يونيو/ حزيران الماضي، علماً أنه فقد العشرات من أسرته قبل ذلك، بمن فيهم أبناء وأحفاد، كتب “لا يسعني إلا أن أزف هذه الكوكبة الجديدة من شهداء العائلة”، هنية أعلن تكراراً أن خسارته أفراد عائلته لن يؤثر في موقفه.

 موقف هنية هذا، يعكس منظوراً يتناغم مع ما نقلناه عن مشعل، وما نُسب إلى السنوار. 

في أغسطس/ آب 2014، احتفالا بـ”النصر” في عملية “العصف المأكول”،  قال هنية إن “انتصار المقاومة في غزة، يرسم الطريق  نحو…الأقصى…ويعبد الطريق  لعودة…اللاجئين إلى أرضهم”،  لم يتوقف هنية عند وصف ما جرى ب”النصر” بل قال إن “رجال المقاومة  كانوا يلعبون بجنود الاحتلال من أسر  وخطفٍ وقتل”، قبل أن يتوعد في نهاية خطابه، بأن المعركة القادمة ستكون في القدس، علماً أن حصيلة عملية “العصف المأكول”، التي استمرت 51 يوماً، كان أكثر من ألفين ومائة قتيل فلسطيني، وخمسة أضعاف هذا الرقم من الجرحى، مقابل اثنين وسبعين قتيلاً إسرائيلياً، وعشرة أمثالهم من الجرحى. 

و قبل أربعة عشر عاماً من “طوفان الأقصى” وست سنوات من “العصف المأكول”،  نشبت إحدى دورات العنف هذه، بين “حماس” وإسرائيل “معركة الفرقان”، حسب “حماس”، بين ديسمبر/ كانون الأول 2008 ويناير/ كانون الثاني 2009، النتيجة كانت ثلاثة عشر قتيلاً إسرائيلياً، بينهم من سقط بنيرانٍ صديقة، وما يزيد على ألف وثلاثمائة فلسطيني، الغالبية الكاسحة منهم، كما الحال اليوم، من غير المقاتلين، أي أن معدل القتلى كان إسرائيلياً واحداً لأكثر من مائة فلسطيني. 

هنية، رئيس وزراء “حماس” آنذاك، أعلن “نصر حماس” في المعركة، مُعرّفاً “النصر” بفشل مخطط إسرائيل في القضاء على “حماس” في القطاع.

ما هي الهزيمة ؟

 من جهة؛ “انتصارات” كهذه تجبرنا على التساؤل: ما الهزيمة إذاً؟ وإن عرّفنا مجرد إفشال مخطط العدو نصراً (لاحظ التعريف السلبي) فهل هناك إمكانية لنصرٍ له تعريفٌ إيجابي لا يمط المنطق؟ ومن جهة أخرى، في ضوء ما خبره كل من ابتُلي بجيرة إسرائيل، من خَططَ للسابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لم يكن له إلا أن يتوقع غير ما رأينا في الأشهر التسعة الماضية من إجرامٍ وتوحش صهيونيين، خاصةً مع حكومة هي الأكثر تطرفاً ويمينيةً في تاريخ إسرائيل.  

لكن لا أحد، في ما يبدو، أحذ ذلك في الحسبان، بل، كما رأينا في كلام مشعل، “حماس” أعلنت النصر بالفعل. 

لا جديد هنا، لا من “حماس” ولا من غيرها، ألم يعلن “حزب الله” ما جرى في 2006 “نصراً إلهياً” رغم أن خسائره وخسائر لبنان في الأرواح، كانت أكثر من ست مرات من خسائر إسرائيل؟ وبالرغم من دمارٍ هائل للبنية التحتية للبلاد؟ وبرغم أن الحرب انتهت بقرار (1701) لمجلس الأمن، الذي دعا إلى نزع سلاح “حزب الله”، وحمله مسؤولية الحرب؟ وفرض حصاراً دولياً لتقييد تسليحه؟ 

لكن لغة المطلقات تتعالى على الواقع، ثم تعمى عنه، حتى وإن كان عدد القتلى الإسرائيليين مقابل القتلى من غزة، واحداً لأربعين، بعد تسعة أشهر من المجزرةٍ  المفتوحة، لكن لأنه مؤمن أنه “انتصر” في 2006، يلوّح  “حزب الله” اليوم بحرب أخرى، سيخرج منها “منتصراً” طبعاً. 

كربلاء، التي ادعى تقرير “وول ستريت جورنال” أن  السنوار وصفها مثالاً يُحتذى، يستلهمها السنةُ كما الشيعة، وإن كانت لقلوب الشيعة أقرب، ذكراها السنوية؛ يوم عاشوراء، محورية، خاصةً لكل تنظيم ينتسب إلى التشيع الاثني عشري. 

هل “كل أرض كربلاء”؟ 

الجمهورية الإسلامية في إيران، تحت حكم مؤسسها الخميني، استفادت من شعار “كل أرضٍ كربلاء وكل يوم عاشوراء”؛ الذي لا يُعرف تاريخ ظهوره عند الشيعة، لتجعل المعركة أبدية، لا يحدها مكان، وإن كان الإمام الحسين قد مضى إلى شهادته، فعلى سبيله يسير أتباعه المخلصون.

 من ثم، مثلاً لا حصراً، شعار “لن تُسبى زينب مرتين” الذي أطلقه الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله لتفسير دعمه لنظام بشار الأسد، قبل بضع سنوات، استذكاراً لما عانته السيدة زينب بعد مقتل أخيها الحسين في كربلاء، وفي إشارة إلى ما قد تفعله منظمات سنية تنتمي إلى السلفية- الجهادية، بضريح السيدة زينب في سوريا؛ المكان المقدس عن الشيعة. 

علماً أن نصر الله لم يرَ تناقضاً بين دعم بشار الأسد ونهج الحسين، الذي تُجمع الروايات التاريخية أنه خرج ضد طاغية فاسد، لكن من يوظف التاريخ في السياسة، لن يراه إلا بنصف عين.

 كما يسمع كل اثني عشري  في روايات “مجالس العزاء الحسينية” كل عام، وكما يعرف كل من يقرأ النصوص التي تروي ما جرى في كربلاء، حين أيقن الحسين أن الأمويين عازمون على قتله، طلب ممن معه تركه ليواجه مصيره وحيداً: “هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي”، هكذا، حسب الرواية الشائعة، خاطب الحسين أصحابه. 

لكن هؤلاء، هم وأهل بيته، رفضوا، وآثروا البقاء معه، لهذا يقام لهم “مجلس عزاء” باسمهم: “أصحاب الحسين”، لا لأنهم قاتلوا فقط، بل لأنهم اختاروا بكامل إرادتهم الموت مع إمامهم، لكن لا “حزب الله” ولا “حماس” يستشيران أحداً في ما يفعلون.

يدعي “المقاومون” الأخلاقية المطلقة، بل إن كلمة “المقاومة” يُفترض أن تُخرس كل مسائلة، لكن، قصة كربلاء تطرح أسئلةً أخرى، خلال رحلة الحسين من الحجاز إلى الكوفة في العراق، حيث وُعد بجيش ٍيترقب وصوله، تبعه كُثرُ اعتقاداً بنصره، لكن في الطريق وصله خبر مقتل رسوله إلى الكوفة، وما عناه ذلك من أن “الجنود المجندة” التي ظن أنها بانتظاره محض سراب، وبرغم حاجته الماسة إلى مناصرين، لم يخفِ الحسين الخبر، بل أعلم كل من معه، فما كان من كثير منهم إلا أن تخلوا عنه، فهؤلاء تبعوه طمعاً في ثمار نصره، وساعة تبدد هذا الاحتمال تخلوا عنه، وباقي المأساة معلوم. 

بمقياس السياسة المعتاد، لا حنكة فيما فعل الحسين، بمقياس الأخلاق هذه هي المثالية المطلقة، فهل من يتمثل كربلاء لل”مقاومة” يطلب الواقعية أم مثالية الحسين؟ لكن أسئلة كهذه لن يطرحها من يقدم الحركية والحشد على كل اعتبار، فما بالك بمن اعتبر السلاح الخيار الوحيد؟ 

“المقاوم” المنيع ضد النقد

هناك معركة قائمة، وأنت “المقاوم” تقول لمن معك، طالما استطعنا القتال ولم يُقضَ علينا فنحن لم نُهزم، لكن بين “اللا هزيمة” و”النصر” بونٌ شاسع، أيضاً بين الاستعداد للموت في سبيل قضية عادلة، والسير نحو الانتحار الجماعي، فوارق كثيرة، فلا نصر في الفَناء، في مجابهة مع عدوٍ أقوى منك عسكرياً بما لا يقاس. لكن المنطق المعكوس هذا وارد، حين يُقرأ التاريخُ انتقائياً، عدا ما ذكرنا عن كربلاء، شعار جماعة “الإخوان المسلمين” التي منها ولدت “حماس”، يقول: “الله غايتنا، الرسول قدوتنا،  الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”،  التاريخ المُفَترض هنا يقول إن الرسول ومن معه، كان الحرب والسلاح جل ما يفعلون ويحملون، إن لم يكن كله. 

لكن نبي الإسلام، كما يعرف غير المسلم قبل المسلم، كان رجل سياسية عبقرياً، قبل أن يكون رجل حرب، وعرف التراجع مثلما عرف التقدم، وصبر وتَحيّن الفُرص، من ثَم أثره التاريخي الهائل، لكن صورة “الرسول” و”الإسلام” في الإسلام السياسي، غير تلك التي سيجدها دارس التاريخ، الذي لا يسبق هواه قراءته. 

علما أن إنكار الواقع، أو الفهم الانتقائي للتاريخ، ليس قصراً على الإسلام السياسي، مثلاً لا حصراً، سُميت كارثة يونيو/ حزيران 1967 ب”النكسة” لا الهزيمة، فهي، كما قيل، لم تسقط “الزعيم” جمال عبد الناصر، فطالما بقي “الزعيم”؛ الذي خسر كل مواجهاته العسكرية بالمناسبة، بقيت روح القتال و”فشل” العدو، بل إن ذكرى ما يُعرف بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي لم ينهه سوى قرار أميركي- سوفيتي، كان اسمه “عيد النصر”.

 لكن مثلما المعيار بقاء “حزب الله” و”حماس” و”فشل” العدو، فإن بقاء عبد الناصر وفشل خطة “العدو” اُعتبر “نصراً”. 

من ناحية، يبقى فارقٌ بين هذا “الانتقاء” القومي ونظيره الإسلاموي: الأول لا يدعي القداسة المطلقة، أما الثاني فلا يتوقف عندها، بل يقدم نفسه باباً للجنة، ومن ناحية أخرى، يتساوى الاثنان في اختزال الواقع في “المقاومة”، واعتبار الجماعة حيةً ما دامت تقاتل، بينما الفرد، طبعاً، لا قيمة له، أما إسرائيل فلم يُلقها عبد الناصر في البحر، حسب تعبيره، ولا هي اليوم قيد الزوال، كما يرى مشعل؛ ولو كنا رأينا الواقع على ما هو مع الأول، ربما لم نكن لنسمع الثاني. 

على عكس ما يرى قادة “حماس”، ما استجلب التعاطف لمأساة الفلسطينيين كان رد الفعل الإسرائيلي شديد التوحش، لا ما جرى يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. 

إسرائيل كانت عدوة نفسها الأخطر في الشهور الماضية، إذ بددت قدرتها المعتادة على ادعاء المظلومية، أمام عالم يرى مذبحةً مفتوحة، في بثٍ حي، بينما يسمع لغةَ أمثال سموتريتش وبن غفير.  

قوة الفلسطيني في مظلوميته، لا في  انتصارات وهمية، ولا في تاريخٍ مبتسر، وشركاؤه الأهم مجتمعاتٍ وحركاتٍ تنادي بحقه سلمياً في الشارع،  صحيح؛ أن مقاومة الاحتلال حق مشروع؛ إن لم تكن واجباً مقدساً، لكن لا هي تقتصر على السلاح، ولا هي رخصة لمصادرة إرادة الناس، أو الاستخفاف بعذاباتهم  وحيواتهم في وجه عدوٍ فاجر التوحش. 

02.07.2024
زمن القراءة: 8 minutes

مفهوم “المقاومة” الذي تتبناه الميلشيات في الشرق الأوسط، ذو علاقة وطيدة مع المظلوميّة و”النصر الإلهي”، الذي تتبناه “حماس” و”حزب الله”، على رغم الخسائر البشرية والمادية الفادحة، التي تلحق بلبنان وقطاع غزة.

في مراسلات مع قادة حركة “حماس” خارج غزة، طبقاً لتقريرٍ نشرته جريدة “وول ستريت جورنال” الأميركية في 10 يونيو/حزيران الماضي؛ استلهم يحيى السنوار قائد الحركة في غزة، حرب التحرير الجزائرية وشهداءها المليون، وكربلاء التي شهدت مقتل حفيد النبي محمد، الإمام الحسين، مع كل أنصاره ورجال عائلته (عدا واحد) عام 680 ميلادية. 

في هذه الرسائل، يعتبر السنوار حركته منتصرة، إذ، حسب ما نسب إليه، حشرت إسرائيل في كارثة علاقات عامة، وأفشلت خططها للقضاء على الحركة.

 “حماس” كذّبت التقرير، لكن، سواء صدقت  “وول ستريت جورنال” أَم لا، ففي لغتها عموماً، لا وزن يُذكر لمعاناة أهل غزة، الذين خسروا خلال تسعة أشهر، عشرات الآلاف من الأرواح، وتخطت الإصابات بينهم المائة ألف، ناهيك بالدمار الهائل والمجاعة المحدقة، في وجه آلة حربٍ إسرائيلية، لا تفعل إلا المزيد مما هو معتاد من قتل عشوائي وعقاب جماعي، وتستخدم “حماس” أيضاً، منطقاً معتاداً من ذلك. 

الاستعداد للموت !

في ندوة مع مركز “الزيتونة” للدراسات والاستشارات في بيرو ت يوم الأربعاء 26 يونيو/حزيران الماضي، تحدث خالد مشعل رئيس “حماس” في الخارج وقائدها التاريخي، عن القتال الجاري: ” الذين كانوا خارج المعركة، وينتظرون هزيمة المقاومة، ماذا سيكون وزنهم بعد انتهاء طوفان الأقصى وانتصار المقاومة في غزة؟”، وبما أن “النصر” قد تحقق بالفعل؛ حسب مشعل، فإن”خيارات المواجهة مع الكيان الإسرائيلي ومقاومته، أثبتت أنها هي التي تربكه وتضعفه، بعكس ما ادّعى أنصار…التسوية السلمية”. 

وأردف مشعل “البعض يقول إن أثمان المقاومة كبيرة، وهذا صحيح، فغزة تدمرت،  لكن، منذ متى كان التحرير وكانت المقاومة وإنجاز الأهداف الوطنية، بدون أثمان؟”، مضيفاً  أنه وبعد “طوفان الأقصى “هذه المعركة (التي) غيّرت كل عناصر المشهد…وحركت السكون الذي كان حاصلاً للقضية الفلسطينية، ووضعت القضية الفلسطينية في مكانة متقدمة في التعاطف والاهتمام العالميين”، فإن “السيناريو الأقرب للتحقق، هو انهيار هذا الكيان وتفككه…وربما رفع اليد الدولية عنه…وربما انهياره مرةً واحدة”.

  لا شك في إخلاص مشعل في ما قال، هو الذي تعرض لمحاولة اغتيال إسرائيلية بالسم في الأردن، كادت تودي بحياته عام 1997، لكن واقعية منطقه أمر آخر. 

الاستعداد للموت من أجل القضية وتقديم الأقربين لها، حاضران أيضاً عند إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي ل”حماس”، فبعد استشهاد أخته مع عائلتها أواخر يونيو/ حزيران الماضي، علماً أنه فقد العشرات من أسرته قبل ذلك، بمن فيهم أبناء وأحفاد، كتب “لا يسعني إلا أن أزف هذه الكوكبة الجديدة من شهداء العائلة”، هنية أعلن تكراراً أن خسارته أفراد عائلته لن يؤثر في موقفه.

 موقف هنية هذا، يعكس منظوراً يتناغم مع ما نقلناه عن مشعل، وما نُسب إلى السنوار. 

في أغسطس/ آب 2014، احتفالا بـ”النصر” في عملية “العصف المأكول”،  قال هنية إن “انتصار المقاومة في غزة، يرسم الطريق  نحو…الأقصى…ويعبد الطريق  لعودة…اللاجئين إلى أرضهم”،  لم يتوقف هنية عند وصف ما جرى ب”النصر” بل قال إن “رجال المقاومة  كانوا يلعبون بجنود الاحتلال من أسر  وخطفٍ وقتل”، قبل أن يتوعد في نهاية خطابه، بأن المعركة القادمة ستكون في القدس، علماً أن حصيلة عملية “العصف المأكول”، التي استمرت 51 يوماً، كان أكثر من ألفين ومائة قتيل فلسطيني، وخمسة أضعاف هذا الرقم من الجرحى، مقابل اثنين وسبعين قتيلاً إسرائيلياً، وعشرة أمثالهم من الجرحى. 

و قبل أربعة عشر عاماً من “طوفان الأقصى” وست سنوات من “العصف المأكول”،  نشبت إحدى دورات العنف هذه، بين “حماس” وإسرائيل “معركة الفرقان”، حسب “حماس”، بين ديسمبر/ كانون الأول 2008 ويناير/ كانون الثاني 2009، النتيجة كانت ثلاثة عشر قتيلاً إسرائيلياً، بينهم من سقط بنيرانٍ صديقة، وما يزيد على ألف وثلاثمائة فلسطيني، الغالبية الكاسحة منهم، كما الحال اليوم، من غير المقاتلين، أي أن معدل القتلى كان إسرائيلياً واحداً لأكثر من مائة فلسطيني. 

هنية، رئيس وزراء “حماس” آنذاك، أعلن “نصر حماس” في المعركة، مُعرّفاً “النصر” بفشل مخطط إسرائيل في القضاء على “حماس” في القطاع.

ما هي الهزيمة ؟

 من جهة؛ “انتصارات” كهذه تجبرنا على التساؤل: ما الهزيمة إذاً؟ وإن عرّفنا مجرد إفشال مخطط العدو نصراً (لاحظ التعريف السلبي) فهل هناك إمكانية لنصرٍ له تعريفٌ إيجابي لا يمط المنطق؟ ومن جهة أخرى، في ضوء ما خبره كل من ابتُلي بجيرة إسرائيل، من خَططَ للسابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لم يكن له إلا أن يتوقع غير ما رأينا في الأشهر التسعة الماضية من إجرامٍ وتوحش صهيونيين، خاصةً مع حكومة هي الأكثر تطرفاً ويمينيةً في تاريخ إسرائيل.  

لكن لا أحد، في ما يبدو، أحذ ذلك في الحسبان، بل، كما رأينا في كلام مشعل، “حماس” أعلنت النصر بالفعل. 

لا جديد هنا، لا من “حماس” ولا من غيرها، ألم يعلن “حزب الله” ما جرى في 2006 “نصراً إلهياً” رغم أن خسائره وخسائر لبنان في الأرواح، كانت أكثر من ست مرات من خسائر إسرائيل؟ وبالرغم من دمارٍ هائل للبنية التحتية للبلاد؟ وبرغم أن الحرب انتهت بقرار (1701) لمجلس الأمن، الذي دعا إلى نزع سلاح “حزب الله”، وحمله مسؤولية الحرب؟ وفرض حصاراً دولياً لتقييد تسليحه؟ 

لكن لغة المطلقات تتعالى على الواقع، ثم تعمى عنه، حتى وإن كان عدد القتلى الإسرائيليين مقابل القتلى من غزة، واحداً لأربعين، بعد تسعة أشهر من المجزرةٍ  المفتوحة، لكن لأنه مؤمن أنه “انتصر” في 2006، يلوّح  “حزب الله” اليوم بحرب أخرى، سيخرج منها “منتصراً” طبعاً. 

كربلاء، التي ادعى تقرير “وول ستريت جورنال” أن  السنوار وصفها مثالاً يُحتذى، يستلهمها السنةُ كما الشيعة، وإن كانت لقلوب الشيعة أقرب، ذكراها السنوية؛ يوم عاشوراء، محورية، خاصةً لكل تنظيم ينتسب إلى التشيع الاثني عشري. 

هل “كل أرض كربلاء”؟ 

الجمهورية الإسلامية في إيران، تحت حكم مؤسسها الخميني، استفادت من شعار “كل أرضٍ كربلاء وكل يوم عاشوراء”؛ الذي لا يُعرف تاريخ ظهوره عند الشيعة، لتجعل المعركة أبدية، لا يحدها مكان، وإن كان الإمام الحسين قد مضى إلى شهادته، فعلى سبيله يسير أتباعه المخلصون.

 من ثم، مثلاً لا حصراً، شعار “لن تُسبى زينب مرتين” الذي أطلقه الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله لتفسير دعمه لنظام بشار الأسد، قبل بضع سنوات، استذكاراً لما عانته السيدة زينب بعد مقتل أخيها الحسين في كربلاء، وفي إشارة إلى ما قد تفعله منظمات سنية تنتمي إلى السلفية- الجهادية، بضريح السيدة زينب في سوريا؛ المكان المقدس عن الشيعة. 

علماً أن نصر الله لم يرَ تناقضاً بين دعم بشار الأسد ونهج الحسين، الذي تُجمع الروايات التاريخية أنه خرج ضد طاغية فاسد، لكن من يوظف التاريخ في السياسة، لن يراه إلا بنصف عين.

 كما يسمع كل اثني عشري  في روايات “مجالس العزاء الحسينية” كل عام، وكما يعرف كل من يقرأ النصوص التي تروي ما جرى في كربلاء، حين أيقن الحسين أن الأمويين عازمون على قتله، طلب ممن معه تركه ليواجه مصيره وحيداً: “هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي”، هكذا، حسب الرواية الشائعة، خاطب الحسين أصحابه. 

لكن هؤلاء، هم وأهل بيته، رفضوا، وآثروا البقاء معه، لهذا يقام لهم “مجلس عزاء” باسمهم: “أصحاب الحسين”، لا لأنهم قاتلوا فقط، بل لأنهم اختاروا بكامل إرادتهم الموت مع إمامهم، لكن لا “حزب الله” ولا “حماس” يستشيران أحداً في ما يفعلون.

يدعي “المقاومون” الأخلاقية المطلقة، بل إن كلمة “المقاومة” يُفترض أن تُخرس كل مسائلة، لكن، قصة كربلاء تطرح أسئلةً أخرى، خلال رحلة الحسين من الحجاز إلى الكوفة في العراق، حيث وُعد بجيش ٍيترقب وصوله، تبعه كُثرُ اعتقاداً بنصره، لكن في الطريق وصله خبر مقتل رسوله إلى الكوفة، وما عناه ذلك من أن “الجنود المجندة” التي ظن أنها بانتظاره محض سراب، وبرغم حاجته الماسة إلى مناصرين، لم يخفِ الحسين الخبر، بل أعلم كل من معه، فما كان من كثير منهم إلا أن تخلوا عنه، فهؤلاء تبعوه طمعاً في ثمار نصره، وساعة تبدد هذا الاحتمال تخلوا عنه، وباقي المأساة معلوم. 

بمقياس السياسة المعتاد، لا حنكة فيما فعل الحسين، بمقياس الأخلاق هذه هي المثالية المطلقة، فهل من يتمثل كربلاء لل”مقاومة” يطلب الواقعية أم مثالية الحسين؟ لكن أسئلة كهذه لن يطرحها من يقدم الحركية والحشد على كل اعتبار، فما بالك بمن اعتبر السلاح الخيار الوحيد؟ 

“المقاوم” المنيع ضد النقد

هناك معركة قائمة، وأنت “المقاوم” تقول لمن معك، طالما استطعنا القتال ولم يُقضَ علينا فنحن لم نُهزم، لكن بين “اللا هزيمة” و”النصر” بونٌ شاسع، أيضاً بين الاستعداد للموت في سبيل قضية عادلة، والسير نحو الانتحار الجماعي، فوارق كثيرة، فلا نصر في الفَناء، في مجابهة مع عدوٍ أقوى منك عسكرياً بما لا يقاس. لكن المنطق المعكوس هذا وارد، حين يُقرأ التاريخُ انتقائياً، عدا ما ذكرنا عن كربلاء، شعار جماعة “الإخوان المسلمين” التي منها ولدت “حماس”، يقول: “الله غايتنا، الرسول قدوتنا،  الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”،  التاريخ المُفَترض هنا يقول إن الرسول ومن معه، كان الحرب والسلاح جل ما يفعلون ويحملون، إن لم يكن كله. 

لكن نبي الإسلام، كما يعرف غير المسلم قبل المسلم، كان رجل سياسية عبقرياً، قبل أن يكون رجل حرب، وعرف التراجع مثلما عرف التقدم، وصبر وتَحيّن الفُرص، من ثَم أثره التاريخي الهائل، لكن صورة “الرسول” و”الإسلام” في الإسلام السياسي، غير تلك التي سيجدها دارس التاريخ، الذي لا يسبق هواه قراءته. 

علما أن إنكار الواقع، أو الفهم الانتقائي للتاريخ، ليس قصراً على الإسلام السياسي، مثلاً لا حصراً، سُميت كارثة يونيو/ حزيران 1967 ب”النكسة” لا الهزيمة، فهي، كما قيل، لم تسقط “الزعيم” جمال عبد الناصر، فطالما بقي “الزعيم”؛ الذي خسر كل مواجهاته العسكرية بالمناسبة، بقيت روح القتال و”فشل” العدو، بل إن ذكرى ما يُعرف بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي لم ينهه سوى قرار أميركي- سوفيتي، كان اسمه “عيد النصر”.

 لكن مثلما المعيار بقاء “حزب الله” و”حماس” و”فشل” العدو، فإن بقاء عبد الناصر وفشل خطة “العدو” اُعتبر “نصراً”. 

من ناحية، يبقى فارقٌ بين هذا “الانتقاء” القومي ونظيره الإسلاموي: الأول لا يدعي القداسة المطلقة، أما الثاني فلا يتوقف عندها، بل يقدم نفسه باباً للجنة، ومن ناحية أخرى، يتساوى الاثنان في اختزال الواقع في “المقاومة”، واعتبار الجماعة حيةً ما دامت تقاتل، بينما الفرد، طبعاً، لا قيمة له، أما إسرائيل فلم يُلقها عبد الناصر في البحر، حسب تعبيره، ولا هي اليوم قيد الزوال، كما يرى مشعل؛ ولو كنا رأينا الواقع على ما هو مع الأول، ربما لم نكن لنسمع الثاني. 

على عكس ما يرى قادة “حماس”، ما استجلب التعاطف لمأساة الفلسطينيين كان رد الفعل الإسرائيلي شديد التوحش، لا ما جرى يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. 

إسرائيل كانت عدوة نفسها الأخطر في الشهور الماضية، إذ بددت قدرتها المعتادة على ادعاء المظلومية، أمام عالم يرى مذبحةً مفتوحة، في بثٍ حي، بينما يسمع لغةَ أمثال سموتريتش وبن غفير.  

قوة الفلسطيني في مظلوميته، لا في  انتصارات وهمية، ولا في تاريخٍ مبتسر، وشركاؤه الأهم مجتمعاتٍ وحركاتٍ تنادي بحقه سلمياً في الشارع،  صحيح؛ أن مقاومة الاحتلال حق مشروع؛ إن لم تكن واجباً مقدساً، لكن لا هي تقتصر على السلاح، ولا هي رخصة لمصادرة إرادة الناس، أو الاستخفاف بعذاباتهم  وحيواتهم في وجه عدوٍ فاجر التوحش. 

02.07.2024
زمن القراءة: 8 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية