fbpx

 جنديّ إسرئيليّ عارياً في غزّة… استراتيجيات الدعاية الإباحيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لعبت الصناعة الإباحية والمحتوى الإباحي الهاوي والمحترف دوراً لا يمكن تجاهله في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إذ لم تكتفِ بعض شركات الإباحية بتقديم الدعم للجيش الإسرائيلي، بل ساهم المحتوى الإباحي في رسم متخيل انتهاكي عن الجنود الإسرائيليين وعلاقتهم مع ساحة المعركة والضحايا الغزيين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أفادت وثائق مسربة من لوبي AIPAC في الولايات المتحدة الأميركية، بأن  ليونيد رادينفسكي صاحب منصة “أونلي فانز” للإباحية الهاوية، تبرع بمبلغ 11 مليون دولار، ليكون هذا ثاني أكبر تبرع يحصل عليه اللوبي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

أنكر رادينفسكي التبرع قائلاً إنه “لا هو ولا زوجته ولا شركته” قدموا نقوداً للوبي، في حين أشارت الوثائق إلى تحويلة بنكيّة صادرة من حساب زوجته إلى حساب اللوبي البنكي، اللوبي ذاته الذي  نجح بعد ضخّ 15 مليون دولار في الانتخابات النيابيّة الأميركيّة، في الإطاحة بالمرشح الديموقراطيّ جمال بومان، الذي يدين حرب إسرائيل على غزة، ويصفها بـ”الإبادة الجماعيّة”.

نشير إلى هذه الحادثة كعتبة لفهم علاقة صناعة البورنوغرافيا والمحتوى البورنوغرافيّ بالجيش الإسرائيلي والحرب على غزّة، إذ لا يخفى على أحد، مشاركة ممثلين إباحيين إسرائيليين في كتابة أسمائهم على الصواريخ التي ترسل إلى غزة، مثل مايكل لوكاس، صاحب شركة “لوكاس إنترتاينمت” لإنتاج الأفلام الإباحية المثليّة، وأشهرها “رجال إسرائيل-2009”.

المخيلة البورنوغرافية لم تتوانَ أيضاً عن الاستفادة من الحرب و”المعركة”، إذ انتشرت مجموعة من الصور المولدة بالذكاء الصناعي في 10 تشرين الأول 2023، أي بعد 3 أيام من هجوم “حماس”، تحت عنوان “وُجد في غزّة”.

لا تتضح من الصور بدقة، طبيعة توزع القوى، هل نحن أمام جنود إسرائيليين ونساء غزيات معتقلات أم العكس؟ أم أمام مقاتلين من “القسام” يأسرون إسرائيليات؟ لكن  اللافت في الصور هو الزي العسكري، والمسلحون بوصفهم أشبه بممثلين إباحيين، غرض شهوتهم هو جسد المرأة؛ التي لا يتضح أيضاً إن كانت أسيرة أم مقاتلة، نحن أمام أجساد ناصعة ونظيفة، خالية من أية جروح أو علامات الانهماك في الحرب، وأشبه بصور الإعلانات أو البوسترات الإباحية، المصممة لخلق صورة فائقة الواقعيّة، خالية من العيوب، تخاطب الرغبة بشكلها الاصطناعيّ والاستهلاكي البحت.

الظاهرة الإباحيّة والحروب الإسرائيليّة

حضور الظاهرة الإباحية أثناء الحروب الإسرائيليّة ليس بالشأن الجديد، ففي عام 2004، بالتزامن مع عملية “أيام الغضب” شمال قطاع غزة، أصدرت شركة “فيفيد” الإباحية، فيلماً إباحياً بعنوان “شريط غزة”، يمتد لـ240 دقيقة.

 جاء في وصف الفيلم: “حريمكم أو حريمنا؟ 4 ساعات من النساء بالبرقع يمارسن الجنس، نساء جميلات يعلمن الغرب كيف يتم الأمر!”، الشريط بالطبع ينتمي إلى حقبة ما قبل البورنوغرافيا الهاوية، ويحوي متخيلاً استشراقياً، لا تشابه فيه الأجساد والحكايات ما يدور في المنطقة.

في الحرب الحاليّة، وبسبب تغير طبيعة العصر، نجد أنفسنا أمام الإباحية الهاوية، كأن تترك عارضة “أونلي فانز” ناتالي فيدييف “مهنتها”، لتنضم إلى الجيش الإسرائيلي وتنشر صورها من “الجبهة” بالزيّ العسكريّ، أو إطلاق حملة “أنا أقف مع جيش الدفاع” القائمة على أساس إرسال فتيات صوراً عارية لهن، إلى الجنود الإسرائيليين لـ”رفع معنوياتهم”.

هذا الترويج للحرية حد الإباحيّة، جزء من سياسة أوسع ترتبط بصورة إسرائيل، كـ”واحة في الشرق الأوسط” و”جنة المثليين” وشواطئ العراة، هي محاولة لترسيخ اختلاف ثقافي وقيمي عن المحيط المتشدد الميليشياوي الإسلاموي (حزب الله، حماس..) والأهم، الإباديّ، المتمثل بالنظام السوري، الذي تحول إلى مضرب مثل لدى السياسيين الإسرائيليين، بوصفه  الأشد وحشيةً، والذي  وضع معياراً جديداً لقوانين الحرب وقتل المدنيين.

غرفة النوم كساحة معركة

الجدل الأبرز في هذه الحرب، كان حول صور الجنود الإسرائيليين، الذين يقتحمون منازل الغزيين ويرتدون ثياب النساء سخريةً ولعباً، في انتهاك لحميميّة غرفة النوم، وإمعان في تدمير الذاكرة الحميميّة لسكان غزة، بوصفها محطّ سخرية ولا تستحق أن تكون خاصة.

“تأنيث” الجسد الرجولي العسكري  بصورة ساخرة في الصور السابقة، يبدو كاستعراض للقوة في البداية، لكنه أيضاً، استعراض لهشاشة الذكورة نفسها وأساليب اللعب عبر قلب الأدوار الجندريّة، وتبني “شكل” الأضعف وأدواته (امرأة غزيّة) للإمعان في السخريّة، وتحويل الحميمي والشخصي إلى شأن علني يحوي صيغة التحقير، واستعراض القدرة على تفكيك المكان وتفتيته بوصفه مباحاً بكليته.

لا بد من الإشارة إلى أن هذه الظاهرة، أي جنود يرتدون ثياب نساء أثناء الحرب، متكررة عبر التاريخ،  إذ نراها مع جنود النظام السوري أثناء اقتحام القرى والمدن السوريّة، لكن الحالة الأوضح نراها  في الصور النادرة للجنود النازيين، إذ يتنكرون ويرتدون ثياب النساء، في استعادة لتقاليد الكرنفال.

لكن، سواء كنا نتحدث عن الكرنفال، أم الجنود أثناء اقتحام منازل المدنيين، هناك ما هو مريب في هذه الظاهرة، كوننا لسنا أمام أداء جندري، بل قلب للأدوار في سخرية منها، وانتهاكها وتدنيسها (وهذا بالضبط هدف الكرنفال) عبر جسد الجندي نفسه، صاحب سلطة القتل، ليتحول الوقت خارج الاشتباك، إلى زمن لتهديد صورة الجندي نفسه، وإفقادها لا فقط جديتها، بل سخرية من المؤسسة نفسها وما تحمله من صرامة وانضباط، ما يخلق رعباً لدى من يشاهد الصور، فالجندي لا يكتفي بالقتل تنفيذاً للأوامر، بل هو قادر على “قلب” دوره سخريةً، وانتهاك ما لا أوامر بخصوصه، أي الاحتفال بـ”النصر” عبر التنكر بثياب الضحايا .

صور نادرة لجنود نازيين أثناء الحرب العالميّة الثانية

كل ما سبق يشير إلى إشكالية في الذكورة الجنديّة، صورة الرجل المقاتل، تجد لنفسها قريناً هشاً في التأنيث ضمن سياق اللعب، سواء كان سخريةً أم انتهاكاً، عبر تشويه علامات الذكورة من جهة (الزي الرسمي، السلاح..الخ) وتشويه علامات التأنيث نفسها (الثياب الداخلية، قمصان النوم..) لكن الأهم، وما له أثر سياسيّ، هو خلق الرعب عبر تحويل الفضاء الحميمي (غرفة النوم الغزية  في حالة الجيش الإسرائيلي) إلى أرض للمعركة، وتحويل آثار الضحايا إلى أزياء تنكرية أو علامات على النصر!

وحيداً منتصباً في غزّة

لا ينطبق ما سبق على حالة Paz G، الذي يعرف عن نفسه على حسابه عبر “أونلي فانز” بـ”إسرائيلي، 23 عاماً، جندي، مزارع، عارٍ”، والأخيرة ترجمة لكلمة Nudist، المرتبطة بتيار العراة، فـباز إن أردنا اصطلاح اسمه هكذا، يقدم صورة ساخرة للجندي الإسرائيلي، يحمل جعبة الرصاص بقضيب منتصب في غرفة نومه، ويلتقط صورة لنفسه بزيه العسكري في الثكنة، وأخرى لنفسه  عارياً في الطبيعة.

انتشار صور باز وتحوله إلى “خبر” وعلامة لإدانة الجيش الإسرائيلي،  يحيلان إلى تاريخ توظيف البورنوغرافيا من الجيش الإسرائيلي وتسليحها، كبث أفلام إباحية على التلفزيون الفلسطيني عند اجتياح رام الله عام 2002 (مساحة الأعداء) في حين الحرص على  محاولات تقنين استهلاك البورنوغرافيا داخل إسرائيل من الكنيست عام 2016 ( مساحة المواطنين).

هذه الإشارة إلى الإباحية المرتبطة بالجنود أثناء الحرب الحالية تتضح في ارتفاع مبيعات رواية التشويق الإيروتيكي “في مياه عاصفة” لشارون زوهار، التي يتضح من غلافها أنها تتحدث عن جندية إسرائيلية ضمن فرقة كلها رجال.

 المشكلة أننا إن تابعنا بهذا الخيط من التحليل، نصل إلى نظرية المؤامرة التي تتهم المجتمع الإسرائيلي المتشدد بالهوس بالجنس، كحالة محل الألعاب الجنسية الكوشر، الذي يمتلكها شمولي بوتيك، المدافع بشدة عن إسرائيل وصاحب كتاب “جنس كوشر: وصفة للشغف والحميميّة”.

غلاف رواية “في مياه عاصفة”

نعود إلى صورة الجندي منتصباً، باز  ج، المختلف عن الجندي الذي نراه في أفلام البورنو التي تحمل الموضوعة ذاتها، فنحن أمام جندي حقيقي، يتحول ممن يمسك السلاح بشدة إلى من يقبض على باهه باليد ذاتها، في رهان على صورة الجندي الإسرائيلي كشأن فيتيشي، سواء في تاريخ البورنوغرافيا الذي تتبناه، أو كما نرى في تطبيقات المواعدة حالياً  في إسرائيل، حين يظهر الجنود بزيهم الرسميّ، ضمن ما وصفته هآرتس بـ”أثر الزي العسكري”.

غواية الزي العسكري تتضح في صور الجنود ضمن مساحات الخراب وداخل المنازل المدمّرة، العنف هنا يكتسب جاذبية، كون جسد الجندي بطولياً وانتهاكياً، والأهم دليلاً على السطوة ووطء الأرض، حتى لو كان على حساب الأبرياء.

وظّفت صور باز ج كوسيلة لانتقاد الجيش الإسرائيلي، ضمن سلسلة الاتهامات الموجهة له بعد أكثر من 9 أشهر من الحرب، لكن الإشكاليّة لا تتمثل بأن ينتصب جنديّ، بل في الجبهة نفسها، وتحول مساحة الحرب إلى واحة للأداء الإباحي الفردي، وهذا الاحتمال الذي لا بد من النظر فيه.

لا تعرف المخيلة الشبقيّة حداً، لكن من هو جمهور هذه “المنتجات” ، أي صور باز؟ لا يمكن أن نعرف! لأن  التعليقات على منشورات باز على منصة “أكس” تتراوح بين اتهامات تصفه بـ”القاتل” و”المقرف” و”النازي”، وبين من يطري على جسده، في حين أن بعض المنشورات تبقى من دون أي تعليق، ناهيك بأن الصور نفسها تكشف أننا أمام مراهقة إباحية من نوع ما، لعب على الشبق الشخصي الذي لا يرتقي حداً إلى البروباغندا.

تتضح الإشكالية حين نقرأ اسم حساب الجندي على “أونلي فانز”، مكتوباً على جدار بيت مدمر مع دعوة للاشتراك، نرى أنفسنا  هنا ليس أمام نزع للإنسانية عن غزة كمنطقة تصلح للحياة فقط، بل أيضاً أمام دور المؤسسة الرأسمالية في الكسب، والسعي لتحويل أي مساحة إلى مكان للاستثمار، حتى لو كانت خراباً وحطاماً.

تكشف صورة اسم حساب باز، الوجه الأقبح للرأسماليّة، ورواج “أونلي فانز”  الذي يبلغ رأسماله أكثر من 5 مليارات دولار، كون الشركة تراهن على الاحتمالات الإباحية التي لا نراها في الإنتاجات الرسمية، إذ أتاح للهاوي أن “يستثمر” أينما كان، في غرفته، على الشاطئ، أو في خراب غزة، لنرى أنفسنا أمام سؤال عن الطبيعة الإنسانيّة، سؤال مفاده: “من ذا الذي يستطيع الانتصاب في مساحة الإبادة؟ وبماذا يحلم؟”.

اللافت، أن صوراً مشابهة انتشرت عام 2012، أثناء الحرب على غزة حينها التي سميت “عمود السحاب”، إذ نشر الجندي نسيم عزيز صورة مشابهة لنفسه عارياً أو شبه عار، وهو يرتدي زيه العسكريّ، ضمن ما عرف بسياسة الجيش الإسرائيلي باستخدام “إنستغرام” للترويج لنفسه.

 فُسر ذلك حينها كجزء من سياسة الغسيل الوردي، واستقطاب المثليين من أنحاء العالم، وإخفاء الجرائم المرتكبة، وراء صور مرحة لرجال يلعبون ويمرحون عراة وأنصاف عراة.

تكرار نسق جندي عارٍ في زمن الحروب الإسرائيليّة، سواء عبر العري الكامل أو شبه الكامل، يحمل معنى سياسياً، صورة الجندي التقليديّة تكتسب سطوتها وجاذبيتها من الزي نفسه، وخلع هذا الزي و”اللعب” مع “أدوات الحرب” وكشف الجسد بكامله، محاولة لخلق الاختلاف، بين الفدائي/ الجهادي الملثم خفي الوجه ذي الجسد المستعد لأن يقتل ويشوه، وبين الجندي الإسرائيلي المستعد للتعري والمرح حتى في المعركة ذاتها، في تأكيد متعمد لاختلاف ثقافي عميق بين “الخصمين”.

بين المخيلة الإباحيّة وغموض “أخلاق الجنود”

الاتهامات التي طاولت باز ودوره كجندي في الجيش الإسرائيلي “الأكثر أخلاقية في العالم”، لا تبدو متماسكة أمام المخيلة الإباحيّة التي تستثمر بها الرأسمالية، ونقصد “أونلي فانز”.

 ما نحاول قوله إنه لا أخلاق ولا ضوابط في المخيلة، لكن الإشكالية هي نظام التمثيل، ونقصد الجندي ومساحة  الخراب، اللذين تحولا بسبب شركة “أونلي فانز” وصورة شخصية، إلى مساحة للعب الإباحي، وأضحى المسلح كائناً مرحاً، والمكان المدمّر  تحول إلى ما يشبه لوحة إعلانيّة، ليكون الربح على أساس مخيلة مشتركة جمعيّة ترتبط بالإباحية والعنف، مخيلة نجد آثارها الأكثر دمويّة في زوايا الإنترنت المظلمة، حيث تتحول صور الجثث في سوريا والعراق والعصابات في أميركا الجنوبية إلى منتجات للاستهلاك.

لا يمكن أن ننفي أيضاً، توظيف هذه الممارسات في البروباغندا الإسرائيلية، وهنا يتضح التناقض، ففي عام 2007 قامت أربع جنديات إسرائيليات بالتعري؛ وهن يحملن بنادقهن، وبنشر صورهن، فعوقبن، لأن ذلك لا يمثل “أخلاق الجيش الإسرائيلي”، الأمر ذاته في العام الماضي، حين عوقب جنديان بثا صورهما عاريين، أثناء تمرين على إطلاق النار، أيضاً تحت الحجة ذاتها.

 عبارة “أخلاق الجيش الإسرائيلي” تبدو غامضة في هذه السياقات، فالانتهاكات واللعب الجنسي مباحان مع “الأعداء” وفي “مساحات الأعداء”، لكن حين الحديث عن صورة مؤسسة الجيش الإسرائيلي يختلف الأمر. 

بصورة ما، الجيش الإسرائيلي أخلاقي، بل محافظ، أمام نفسه وأمام المواطنين، لا أمام “الأعداء”، خصوصاً أن الصور والممارسات الإباحيّة المسموحة تحدث”خارج” مساحة إسرائيل المفترضة، حيث قوانين الحرب، لا القوانين التقليديّة.

تبدو المساحة الجغرافية التي يخوض فيها الجيش الإسرائيلي”حرباً” مفتوحة على الاحتمالات كافة، للجنود فيها “حرية” الارتكاب والانتهاك، التي تتراوح بين القتل واللعب الإباحي، كأن “مساحة الحرب” خارج نطاق القانون الإسرائيلي نفسه، الذي يتحرر الجندي منه، فـ”الأعداء” ليسوا بشراً بل “حيوانات”، ومساحة “حياتهم” مفتوحة للاستثمار الرأسمالي والمخيلة الإباحيّة، أثناء فعل القتل وبعده.

هاني عضاضة | 29.06.2024

عن الجندي الإسرائيلي ومسار نزع الأنسنة عن الفلسطينيين

ما الذي يقود عدداً متزايداً من الجنود الإسرائيليين، إلى ارتكاب الفظاعات في غزة وتوثيقها بأنفسهم؟ وأية استراتيجيات تتبعها إسرائيل لتشكيل الذات الإنسانية الإسرائيلية وصوغها، لتنتج هذا النموذج للجندي الذي يرتكب أعمالاً مروعة؟
27.06.2024
زمن القراءة: 8 minutes

لعبت الصناعة الإباحية والمحتوى الإباحي الهاوي والمحترف دوراً لا يمكن تجاهله في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إذ لم تكتفِ بعض شركات الإباحية بتقديم الدعم للجيش الإسرائيلي، بل ساهم المحتوى الإباحي في رسم متخيل انتهاكي عن الجنود الإسرائيليين وعلاقتهم مع ساحة المعركة والضحايا الغزيين.

أفادت وثائق مسربة من لوبي AIPAC في الولايات المتحدة الأميركية، بأن  ليونيد رادينفسكي صاحب منصة “أونلي فانز” للإباحية الهاوية، تبرع بمبلغ 11 مليون دولار، ليكون هذا ثاني أكبر تبرع يحصل عليه اللوبي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

أنكر رادينفسكي التبرع قائلاً إنه “لا هو ولا زوجته ولا شركته” قدموا نقوداً للوبي، في حين أشارت الوثائق إلى تحويلة بنكيّة صادرة من حساب زوجته إلى حساب اللوبي البنكي، اللوبي ذاته الذي  نجح بعد ضخّ 15 مليون دولار في الانتخابات النيابيّة الأميركيّة، في الإطاحة بالمرشح الديموقراطيّ جمال بومان، الذي يدين حرب إسرائيل على غزة، ويصفها بـ”الإبادة الجماعيّة”.

نشير إلى هذه الحادثة كعتبة لفهم علاقة صناعة البورنوغرافيا والمحتوى البورنوغرافيّ بالجيش الإسرائيلي والحرب على غزّة، إذ لا يخفى على أحد، مشاركة ممثلين إباحيين إسرائيليين في كتابة أسمائهم على الصواريخ التي ترسل إلى غزة، مثل مايكل لوكاس، صاحب شركة “لوكاس إنترتاينمت” لإنتاج الأفلام الإباحية المثليّة، وأشهرها “رجال إسرائيل-2009”.

المخيلة البورنوغرافية لم تتوانَ أيضاً عن الاستفادة من الحرب و”المعركة”، إذ انتشرت مجموعة من الصور المولدة بالذكاء الصناعي في 10 تشرين الأول 2023، أي بعد 3 أيام من هجوم “حماس”، تحت عنوان “وُجد في غزّة”.

لا تتضح من الصور بدقة، طبيعة توزع القوى، هل نحن أمام جنود إسرائيليين ونساء غزيات معتقلات أم العكس؟ أم أمام مقاتلين من “القسام” يأسرون إسرائيليات؟ لكن  اللافت في الصور هو الزي العسكري، والمسلحون بوصفهم أشبه بممثلين إباحيين، غرض شهوتهم هو جسد المرأة؛ التي لا يتضح أيضاً إن كانت أسيرة أم مقاتلة، نحن أمام أجساد ناصعة ونظيفة، خالية من أية جروح أو علامات الانهماك في الحرب، وأشبه بصور الإعلانات أو البوسترات الإباحية، المصممة لخلق صورة فائقة الواقعيّة، خالية من العيوب، تخاطب الرغبة بشكلها الاصطناعيّ والاستهلاكي البحت.

الظاهرة الإباحيّة والحروب الإسرائيليّة

حضور الظاهرة الإباحية أثناء الحروب الإسرائيليّة ليس بالشأن الجديد، ففي عام 2004، بالتزامن مع عملية “أيام الغضب” شمال قطاع غزة، أصدرت شركة “فيفيد” الإباحية، فيلماً إباحياً بعنوان “شريط غزة”، يمتد لـ240 دقيقة.

 جاء في وصف الفيلم: “حريمكم أو حريمنا؟ 4 ساعات من النساء بالبرقع يمارسن الجنس، نساء جميلات يعلمن الغرب كيف يتم الأمر!”، الشريط بالطبع ينتمي إلى حقبة ما قبل البورنوغرافيا الهاوية، ويحوي متخيلاً استشراقياً، لا تشابه فيه الأجساد والحكايات ما يدور في المنطقة.

في الحرب الحاليّة، وبسبب تغير طبيعة العصر، نجد أنفسنا أمام الإباحية الهاوية، كأن تترك عارضة “أونلي فانز” ناتالي فيدييف “مهنتها”، لتنضم إلى الجيش الإسرائيلي وتنشر صورها من “الجبهة” بالزيّ العسكريّ، أو إطلاق حملة “أنا أقف مع جيش الدفاع” القائمة على أساس إرسال فتيات صوراً عارية لهن، إلى الجنود الإسرائيليين لـ”رفع معنوياتهم”.

هذا الترويج للحرية حد الإباحيّة، جزء من سياسة أوسع ترتبط بصورة إسرائيل، كـ”واحة في الشرق الأوسط” و”جنة المثليين” وشواطئ العراة، هي محاولة لترسيخ اختلاف ثقافي وقيمي عن المحيط المتشدد الميليشياوي الإسلاموي (حزب الله، حماس..) والأهم، الإباديّ، المتمثل بالنظام السوري، الذي تحول إلى مضرب مثل لدى السياسيين الإسرائيليين، بوصفه  الأشد وحشيةً، والذي  وضع معياراً جديداً لقوانين الحرب وقتل المدنيين.

غرفة النوم كساحة معركة

الجدل الأبرز في هذه الحرب، كان حول صور الجنود الإسرائيليين، الذين يقتحمون منازل الغزيين ويرتدون ثياب النساء سخريةً ولعباً، في انتهاك لحميميّة غرفة النوم، وإمعان في تدمير الذاكرة الحميميّة لسكان غزة، بوصفها محطّ سخرية ولا تستحق أن تكون خاصة.

“تأنيث” الجسد الرجولي العسكري  بصورة ساخرة في الصور السابقة، يبدو كاستعراض للقوة في البداية، لكنه أيضاً، استعراض لهشاشة الذكورة نفسها وأساليب اللعب عبر قلب الأدوار الجندريّة، وتبني “شكل” الأضعف وأدواته (امرأة غزيّة) للإمعان في السخريّة، وتحويل الحميمي والشخصي إلى شأن علني يحوي صيغة التحقير، واستعراض القدرة على تفكيك المكان وتفتيته بوصفه مباحاً بكليته.

لا بد من الإشارة إلى أن هذه الظاهرة، أي جنود يرتدون ثياب نساء أثناء الحرب، متكررة عبر التاريخ،  إذ نراها مع جنود النظام السوري أثناء اقتحام القرى والمدن السوريّة، لكن الحالة الأوضح نراها  في الصور النادرة للجنود النازيين، إذ يتنكرون ويرتدون ثياب النساء، في استعادة لتقاليد الكرنفال.

لكن، سواء كنا نتحدث عن الكرنفال، أم الجنود أثناء اقتحام منازل المدنيين، هناك ما هو مريب في هذه الظاهرة، كوننا لسنا أمام أداء جندري، بل قلب للأدوار في سخرية منها، وانتهاكها وتدنيسها (وهذا بالضبط هدف الكرنفال) عبر جسد الجندي نفسه، صاحب سلطة القتل، ليتحول الوقت خارج الاشتباك، إلى زمن لتهديد صورة الجندي نفسه، وإفقادها لا فقط جديتها، بل سخرية من المؤسسة نفسها وما تحمله من صرامة وانضباط، ما يخلق رعباً لدى من يشاهد الصور، فالجندي لا يكتفي بالقتل تنفيذاً للأوامر، بل هو قادر على “قلب” دوره سخريةً، وانتهاك ما لا أوامر بخصوصه، أي الاحتفال بـ”النصر” عبر التنكر بثياب الضحايا .

صور نادرة لجنود نازيين أثناء الحرب العالميّة الثانية

كل ما سبق يشير إلى إشكالية في الذكورة الجنديّة، صورة الرجل المقاتل، تجد لنفسها قريناً هشاً في التأنيث ضمن سياق اللعب، سواء كان سخريةً أم انتهاكاً، عبر تشويه علامات الذكورة من جهة (الزي الرسمي، السلاح..الخ) وتشويه علامات التأنيث نفسها (الثياب الداخلية، قمصان النوم..) لكن الأهم، وما له أثر سياسيّ، هو خلق الرعب عبر تحويل الفضاء الحميمي (غرفة النوم الغزية  في حالة الجيش الإسرائيلي) إلى أرض للمعركة، وتحويل آثار الضحايا إلى أزياء تنكرية أو علامات على النصر!

وحيداً منتصباً في غزّة

لا ينطبق ما سبق على حالة Paz G، الذي يعرف عن نفسه على حسابه عبر “أونلي فانز” بـ”إسرائيلي، 23 عاماً، جندي، مزارع، عارٍ”، والأخيرة ترجمة لكلمة Nudist، المرتبطة بتيار العراة، فـباز إن أردنا اصطلاح اسمه هكذا، يقدم صورة ساخرة للجندي الإسرائيلي، يحمل جعبة الرصاص بقضيب منتصب في غرفة نومه، ويلتقط صورة لنفسه بزيه العسكري في الثكنة، وأخرى لنفسه  عارياً في الطبيعة.

انتشار صور باز وتحوله إلى “خبر” وعلامة لإدانة الجيش الإسرائيلي،  يحيلان إلى تاريخ توظيف البورنوغرافيا من الجيش الإسرائيلي وتسليحها، كبث أفلام إباحية على التلفزيون الفلسطيني عند اجتياح رام الله عام 2002 (مساحة الأعداء) في حين الحرص على  محاولات تقنين استهلاك البورنوغرافيا داخل إسرائيل من الكنيست عام 2016 ( مساحة المواطنين).

هذه الإشارة إلى الإباحية المرتبطة بالجنود أثناء الحرب الحالية تتضح في ارتفاع مبيعات رواية التشويق الإيروتيكي “في مياه عاصفة” لشارون زوهار، التي يتضح من غلافها أنها تتحدث عن جندية إسرائيلية ضمن فرقة كلها رجال.

 المشكلة أننا إن تابعنا بهذا الخيط من التحليل، نصل إلى نظرية المؤامرة التي تتهم المجتمع الإسرائيلي المتشدد بالهوس بالجنس، كحالة محل الألعاب الجنسية الكوشر، الذي يمتلكها شمولي بوتيك، المدافع بشدة عن إسرائيل وصاحب كتاب “جنس كوشر: وصفة للشغف والحميميّة”.

غلاف رواية “في مياه عاصفة”

نعود إلى صورة الجندي منتصباً، باز  ج، المختلف عن الجندي الذي نراه في أفلام البورنو التي تحمل الموضوعة ذاتها، فنحن أمام جندي حقيقي، يتحول ممن يمسك السلاح بشدة إلى من يقبض على باهه باليد ذاتها، في رهان على صورة الجندي الإسرائيلي كشأن فيتيشي، سواء في تاريخ البورنوغرافيا الذي تتبناه، أو كما نرى في تطبيقات المواعدة حالياً  في إسرائيل، حين يظهر الجنود بزيهم الرسميّ، ضمن ما وصفته هآرتس بـ”أثر الزي العسكري”.

غواية الزي العسكري تتضح في صور الجنود ضمن مساحات الخراب وداخل المنازل المدمّرة، العنف هنا يكتسب جاذبية، كون جسد الجندي بطولياً وانتهاكياً، والأهم دليلاً على السطوة ووطء الأرض، حتى لو كان على حساب الأبرياء.

وظّفت صور باز ج كوسيلة لانتقاد الجيش الإسرائيلي، ضمن سلسلة الاتهامات الموجهة له بعد أكثر من 9 أشهر من الحرب، لكن الإشكاليّة لا تتمثل بأن ينتصب جنديّ، بل في الجبهة نفسها، وتحول مساحة الحرب إلى واحة للأداء الإباحي الفردي، وهذا الاحتمال الذي لا بد من النظر فيه.

لا تعرف المخيلة الشبقيّة حداً، لكن من هو جمهور هذه “المنتجات” ، أي صور باز؟ لا يمكن أن نعرف! لأن  التعليقات على منشورات باز على منصة “أكس” تتراوح بين اتهامات تصفه بـ”القاتل” و”المقرف” و”النازي”، وبين من يطري على جسده، في حين أن بعض المنشورات تبقى من دون أي تعليق، ناهيك بأن الصور نفسها تكشف أننا أمام مراهقة إباحية من نوع ما، لعب على الشبق الشخصي الذي لا يرتقي حداً إلى البروباغندا.

تتضح الإشكالية حين نقرأ اسم حساب الجندي على “أونلي فانز”، مكتوباً على جدار بيت مدمر مع دعوة للاشتراك، نرى أنفسنا  هنا ليس أمام نزع للإنسانية عن غزة كمنطقة تصلح للحياة فقط، بل أيضاً أمام دور المؤسسة الرأسمالية في الكسب، والسعي لتحويل أي مساحة إلى مكان للاستثمار، حتى لو كانت خراباً وحطاماً.

تكشف صورة اسم حساب باز، الوجه الأقبح للرأسماليّة، ورواج “أونلي فانز”  الذي يبلغ رأسماله أكثر من 5 مليارات دولار، كون الشركة تراهن على الاحتمالات الإباحية التي لا نراها في الإنتاجات الرسمية، إذ أتاح للهاوي أن “يستثمر” أينما كان، في غرفته، على الشاطئ، أو في خراب غزة، لنرى أنفسنا أمام سؤال عن الطبيعة الإنسانيّة، سؤال مفاده: “من ذا الذي يستطيع الانتصاب في مساحة الإبادة؟ وبماذا يحلم؟”.

اللافت، أن صوراً مشابهة انتشرت عام 2012، أثناء الحرب على غزة حينها التي سميت “عمود السحاب”، إذ نشر الجندي نسيم عزيز صورة مشابهة لنفسه عارياً أو شبه عار، وهو يرتدي زيه العسكريّ، ضمن ما عرف بسياسة الجيش الإسرائيلي باستخدام “إنستغرام” للترويج لنفسه.

 فُسر ذلك حينها كجزء من سياسة الغسيل الوردي، واستقطاب المثليين من أنحاء العالم، وإخفاء الجرائم المرتكبة، وراء صور مرحة لرجال يلعبون ويمرحون عراة وأنصاف عراة.

تكرار نسق جندي عارٍ في زمن الحروب الإسرائيليّة، سواء عبر العري الكامل أو شبه الكامل، يحمل معنى سياسياً، صورة الجندي التقليديّة تكتسب سطوتها وجاذبيتها من الزي نفسه، وخلع هذا الزي و”اللعب” مع “أدوات الحرب” وكشف الجسد بكامله، محاولة لخلق الاختلاف، بين الفدائي/ الجهادي الملثم خفي الوجه ذي الجسد المستعد لأن يقتل ويشوه، وبين الجندي الإسرائيلي المستعد للتعري والمرح حتى في المعركة ذاتها، في تأكيد متعمد لاختلاف ثقافي عميق بين “الخصمين”.

بين المخيلة الإباحيّة وغموض “أخلاق الجنود”

الاتهامات التي طاولت باز ودوره كجندي في الجيش الإسرائيلي “الأكثر أخلاقية في العالم”، لا تبدو متماسكة أمام المخيلة الإباحيّة التي تستثمر بها الرأسمالية، ونقصد “أونلي فانز”.

 ما نحاول قوله إنه لا أخلاق ولا ضوابط في المخيلة، لكن الإشكالية هي نظام التمثيل، ونقصد الجندي ومساحة  الخراب، اللذين تحولا بسبب شركة “أونلي فانز” وصورة شخصية، إلى مساحة للعب الإباحي، وأضحى المسلح كائناً مرحاً، والمكان المدمّر  تحول إلى ما يشبه لوحة إعلانيّة، ليكون الربح على أساس مخيلة مشتركة جمعيّة ترتبط بالإباحية والعنف، مخيلة نجد آثارها الأكثر دمويّة في زوايا الإنترنت المظلمة، حيث تتحول صور الجثث في سوريا والعراق والعصابات في أميركا الجنوبية إلى منتجات للاستهلاك.

لا يمكن أن ننفي أيضاً، توظيف هذه الممارسات في البروباغندا الإسرائيلية، وهنا يتضح التناقض، ففي عام 2007 قامت أربع جنديات إسرائيليات بالتعري؛ وهن يحملن بنادقهن، وبنشر صورهن، فعوقبن، لأن ذلك لا يمثل “أخلاق الجيش الإسرائيلي”، الأمر ذاته في العام الماضي، حين عوقب جنديان بثا صورهما عاريين، أثناء تمرين على إطلاق النار، أيضاً تحت الحجة ذاتها.

 عبارة “أخلاق الجيش الإسرائيلي” تبدو غامضة في هذه السياقات، فالانتهاكات واللعب الجنسي مباحان مع “الأعداء” وفي “مساحات الأعداء”، لكن حين الحديث عن صورة مؤسسة الجيش الإسرائيلي يختلف الأمر. 

بصورة ما، الجيش الإسرائيلي أخلاقي، بل محافظ، أمام نفسه وأمام المواطنين، لا أمام “الأعداء”، خصوصاً أن الصور والممارسات الإباحيّة المسموحة تحدث”خارج” مساحة إسرائيل المفترضة، حيث قوانين الحرب، لا القوانين التقليديّة.

تبدو المساحة الجغرافية التي يخوض فيها الجيش الإسرائيلي”حرباً” مفتوحة على الاحتمالات كافة، للجنود فيها “حرية” الارتكاب والانتهاك، التي تتراوح بين القتل واللعب الإباحي، كأن “مساحة الحرب” خارج نطاق القانون الإسرائيلي نفسه، الذي يتحرر الجندي منه، فـ”الأعداء” ليسوا بشراً بل “حيوانات”، ومساحة “حياتهم” مفتوحة للاستثمار الرأسمالي والمخيلة الإباحيّة، أثناء فعل القتل وبعده.

27.06.2024
زمن القراءة: 8 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية