fbpx

“هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”: شبح الثورة المصريّة الذي ما زال يطارد الديكتاتور

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ضمن ملف “هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”، يناقش عبد الله بكر مآلات الثورة المصريّة، ورعب السيسي من ثورة أخرى، خصوصاً أنه خليفة عسكريّ أشد قمعاً، من الديكتاتور العسكريّ الذي سبقه، مرتدياً قناع الأبّ وحامي الأسرة وباعث أمجاد الفراعنة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في كتابه How madness shaped the modern history، يحمل كريستوفر فيرجسون حجة ذات وجاهة، وهي أن جنون الحكام ليس منفصلاً عن جنون الجماهير، الذي يُعرِّفه بأنه سيطرة لحظة غير عقلانية تحكمها الهيستيريا الجماعية، بخاصة في أوقات التوتر وعدم اليقين والأزمات، وأن الآليات النفسية نفسها التي قد تؤدي بالأفراد إلى فقدان قبضتهم على الواقع، يمكن أن تعمل أيضاً على المستوى الجماعي.

 لكن ما يحدث أن ينهض من بين الشعوب رجل قوي لحل الأزمة، يحمل سمات اضطراب الجماهير نفسها، كأنه المرآة والمحصلة النهائية للجنون الجماعي. لكن ما تحصل عليه الشعوب أشبه برمية نرد قد تجيء بالإسكندر الأكبر (أو حاكم رغم جنونه أو بسببه، يوحّد الأمة فعلاً في لحظات تعرّضها للتمزق) أو كاليجولا الذي أطلق عهداً مروعاً من الإرهاب قبل اغتياله.

في الحالتين، كان الديكتاتور رغم اختلاف النتائج، يحمل طيفاً من أطياف الجنون والاضطراب العقلي. رغم أننا نعيش في عصر لم يعد يرى ملوكه فوقه، ورغم ما هو معروف من أن أطياف الاضطراب العقلي ليست بالضرورة صفة سلبية بشكل عام للأفراد، وإذا ما ارتبطت بالقادة والحكام قد تعينهم أحياناً على اتخاذ قرارات حازمة ومنقذة في أوقات الأزمات، إلا أن عالمنا العربي الذي لم يطور مفهوم العقد الاجتماعي بعيداً من أهواء حكامه المستبدّين، ليس بإمكانه تحجيم الآثار السلبية لخلل النرجسية أو جنون العظمة، فيظل محكوماً برمية نرد تصب في اتجاه واحد: أن تحصل على كاليجولا يدعي أنه الإسكندر. أو على الأقل ذلك هو الوعد الذي اعتاد حكامنا العرب تقديمه لتأسيس شرعيتهم.

رئيس عسكري استبدادي

إذا كانت هناك محصلة واضحة لثورات الربيع العربي، أو بالأحرى هزيمتها إذا إما اعتبرنا الهزيمة هي الفصل الأخير في حكاية ثورة يناير التي تنهي القصة كمأساة، فهي صعود رئيس عسكري إلى السلطة مجدداً، لكن أكثر راديكالية في استبداده ممن سبقوه.

رئيس بدا للغالبية من شعبه، في تلك اللحظة، رجلاً قوياً قادراً على حسم الاضطراب والفوضى اللذين خلفتهما الثورة، ووصول الإخوان إلى الحكم، ووصول البلاد إلى شفا حفرة من التمزق والاستقطاب، أزمة لا تتحملها الثورة والإخوان وحدهما من دون أن يعفيهما ذلك من تحمّلها أيضاً. بل تقر الحكمة بأثر رجعي-  والتي لا تدلنا على خلاص حقيقي قدر ما تشير إلى سذاجة تفكير سابق-  هو أن الثورة المضادة التي قادتها الدولة العميقة من خلف ستار، في تحالفها مع رجال عهد مبارك من سياسيين ورجال أعمال وعاملين بالإعلام وتحت قيادة كوادر جديدة (السيسي بديلاً للمشير طنطاوي)، قد سعت الى تعميق هذا الاستقطاب، لصالح استعادة النظام الذي ضحى برأسه القديم لحماية جسده. بطريقة ما، الرئيس السيسي مدين لثورة 25 يناير في صعوده إلى السلطة، فلولا شرعية تغيير الحاكم عبر الميدان لما طمح الى التفكير في الوصول إلى رأس السلطة في مصر.

أعادت الثورة المضادة استخدام آليات يناير نفسها للتخلص من الإخوان، لكن بمباركة من الجيش والشرطة، ثورة تستنسخها السلطة لن تكون بالتأكيد إلا تكراراً للتاريخ كمهزلة، وتفريغ حدث نادر وأصيل من معناه، لصالح نسخة كاريكاتورية مبهرجة تعتمد على المبالغة في الحشد، بل ولم تفتقر إلى التصوير السينمائي عبر طائرات الجيش وكاميرات المخرج خالد يوسف.

الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أيضاً، أن السيسي لم يصل إلى الحكم قسراً، بل عبر رغبة شعبية جارفة، احتمت بالدبابات، وبالعكس، وعبر ثورة لم تكن موجّهة ضد الإخوان وحدهم، بل ضد يناير أيضاً، لأن ثوّارها فشلوا ببساطة. تبنّى الناس خطاب السيسي، لأنه بالأساس كان مستشرياً بينهم، ولم يكن نظام الحكم الحالي إلا انعكاسه، وقد تجلّى في صورة الرئيس.

انتهت الثورة اﻵن، ليس فقط على أرض الواقع وبحكم انتصار السلاح والتأييد الشعبي، لكن أيضاً من مخيلة صانعيها، ورغم ذلك ما زالت هي محور أحاديث وخطب شخص واحد فقط، هو الرئيس، كشبح لشيء غير موجود، لا يكاد أن يفوت خطاباً من دون أن يذكرها ويحذر من حدوثها مرة أخرى، وهو أمر عجيب، إذ لا تبدو الثورة اﻵن، رغم ارتفاع وتيرة الخراب الاقتصادي بشكل يفوق ما قامت الثورة ضده، خياراً لأحد، ليس فقط ﻷن الشعوب جربت الرد العنيف للسلطات الذي فاق في تغوله كل حدود المنطق، لكن ربما ﻷن من شاركوا في صنعها أنفسهم، يحملون في أعناقهم ذنب الإتيان بمستبد جديد أكثر عنفواناً محل القديم، أو أنهم منهكون ببساطة. انتصار لم يعد في حاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة، ومع ذلك ما زال الرئيس يطلق رصاصاته.

إذا كانت هناك محصلة واضحة لثورات الربيع العربي، أو بالأحرى هزيمتها إذا إما اعتبرنا الهزيمة هي الفصل الأخير في حكاية ثورة يناير التي تنهي القصة كمأساة، فهي صعود رئيس عسكري إلى السلطة مجدداً، لكن أكثر راديكالية في استبداده ممن سبقوه.

خطابات وأقوال متناقضة

في 25 كانون الثاني/ يناير 2022، ألقى الرئيس السيسي خطاباً في احتفال وزارة الداخلية المصرية بعيد الشرطة الـ69، والذي تزامن مع الذكرى الحادية عشرة لثورة يناير 2011. وقال في كلمته: “يصادف هذا اليوم ذكرى ثورة 25 يناير التي يقودها شباب مخلص وطموح من أجل مستقبل وواقع أفضل. وأقول لشباب مصر إن بلدكم بحاجة إلى جهودكم وأيديكم لاستكمال مسيرة البناء والتنمية وتحقيق آمال المصريين في توفير فرص متكافئة لحياة كريمة”.

لكن هذا الثناء المقتضب يتناقض مع مواقفه الأخيرة المنتقدة لثورة يناير. ففي 28 كانون الأول/ ديسمبر 2021، هاجمها قائلاً إنه “لن ينسى عام 2011 ويجب ألا ينساه المصريون أبداً في كل إجراء يتخذونه وكل خطوة يتحركون بها”. وسأل: “هل تعلم لماذا كان بلدك على وشك أن يدمر ويفقد في عام 2011؟”.

وأضاف آنذاك مخاطباً المصريين: “الله وحده هو الذي أنقذكم وأنقذ البلاد من الدمار والخراب من أجل 100 مليون شخص، الفقراء والبسطاء من أجل الحكمة الإلهية”. وتساءل: “إذن هل نكرر نفس المسار مرة أخرى؟ لا والله. هل الكلام ده يزعلكم إني بحاجي عليكم وخايف عليكم من الضياع؟، تزعلوا مني؟ سواء كان مسؤولين أو ناس ماسكين شركات ده كلام؟، متزعلش إلا من نفسك إنك تكون سبب في دمار بلدك وخرابها”، وفق قوله.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، هاجم السيسي ثورة يناير قائلاً: “ما حدث في 2011 هو علاج خاطئ لتشخيص خاطئ، فالبعض قدم للناس صورة عن أن التغيير من الممكن أن يحدث بهذه الطريقة، وأن هناك عصا سحرية ستحل المشكلات”. أما في أيلول/ سبتمبر 2019، فوصف السيسي ثورة يناير بأنها مؤامرة ضد وزارة الداخلية والدفاع، قائلاً: “المؤامرة التي حدثت في 2011 كانت على وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، لأن من يريد ضرب مصر لا بد أن يبدأ بهما”.

ربما ظنّ الرئيس أنه منح في بداية حكمه، شيكاً على بياض من الشعب نفسه، لأنه، وهذا ما كشفت عنه الخطب اللاحقة التي تحدث فيها بنفسه عن نفسه، اعتبر ذلك ليس تفويضاً شعبياً فقط بل إلهياً أيضاً. إذ تحدث مباشرة عن الملك الإلهي، وربط نفسه بالنبي سليمان، لكنه نسي أنه فُوض حقاً من الشعب، لا الله، بناء على عقد غير مكتوب. افعل ما شئت مقابل أن تستعيد دولة قوية حتى لو استخدمت البطش والقتل والاعتقال. كان التفويض مقابل شيء واضح: الاستقرار الاقتصادي والسياسي، بينما رأى فيه المثقفون، بخاصة من جيل الستينات، عبد الناصر جديداً، صورة لمستبد عادل يحقق الإنجازات بمنطق عودة المكبوت لفرويد،المستبد الذي يعرفونه والذي ظل كامناً طويلاً في نفوسهم، حتى من راجعوا موقفهم من الرئيس، وهم قلة، من بينهم الروائي صنع الله إبراهيم، فعلوها بمنطق أنه لم يطابق الأصل الأبوي في المخيلة، أو بكلمات ماركسية تنظيمية لأنه خالف النظرية.

رب عائلة سلطوي

رأى الشعب في السيسي أباً سلطوياً مستبداً، أقرب إلى رب الأسرة فعلاً، هو القادر وحده، عبر العودة إلى قيم العائلة الكلاسيكية والحزم، أن يقمع كل انفلات، بديلاً عن الأب مبارك، الذي طولبنا في الثورة أن نعتبره “أبونا”، والذي كانت خطيئته تراخيه في سنواته الأخيرة، رغم أن ذلك لم يكن حقيقياً، بل إن ما أبقاه على عرشه ثلاثين عاماً هو التراخي المحسوب لصنع توازنات كارتونية، وما أطاح به كان نسيانه رائحة البارود التي اغتالت السادات، والتي حكمت الكثير من تصوراته عن إدارة السلطة.

كانت لحظة مثالية للفاشية، فالرئيس الذي مهد لحكمه بأسطورة أسر قائد الأسطول السادس الأميركي، واختراع جهاز لمعالجة الإيدز، كان من الطبيعي أن تصعد في عهده مفاهيم متطرفة.

وبحسب فيلهيلم رايش في كتابه “سيكولوجية الجماهير الفاشية”، فإن الشخصية التي تتوق الى الاستبداد، نشأت في الأساس في أسر مستبدة كنموذج اجتماعي يقوم على السلطة والطاعة والقمع، وينشئ أفراداً مطيعين وخاضعين، وقد زثرع في داخلهم شعور بالذنب والخوف قائم على تثبيط الرغبات، كما فعلت الثورة، التي كانت بمثابة إعادة إطلاق لكل ما ظلّ مقموعاً.

ربما كان أحد أهم أركان شرعية الديكتاتور الجديدة، أو وعوده، اجتثاث كل أثر لدولة لا تخضع إلا لسيادتها الوطنية، وكل ما قاد البلد الى الفوضى والضياع والتدخّلات من “الغرباء” بحسب الخطاب المتبادل بين الجماهير والسلطة، مُسترجعاً كل بلاغة اليمين العالمي حول هوية وطنية. عززتها خطابات فنانين مثل محمد صبحي: “اقفل علينا يا ريّس”.

تفشّت موجة من الشك في الأجانب المقيمين في مصر، بوصفهم جواسيس، أما الناشطون والثوّار فهم جزء من مؤامرة خارجية. فيما اعتُبر اللاجئون السوريون وغيرهم دُخلاء مسؤولين عن البطالة. وأحدث الاتهامات الموجهة إليهم اليوم، المساهمة في رفع سعر الدولار عبر تهريبه، رغم أن مصر على المستوى الرسمي تعدّ مكاناً يعمل حقيقةً على دمج اللاجئين بشكل أسهل من دول أخرى.

 ظهرت أيضاً دعوات قومية تدعو الى العودة الى مصر الفرعونية، وتنكر أي انتماء عروبي أو أفريقي، وتبدو أقرب الى أفكار اليمين المتطرف في خطابها، وترفض أساساً وجود الآخر، لذا يتفق كل من “أبناء كيميت” و”القوميون الجدد” في خطابهم، على رفض وجود اللاجئين، وضرورة ترحيلهم إلى أوطانهم.

حتى الإعلام كان هدفاً

الإعلام تم تأميمه من جهات سيادية، وتحدّث الرئيس عن خطاب موحّد، يُعامل الشعب بوصفه كتله متّسقة تخدم هدفاً واحداً.  فيما سيطر الجيش على الاقتصاد الى درجة قاربت الاحتكار، وأضرّ بالقطاع الخاص من المدخل نفسه، أي استعادة “الدولة الوطنية”.

نسي الرئيس أنه لم يحصل على تفويض مجاني، وأن المفوض لم يكن الله، بل الشعب، الذي رأى فيه حلاً للإنقاذ، فمنحه كل الأدوار بالنيابة، الأبوة بوصفها سلطة قادرة قد تتخلى عن الرحمة لصالح الاستقرار والرخاء، أب قوي قادر على أن يرتكب مذبحة لا يستطيع الشعب أن يرتكبها بنفسه، أن يتقدم لحمل ذلك الوزر عنهم، وهو ما انعكس في خطابات الرئيس الأولى التي حملت عبارات مثل “ذلك الشعب لم يجد من يحنو عليه”، ” إنتوا مش عارفين إن إنتوا نور عينينا ولا إيه”، لكن ذلك كان وعداً هامشياً، فيما كان الوعد الأساسي أن تتحسن الأمور بعد اليأس من حلول الثورة وصناديق الانتخابات.

تبدّل الخطاب من الحنان إلى الإهانة، من موقع المتغطرس الذي سيطر على كل الأمور كرب العائلة، وحمّلهم مسؤولية الأخطاء كلها، ساخراً من كل تصرفاتهم وسلوكهم وطرق تفكيرهم، ثم واصل الإهانة والشراسة بعد انكشاف كذب الوعود، لكن من موقع الدفاع عن النفس.

لم يعد الرئيس في نظر شعبه، أباً أو حامياً أو زعيماً كما توهم. وحلوله لم تهدف الى إرضاء شعب لم يجد من ” يحنو عليه”، بل الى إذكاء نرجسية خطاب التفويض الإلهي.

الغريب، أن النظام المصري الذي بدا أنه حرر نفسه من أي التزامات تجاه شعبه أو المجتمع الدولي أو منظمات المجتمع المدني، يجد نفسه الآن مضطراً إلى الاستجابة لإجراء تعديلات داخلية، لكن ليس بسبب الثورة أو المعارضة، بل بسبب ضغط أنظمة الخليج وصندوق النقد الدولي.

ومن أسباب فشل الاقتصاد المصري عموماً، عسكرة الاقتصاد، فعندما آل الأمر بالنظام إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي مجدداً، ضغط عليه الأخير بقوة لإخراج الجيش من الاقتصاد، وكذلك تعويم العملة الوطنية، وبيع أصول شركات مصرية لمستثمرين عرب وأجانب.

أي بمعنى ما، خضعت دولة السيسي الوطنية للغريب، الذي كان مسؤولاً، بحسب وجهة نظر الدولة، عن التآمر عليها، رغم كل ادعاءاتها عن نفسها، فوافقت على شروط مراقبة ومتابعة قد تمتد الى أربع سنوات مقبلة، من بينها شفافية التقارير وإبطاء وتيرة المشاريع القومية التي لم تثبت جدواها. بل أعلنت تلك الشروط بوضوح خطأ السياسات الاقتصادية السابقة، وأن الأزمة الاقتصادية المصرية سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، على عكس ما يكرر إعلام الدولة، وكل ما فعلته الحرب هو بلورة المشكلة.

سبق هذا، إطلاق الرئيس السيسي مبادرة الحوار الوطني، وهي مبادرة قد تكون مسرحية الطابع، لكنها أسفرت عن الإفراج والعفو عن عشرات المعتقلين السياسيين، سواء ممن لم يتعرّضوا لمحاكمة، أو أدينوا بأحكام سجن طويلة. وعلى رغم أن مئات المعتقلين لم يُفرج عنهم بعد، وما زالوا أشبه برهائن، إلا أن تلك المبادرة لم تحدث إلا تمهيداً للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، وإقناع الدول المتحكّمة فيه بمنح مصر القرض.

إنها مفارقة كبيرة أن ينجح صندوق النقد الدولي، سيئ السمعة، في تحقيق ما لم تنجح فيه الثورة والثوار. خضوع الدولة “الوطنية” يحدث الآن رغماً عنها وعن الجميع، لكن هذه المرة بلا وعود، أو حرية، أو ديمقراطية. هذا ما حصلنا عليه في رمية النرد: أزمات وإملاءات اقتصادية وسياسية، من دون أي صورة لعالم أفضل، بعد فشل وعود الرئيس الاقتصادية بشكل واضح وتغير مزاج الشعب مع استسلام لا يشي بثورة أخرى بسبب تروما الثورات السابقة، بما فيها ما أصاب ثوريين سابقين، وبسبب الرهان على قوام الدولة المتماسكة حتى مع ارتفاع وتيرة الخراب الاقتصادي.

مع ذلك، ما زال الرئيس في خطبه يوجه أصابع الاتهام بوضوح إلى ثورة يناير التي لم تعد سوى ذكرى، ولا يفوت فرصة للتحذير من القيام بها مرة ثانية ضده. تضخم الثورة في خيال الرئيس هو دليل على إدراكه لما يحدث وإنكاره في الوقت نفسه. نصبح هنا أمام هزيمتين: هزيمة الربيع العربي التي أظنها مستحقة بسبب عدم النضج السياسي، وهزيمة الثورة المضادة أمام نفسها.

26.06.2023
زمن القراءة: 9 minutes

ضمن ملف “هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”، يناقش عبد الله بكر مآلات الثورة المصريّة، ورعب السيسي من ثورة أخرى، خصوصاً أنه خليفة عسكريّ أشد قمعاً، من الديكتاتور العسكريّ الذي سبقه، مرتدياً قناع الأبّ وحامي الأسرة وباعث أمجاد الفراعنة.

في كتابه How madness shaped the modern history، يحمل كريستوفر فيرجسون حجة ذات وجاهة، وهي أن جنون الحكام ليس منفصلاً عن جنون الجماهير، الذي يُعرِّفه بأنه سيطرة لحظة غير عقلانية تحكمها الهيستيريا الجماعية، بخاصة في أوقات التوتر وعدم اليقين والأزمات، وأن الآليات النفسية نفسها التي قد تؤدي بالأفراد إلى فقدان قبضتهم على الواقع، يمكن أن تعمل أيضاً على المستوى الجماعي.

 لكن ما يحدث أن ينهض من بين الشعوب رجل قوي لحل الأزمة، يحمل سمات اضطراب الجماهير نفسها، كأنه المرآة والمحصلة النهائية للجنون الجماعي. لكن ما تحصل عليه الشعوب أشبه برمية نرد قد تجيء بالإسكندر الأكبر (أو حاكم رغم جنونه أو بسببه، يوحّد الأمة فعلاً في لحظات تعرّضها للتمزق) أو كاليجولا الذي أطلق عهداً مروعاً من الإرهاب قبل اغتياله.

في الحالتين، كان الديكتاتور رغم اختلاف النتائج، يحمل طيفاً من أطياف الجنون والاضطراب العقلي. رغم أننا نعيش في عصر لم يعد يرى ملوكه فوقه، ورغم ما هو معروف من أن أطياف الاضطراب العقلي ليست بالضرورة صفة سلبية بشكل عام للأفراد، وإذا ما ارتبطت بالقادة والحكام قد تعينهم أحياناً على اتخاذ قرارات حازمة ومنقذة في أوقات الأزمات، إلا أن عالمنا العربي الذي لم يطور مفهوم العقد الاجتماعي بعيداً من أهواء حكامه المستبدّين، ليس بإمكانه تحجيم الآثار السلبية لخلل النرجسية أو جنون العظمة، فيظل محكوماً برمية نرد تصب في اتجاه واحد: أن تحصل على كاليجولا يدعي أنه الإسكندر. أو على الأقل ذلك هو الوعد الذي اعتاد حكامنا العرب تقديمه لتأسيس شرعيتهم.

رئيس عسكري استبدادي

إذا كانت هناك محصلة واضحة لثورات الربيع العربي، أو بالأحرى هزيمتها إذا إما اعتبرنا الهزيمة هي الفصل الأخير في حكاية ثورة يناير التي تنهي القصة كمأساة، فهي صعود رئيس عسكري إلى السلطة مجدداً، لكن أكثر راديكالية في استبداده ممن سبقوه.

رئيس بدا للغالبية من شعبه، في تلك اللحظة، رجلاً قوياً قادراً على حسم الاضطراب والفوضى اللذين خلفتهما الثورة، ووصول الإخوان إلى الحكم، ووصول البلاد إلى شفا حفرة من التمزق والاستقطاب، أزمة لا تتحملها الثورة والإخوان وحدهما من دون أن يعفيهما ذلك من تحمّلها أيضاً. بل تقر الحكمة بأثر رجعي-  والتي لا تدلنا على خلاص حقيقي قدر ما تشير إلى سذاجة تفكير سابق-  هو أن الثورة المضادة التي قادتها الدولة العميقة من خلف ستار، في تحالفها مع رجال عهد مبارك من سياسيين ورجال أعمال وعاملين بالإعلام وتحت قيادة كوادر جديدة (السيسي بديلاً للمشير طنطاوي)، قد سعت الى تعميق هذا الاستقطاب، لصالح استعادة النظام الذي ضحى برأسه القديم لحماية جسده. بطريقة ما، الرئيس السيسي مدين لثورة 25 يناير في صعوده إلى السلطة، فلولا شرعية تغيير الحاكم عبر الميدان لما طمح الى التفكير في الوصول إلى رأس السلطة في مصر.

أعادت الثورة المضادة استخدام آليات يناير نفسها للتخلص من الإخوان، لكن بمباركة من الجيش والشرطة، ثورة تستنسخها السلطة لن تكون بالتأكيد إلا تكراراً للتاريخ كمهزلة، وتفريغ حدث نادر وأصيل من معناه، لصالح نسخة كاريكاتورية مبهرجة تعتمد على المبالغة في الحشد، بل ولم تفتقر إلى التصوير السينمائي عبر طائرات الجيش وكاميرات المخرج خالد يوسف.

الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أيضاً، أن السيسي لم يصل إلى الحكم قسراً، بل عبر رغبة شعبية جارفة، احتمت بالدبابات، وبالعكس، وعبر ثورة لم تكن موجّهة ضد الإخوان وحدهم، بل ضد يناير أيضاً، لأن ثوّارها فشلوا ببساطة. تبنّى الناس خطاب السيسي، لأنه بالأساس كان مستشرياً بينهم، ولم يكن نظام الحكم الحالي إلا انعكاسه، وقد تجلّى في صورة الرئيس.

انتهت الثورة اﻵن، ليس فقط على أرض الواقع وبحكم انتصار السلاح والتأييد الشعبي، لكن أيضاً من مخيلة صانعيها، ورغم ذلك ما زالت هي محور أحاديث وخطب شخص واحد فقط، هو الرئيس، كشبح لشيء غير موجود، لا يكاد أن يفوت خطاباً من دون أن يذكرها ويحذر من حدوثها مرة أخرى، وهو أمر عجيب، إذ لا تبدو الثورة اﻵن، رغم ارتفاع وتيرة الخراب الاقتصادي بشكل يفوق ما قامت الثورة ضده، خياراً لأحد، ليس فقط ﻷن الشعوب جربت الرد العنيف للسلطات الذي فاق في تغوله كل حدود المنطق، لكن ربما ﻷن من شاركوا في صنعها أنفسهم، يحملون في أعناقهم ذنب الإتيان بمستبد جديد أكثر عنفواناً محل القديم، أو أنهم منهكون ببساطة. انتصار لم يعد في حاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة، ومع ذلك ما زال الرئيس يطلق رصاصاته.

إذا كانت هناك محصلة واضحة لثورات الربيع العربي، أو بالأحرى هزيمتها إذا إما اعتبرنا الهزيمة هي الفصل الأخير في حكاية ثورة يناير التي تنهي القصة كمأساة، فهي صعود رئيس عسكري إلى السلطة مجدداً، لكن أكثر راديكالية في استبداده ممن سبقوه.

خطابات وأقوال متناقضة

في 25 كانون الثاني/ يناير 2022، ألقى الرئيس السيسي خطاباً في احتفال وزارة الداخلية المصرية بعيد الشرطة الـ69، والذي تزامن مع الذكرى الحادية عشرة لثورة يناير 2011. وقال في كلمته: “يصادف هذا اليوم ذكرى ثورة 25 يناير التي يقودها شباب مخلص وطموح من أجل مستقبل وواقع أفضل. وأقول لشباب مصر إن بلدكم بحاجة إلى جهودكم وأيديكم لاستكمال مسيرة البناء والتنمية وتحقيق آمال المصريين في توفير فرص متكافئة لحياة كريمة”.

لكن هذا الثناء المقتضب يتناقض مع مواقفه الأخيرة المنتقدة لثورة يناير. ففي 28 كانون الأول/ ديسمبر 2021، هاجمها قائلاً إنه “لن ينسى عام 2011 ويجب ألا ينساه المصريون أبداً في كل إجراء يتخذونه وكل خطوة يتحركون بها”. وسأل: “هل تعلم لماذا كان بلدك على وشك أن يدمر ويفقد في عام 2011؟”.

وأضاف آنذاك مخاطباً المصريين: “الله وحده هو الذي أنقذكم وأنقذ البلاد من الدمار والخراب من أجل 100 مليون شخص، الفقراء والبسطاء من أجل الحكمة الإلهية”. وتساءل: “إذن هل نكرر نفس المسار مرة أخرى؟ لا والله. هل الكلام ده يزعلكم إني بحاجي عليكم وخايف عليكم من الضياع؟، تزعلوا مني؟ سواء كان مسؤولين أو ناس ماسكين شركات ده كلام؟، متزعلش إلا من نفسك إنك تكون سبب في دمار بلدك وخرابها”، وفق قوله.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، هاجم السيسي ثورة يناير قائلاً: “ما حدث في 2011 هو علاج خاطئ لتشخيص خاطئ، فالبعض قدم للناس صورة عن أن التغيير من الممكن أن يحدث بهذه الطريقة، وأن هناك عصا سحرية ستحل المشكلات”. أما في أيلول/ سبتمبر 2019، فوصف السيسي ثورة يناير بأنها مؤامرة ضد وزارة الداخلية والدفاع، قائلاً: “المؤامرة التي حدثت في 2011 كانت على وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، لأن من يريد ضرب مصر لا بد أن يبدأ بهما”.

ربما ظنّ الرئيس أنه منح في بداية حكمه، شيكاً على بياض من الشعب نفسه، لأنه، وهذا ما كشفت عنه الخطب اللاحقة التي تحدث فيها بنفسه عن نفسه، اعتبر ذلك ليس تفويضاً شعبياً فقط بل إلهياً أيضاً. إذ تحدث مباشرة عن الملك الإلهي، وربط نفسه بالنبي سليمان، لكنه نسي أنه فُوض حقاً من الشعب، لا الله، بناء على عقد غير مكتوب. افعل ما شئت مقابل أن تستعيد دولة قوية حتى لو استخدمت البطش والقتل والاعتقال. كان التفويض مقابل شيء واضح: الاستقرار الاقتصادي والسياسي، بينما رأى فيه المثقفون، بخاصة من جيل الستينات، عبد الناصر جديداً، صورة لمستبد عادل يحقق الإنجازات بمنطق عودة المكبوت لفرويد،المستبد الذي يعرفونه والذي ظل كامناً طويلاً في نفوسهم، حتى من راجعوا موقفهم من الرئيس، وهم قلة، من بينهم الروائي صنع الله إبراهيم، فعلوها بمنطق أنه لم يطابق الأصل الأبوي في المخيلة، أو بكلمات ماركسية تنظيمية لأنه خالف النظرية.

رب عائلة سلطوي

رأى الشعب في السيسي أباً سلطوياً مستبداً، أقرب إلى رب الأسرة فعلاً، هو القادر وحده، عبر العودة إلى قيم العائلة الكلاسيكية والحزم، أن يقمع كل انفلات، بديلاً عن الأب مبارك، الذي طولبنا في الثورة أن نعتبره “أبونا”، والذي كانت خطيئته تراخيه في سنواته الأخيرة، رغم أن ذلك لم يكن حقيقياً، بل إن ما أبقاه على عرشه ثلاثين عاماً هو التراخي المحسوب لصنع توازنات كارتونية، وما أطاح به كان نسيانه رائحة البارود التي اغتالت السادات، والتي حكمت الكثير من تصوراته عن إدارة السلطة.

كانت لحظة مثالية للفاشية، فالرئيس الذي مهد لحكمه بأسطورة أسر قائد الأسطول السادس الأميركي، واختراع جهاز لمعالجة الإيدز، كان من الطبيعي أن تصعد في عهده مفاهيم متطرفة.

وبحسب فيلهيلم رايش في كتابه “سيكولوجية الجماهير الفاشية”، فإن الشخصية التي تتوق الى الاستبداد، نشأت في الأساس في أسر مستبدة كنموذج اجتماعي يقوم على السلطة والطاعة والقمع، وينشئ أفراداً مطيعين وخاضعين، وقد زثرع في داخلهم شعور بالذنب والخوف قائم على تثبيط الرغبات، كما فعلت الثورة، التي كانت بمثابة إعادة إطلاق لكل ما ظلّ مقموعاً.

ربما كان أحد أهم أركان شرعية الديكتاتور الجديدة، أو وعوده، اجتثاث كل أثر لدولة لا تخضع إلا لسيادتها الوطنية، وكل ما قاد البلد الى الفوضى والضياع والتدخّلات من “الغرباء” بحسب الخطاب المتبادل بين الجماهير والسلطة، مُسترجعاً كل بلاغة اليمين العالمي حول هوية وطنية. عززتها خطابات فنانين مثل محمد صبحي: “اقفل علينا يا ريّس”.

تفشّت موجة من الشك في الأجانب المقيمين في مصر، بوصفهم جواسيس، أما الناشطون والثوّار فهم جزء من مؤامرة خارجية. فيما اعتُبر اللاجئون السوريون وغيرهم دُخلاء مسؤولين عن البطالة. وأحدث الاتهامات الموجهة إليهم اليوم، المساهمة في رفع سعر الدولار عبر تهريبه، رغم أن مصر على المستوى الرسمي تعدّ مكاناً يعمل حقيقةً على دمج اللاجئين بشكل أسهل من دول أخرى.

 ظهرت أيضاً دعوات قومية تدعو الى العودة الى مصر الفرعونية، وتنكر أي انتماء عروبي أو أفريقي، وتبدو أقرب الى أفكار اليمين المتطرف في خطابها، وترفض أساساً وجود الآخر، لذا يتفق كل من “أبناء كيميت” و”القوميون الجدد” في خطابهم، على رفض وجود اللاجئين، وضرورة ترحيلهم إلى أوطانهم.

حتى الإعلام كان هدفاً

الإعلام تم تأميمه من جهات سيادية، وتحدّث الرئيس عن خطاب موحّد، يُعامل الشعب بوصفه كتله متّسقة تخدم هدفاً واحداً.  فيما سيطر الجيش على الاقتصاد الى درجة قاربت الاحتكار، وأضرّ بالقطاع الخاص من المدخل نفسه، أي استعادة “الدولة الوطنية”.

نسي الرئيس أنه لم يحصل على تفويض مجاني، وأن المفوض لم يكن الله، بل الشعب، الذي رأى فيه حلاً للإنقاذ، فمنحه كل الأدوار بالنيابة، الأبوة بوصفها سلطة قادرة قد تتخلى عن الرحمة لصالح الاستقرار والرخاء، أب قوي قادر على أن يرتكب مذبحة لا يستطيع الشعب أن يرتكبها بنفسه، أن يتقدم لحمل ذلك الوزر عنهم، وهو ما انعكس في خطابات الرئيس الأولى التي حملت عبارات مثل “ذلك الشعب لم يجد من يحنو عليه”، ” إنتوا مش عارفين إن إنتوا نور عينينا ولا إيه”، لكن ذلك كان وعداً هامشياً، فيما كان الوعد الأساسي أن تتحسن الأمور بعد اليأس من حلول الثورة وصناديق الانتخابات.

تبدّل الخطاب من الحنان إلى الإهانة، من موقع المتغطرس الذي سيطر على كل الأمور كرب العائلة، وحمّلهم مسؤولية الأخطاء كلها، ساخراً من كل تصرفاتهم وسلوكهم وطرق تفكيرهم، ثم واصل الإهانة والشراسة بعد انكشاف كذب الوعود، لكن من موقع الدفاع عن النفس.

لم يعد الرئيس في نظر شعبه، أباً أو حامياً أو زعيماً كما توهم. وحلوله لم تهدف الى إرضاء شعب لم يجد من ” يحنو عليه”، بل الى إذكاء نرجسية خطاب التفويض الإلهي.

الغريب، أن النظام المصري الذي بدا أنه حرر نفسه من أي التزامات تجاه شعبه أو المجتمع الدولي أو منظمات المجتمع المدني، يجد نفسه الآن مضطراً إلى الاستجابة لإجراء تعديلات داخلية، لكن ليس بسبب الثورة أو المعارضة، بل بسبب ضغط أنظمة الخليج وصندوق النقد الدولي.

ومن أسباب فشل الاقتصاد المصري عموماً، عسكرة الاقتصاد، فعندما آل الأمر بالنظام إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي مجدداً، ضغط عليه الأخير بقوة لإخراج الجيش من الاقتصاد، وكذلك تعويم العملة الوطنية، وبيع أصول شركات مصرية لمستثمرين عرب وأجانب.

أي بمعنى ما، خضعت دولة السيسي الوطنية للغريب، الذي كان مسؤولاً، بحسب وجهة نظر الدولة، عن التآمر عليها، رغم كل ادعاءاتها عن نفسها، فوافقت على شروط مراقبة ومتابعة قد تمتد الى أربع سنوات مقبلة، من بينها شفافية التقارير وإبطاء وتيرة المشاريع القومية التي لم تثبت جدواها. بل أعلنت تلك الشروط بوضوح خطأ السياسات الاقتصادية السابقة، وأن الأزمة الاقتصادية المصرية سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، على عكس ما يكرر إعلام الدولة، وكل ما فعلته الحرب هو بلورة المشكلة.

سبق هذا، إطلاق الرئيس السيسي مبادرة الحوار الوطني، وهي مبادرة قد تكون مسرحية الطابع، لكنها أسفرت عن الإفراج والعفو عن عشرات المعتقلين السياسيين، سواء ممن لم يتعرّضوا لمحاكمة، أو أدينوا بأحكام سجن طويلة. وعلى رغم أن مئات المعتقلين لم يُفرج عنهم بعد، وما زالوا أشبه برهائن، إلا أن تلك المبادرة لم تحدث إلا تمهيداً للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، وإقناع الدول المتحكّمة فيه بمنح مصر القرض.

إنها مفارقة كبيرة أن ينجح صندوق النقد الدولي، سيئ السمعة، في تحقيق ما لم تنجح فيه الثورة والثوار. خضوع الدولة “الوطنية” يحدث الآن رغماً عنها وعن الجميع، لكن هذه المرة بلا وعود، أو حرية، أو ديمقراطية. هذا ما حصلنا عليه في رمية النرد: أزمات وإملاءات اقتصادية وسياسية، من دون أي صورة لعالم أفضل، بعد فشل وعود الرئيس الاقتصادية بشكل واضح وتغير مزاج الشعب مع استسلام لا يشي بثورة أخرى بسبب تروما الثورات السابقة، بما فيها ما أصاب ثوريين سابقين، وبسبب الرهان على قوام الدولة المتماسكة حتى مع ارتفاع وتيرة الخراب الاقتصادي.

مع ذلك، ما زال الرئيس في خطبه يوجه أصابع الاتهام بوضوح إلى ثورة يناير التي لم تعد سوى ذكرى، ولا يفوت فرصة للتحذير من القيام بها مرة ثانية ضده. تضخم الثورة في خيال الرئيس هو دليل على إدراكه لما يحدث وإنكاره في الوقت نفسه. نصبح هنا أمام هزيمتين: هزيمة الربيع العربي التي أظنها مستحقة بسبب عدم النضج السياسي، وهزيمة الثورة المضادة أمام نفسها.

26.06.2023
زمن القراءة: 9 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية